المَصعَد

شهدت الأيامُ القليلة الفائتة صُعودَ صورةِ الأم العنيدةِ المُكافحة في سبيلِ حريَّة ولدِها إلى سُدَّة المَشهد. الصُّعود مُكللٌّ بالفخار والشَّرف بقدر ما هو عامرٌ بالوجع، أما هبوط غرمائها؛ فمشفُوع بضيق الأفقِ والتصاغُر والبلادة. باتت ليلى أيقونةَ نضالٍ تزدان بها صفحاتُ التاريخ، وأمسى الواقفون على الجانب المُضاد رمزًا أبديًا للتدني وقصور المبادئ والأخلاق.

المَصَعد اسمُ مكان من الفِعل صَعَد أي؛ ارتقى، الفاعلُ صاعدٌ والمَفعول به مَصعودٌ عليه والمَصدر صُعود، وإذا قيل قد صَعدَت روحُ فلانٍ إلى بارئها فإشارةٌ لوفاته؛ ولا يُستخدَم هذا التعبير غالب الأحيان؛ سوى مع مَن طاب ذكرُه في حياته، وترحَّم عليه الناسُ بعد رحيله.

***

لا ينفكُّ المُحلّلون يواصلون حديثَهم حول مرحلةِ تشوُّش وتَخبُّط؛ تكتنفُ مسارَ الولايات المتحدة؛ القطبِ الاقتصادي الأعظم، وتَشي بقربِ اضمحلاله وسُقوطه، كذلك لا ينفكُّ الرئيسُ الأمريكيّ يُلقي بتصريحات؛ يؤكد عبرها مدى الخَلل الذي وَصلت إليه الأمور تحت قيادتِه، ومدى التردّي الذي صار إليه العالمُ على خلفية قراراته المُتفردة، وشطَّاتِه التي أربكت علاقاتٍ مُستقرةً منذ أمد. ليس الأمر مفاجئًا فهذا هو شأن الامبراطورياتِ الكبرى التي تصل ذُروةَ مجدِها في لحظة من الزمان، ولا تلبث أن تتحللَ وتتهاوى مُخلِفةً هزةً عنيفة في محيطها الواسع.

***

مثلت مَصاعد “شندلر” على مدار عقود؛ علامةَ ثقةٍ وجَودة. تأسَّست الشركُة في سويسرا خلال سبعينيات القرن التاسع عشر ولها أفرع في بلدان مُتعددة، ويمتد نشاطها للسَّلالم والأبسِطة المُتحركة. منذ أعوام؛ كنت طرفًا شاهدًا على مُحاولات مُتتالية لتركيب مَصعد في بنايةٍ غير مُعدَّة لوجوده. رفَضَ غالبيةُ السُّكان الأمرَ؛ فالمَصعد الخارجيّ يمثل عبئًا مضافًا على الجدران، وقد يتسبَّب في انهيارها ما توفَّرت الظروفُ الملائمة، أما المؤيدون فتمسكوا بأن مَصعد “شندلر” لا يُمكن أن يُصابَ بسوء. مرَّت الأيامُ وبقي الوَضع على ما هو عليه، يُثار المُقترح مَرة ويجد من يتصدَّى له مرات.

***

قدَّم عددٌ من كِبار المُطربين والمُطربات أغنيةَ “عاشَ الجِيل الصَّاعد عاش“ في مَطلع الستينيات، وقد كتبها حسين السيد ولحنها عبد الوهاب كما غنَّى أحد مقاطعها. الكلماتُ تؤرخ لمرحلةٍ ذات خصائص اجتماعيَّة ونفسيَّة وسياسيَّة شديدة الاختلاف، وغالبُ الظنّ أن قيمَ الجيلِ الصَّاعد في الوقت الراهن قد اختلفت بدورها؛ فهذا أوانٌ التبسَت فيه القيمُ الكبرى وعَجز كثيرون عن تمييز معاني الشَّرف والنخوة، وعن استيعابِ مَفاهيم الكرامةِ والكبرياء. في يومنا هذا، ينشأ أبناءُ الجيلِ الصَّاعد على الخُنوع والتفريط في الحقّ، على فَيضٍ من الأنانية والذاتية وعدم الإحساس بالآخرين، على تفضيل المَصلحة الشخصيَّة دومًا وأبدًا؛ بلا إيثار ولا تسامي ولا تضحيات. ثمَّة مأساةٌ تتجسَّد في الأفق؛ فمستقبلٌ بلا أخلاق ومَبادئ عليا هو جُبٌّ مظلمٌ قاحل، لا يُرجى في مَعيته عدلٌ ولا رخاء.

***

يُعاني بعضُ الأشخاص اضطرابَ الخَوف من الأماكن المُغلقة. يخشون الغرفَ الضيقة ويرتعبون من الوجود داخل مَصعد؛ هو في أنظارهم صندوقٌ صغيرٌ مُوصَد، يتعذَّر الفكاكُ منه ما تطلَّبت الأحوال. بعضُ هؤلاءِ يُفضل استخدامَ قدميه مهمًا كان الطابقُ مرتفعًا، والبعضُ الآخر لا تسعفه لياقته؛ يتجنَّب الموقفَ ما أمكن ويُضطر للمغامرة في قليل الأحيان، ويمكثُ قلقًا مرتعبًا إلى أن تنتهي رحلته بسلام، فيندفع خارجًا من الباب؛ ويُذكر هنا بالطبع فيلم “بين السما والأرض” الذي تقوم فكرته على تعطُّل مَصعد لساعات ونشوء سِلسِلة مُشوقة من التفاعلاتِ بين الرُّكاب.

***

هناك من يَصعد السُّلمَ الاجتماعيّ درجةً تلو أخرى؛ دون أن يعتمد على سُلطَة ونُفوذ أو على مالٍ مَوروث، وهناك هذا الصَّاعد بسُرعة الصَّاروخ، السَّاقط خلال لحظات قِصار. كثيرًا ما يَفتقر الصُّعود السَّريع للتأسيس السَّليم الذي يكفلُ الاستقرارَ والبقاءَ لفترة مُعتبَرة؛ وعلى كل حال يَصعَد قليلُ الناسِ سُلم المَجد، ويفشل كثيرهم في الاقترابِ منه ويكتفي بالادعاءات.

***

تُطلَق على المنطقةِ الجنوبيَّة من مِصر لفظةُ “الصَّعيد“، وهي كلمةٌ مأخوذة فيما يبدو من كون أرضه مُرتفعة بأكثر مما يرتفع شمالُ الوادي. الصَّعيد مثلما استقرَّ في الأذهان مَوطنُ عِزَّة وشهامة وحَمِيَّة، لا يعرف قاطنوه ما لأهلِ المدينة من تَرف وميع ورفاهة، ولإن صَبروا على السُّوء ثم نفد منهم الصَّبر؛ فقومَة لا تُبقي ولا تذر.

***

ذات يوم، سجَّلت العدساتُ رحلة صُعود كلبٍ بلديّ أعلى الهرم بالجيزة. وَصل إلى القمة في خفة ورشاقة ثم هبط بالكيفية ذاتها؛ كأنه في نزهة يومية يروح فيها عن نفسه ويمارس رياضته الأثيرة. تداولت وسائلُ الإعلام صورَ الكلب وبدا من سرعة انتشارها على مواقع التواصُل الاجتماعية وفي وسائلِ الإعلام الأخرى؛ أنه قد روَّج للسياحة كما لم يحدث من قبل. أدى الكلبُ في صُعوده وهبوطِه ما عجزَ عنه بشرٌ ناضجون، يملكون الوسائلَ اللازمة والإمكانات، ويَحظون ولو نظريًا بالقُّدرة على التفكير والتدبير.

***

يصعد سيزيف الجبلَ دافعًا أمامه حجرًا. يهوي الحَجَر حال وصوله للقمَّة من الناحية الأخرى؛ فيعاود البطلُ الإغريقيّ الكرَّة، وتبقى أسطورته حَية؛ ترمز إلى المحاولات العبثية، اللا نهائية، التي لا تنجز شيئًا. كان سيزيف محكومًا بعقوبته السَّرمدية بعدما أغضب الآلهة؛ ولعلنا مَحكومون بحال العبث ذاتها ولأسباب شبيهة؛ لكن التمرُّد على أوضاعنا التي تأزَّمت واستفحلت، يبقى فعلًا بشريًا ممكنًا.

إقرأ على موقع 180  أنجيلا ميركل.. "خاتمة الكبار" في أوروبا

***

كلُّ فِعل يستهدفُ إحرازَ التقدُّم ويسعى لتبديلِ الراكد؛ يتطلب عزمًا وإصرارًا، كما يحتاج إلى شجاعةٍ وجَرأة، وفي هذا يقول الشاعر أبو القاسم الشابيّ:

“إذا ما طمَحت إلى غايةٍ.. ركبت المُنى ونسيت الحَذر.. ولم أتجنَّب وعورَ الشِعاب.. ولا كُبَّةَ اللهبِ المُستعر.. ومَن لا يُحبُ صُعودَ الجبالِ.. يعش أبدَ الدَّهر بين الحُفَر”. 

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أنجيلا ميركل.. "خاتمة الكبار" في أوروبا