وتنوّعت وسائل النقل من “الريكشو” إلى “البوينج”!

ركبت الحمار في إحدى زيارتي المبكرة لريف مصر وأنا بين الطفولة والمراهقة، ركبته لينقلني من عزبة إلى عزبة أخرى. كنت أزامل في مدرستي الإبتدائية كما في الثانوية أطفالا ثم مراهقين من عائلات مالكة لأراضي في وسط وشمال الدلتا. دعيت مرارا من جانب هؤلاء الأهل لقضاء بعض العطلات في عُزَب يملكونها.

 تنقلنا القطارات الكبيرة من القاهرة حتى أقرب مدينة، طنطا مثلا، ومنها نستقل ما كان يعرف مجازا بقطار الدلتا، وهو عبارة عن صندوق خشبي كبير يمر بنا متثاقلا ومترنحا كالمخمور على بلدات صغيرة أو كبيرة، أو يتوقف عندها ليفرغ، أو ليجدد حمولته، من دواب وطيور وفلاحين وصناديق أو جوالات محشوة بحاصلات معدة للبيع في أسواق تقام بانتظام في بلدة وأخرى.

***

ننزل من “القطار- الصندوق”، المملوك لشركة بلجيكية وشركات أوروبية أخرى، في أقرب بلدة من وجهتنا النهائية في عزبة فلان الباشا أو المسئول الكبير. هناك عند نقطة اختار السائق التوقف عندها لاعتبار وحيد وهو أن توافقا حصل بين مستخدمي هذه الوسيلة للنقل على اعتبار هذه النقطة محطة يتوقف عندها السائق ليشرب الشاي ويأكل شيئا من أشياء يحملها معهم الركاب ويتسلون بقضمها وهم يتداولون في أمور قراهم وحاجتهم من وراء زيارة البندر.

***

أمتار قليلة تفصل المحطة عن موقف الحمير لمن يزمع من الركاب استكمال رحلته في أعماق الريف. حدث في مرات معدودة أن وجدت في انتظاري “كارتة” مخصصة أصلا للباشا الكبير ونسائه ولا تأتي للمحطة إلا بأمره. ننزل من القطار الخشبي ونمشي في اتجاه الحمار، فالحمار، كما أدركت على مدى السنين، لا يأتي لأحد، إنما يذهب إليه من يحتاجه من بني البشر. كنت قد أدركت أيضا أن الحمار يختلف عن الجمل في أنه لا يركع لراكب، وما على الراكب طفلا كان أم فتيا، إلا أن يصعد أو يجتهد مع آخرين ليركبه. لاحظت أيضا أن سائق الحمار، وقد يكون مالكه أو مؤجره، لا يحظى بالاحترام الذي يحظى به سائق قطار الدلتا ولا حتى سائق “كارتة” الباشا. الاثنان على كل حال، وأقصد الحمار وقطار الدلتا، يتماثلان في أن كلاهما لا يتوقف لعابر سبيل إنما يتعين على هذا العابر أن يحيد بمساره.

***

انتهت علاقتي بحمير الباشوات ولم تنته علاقتي بالحمّارين (بتشديد الميم)، بل تجدّدت وإن بصور شتى. مرات عديدة وقفت أمام حمار وبجانبه حمّاره (بتشديد الميم) وعلى ظهره، أعني على ظهر الحمار، إبني وبعد سنوات جلست على ظهره ابنتنا. حدث هذا خلال زياراتنا الروتينية كعائلة صغيرة إلى مطعم آندريا بالحرانية في ريف مصر. ثم صارت تتباعد علاقتنا بحمير مصر كلما صدر التكليف لنا بالسفر أو اخترناه.

***

أتذكر أنني فور وصولي إلى الهند استعملت في دلهي القديمة “الريكشو”، دراجة هوائية تجر راكبا جالسا فوق مقعد تظلله شمسية بالية. يقود الدراجة رجل بسروال هندي يركض على قدميه في درجة حرارة تجاوزت الأربعين، استعملتها مجبرا مرات في مصيف مسوري لقضاء حاجة ضرورية لا ينفع فيها إلا “الريكشو”.

***

في بكين عاصمة الصين كانت تجربتي الثالثة مع الدراجة الهوائية. لم أكن أنا الراكب بل زوجتي الحامل ونحن في الطريق من الفندق إلى المستشفى قرب الفجر، كنت مثل قائد “الريكشو” أجري على قدمين، هو حاف مثل “حمّار” الريف المصري ومثل زميله في دلهي القديمة، وأنا في “شبشب” من نسيج القطن لزوم الاستخدام داخل غرفة النوم في الفندق.

***

أحكي لأصدقائي دائما وبكل فخر أنني سبقتهم إلى التعرف على “التوك توك”، زينة شوارع القاهرة الخلفية والزاحف بعناد وشراسة لاحتلال شوارع أخرى وفي نيته الوصول منتصرا وكاسحا إلى قلب القاهرة الخديوية، غير مهتم في الظاهر وحتى الآن على الأقل باستطلاع أحوال العمل في شوارع العاصمة الجديدة وظروف احتمالات التسرب إليها.

***

تعارفنا، “التوك توك” وأنا، أحدنا على الآخر في بومباي وكلكتا وبانجكوك وكولومبو وكراتشي قبل أن نعود فنلتقي ولكن على البعد معظم الوقت في القاهرة. شهادتي فيه مجروحة فقد شبّهته قبل عشرات السنين بحكيم الريف في الصين الذي بدونه تستعصي الحياة على الفلاحين، وعلى وقتي كانوا بمئات الملايين.

***

غاب عن بالي أن أذكر أنني عشت عصر التعددية العظمي في وسائل النقل إلى حد غير مسبوق في تاريخ علاقة البشر بـ”العجلة” أو بـ”الدولاب” حسب اللهجة الشامية. صحيح اندثر، أو أتمنى أن يكون قد اندثر، “الريكشو”، أي “الدراجة – المقعد” الهوائية التي تعتمد على رجل يركض بها على قدميه وزبون يجلس على المقعد. عشت هذا العصر مع “الريكشو” بعد أن تقدم وصار سائقه يجلس على مقعد ويجر خلفه مقعدين براكبين في وقت واحد، عشتهما وعشت معهما من على بر النهر منظر رجل يحمل رجلا آخر على كتفيه أو على مقعد أو على فراش خشبي خلال أداء فريضة حج الهندوس إلى نهر الجانجز. النهر المقدس “الذي يستقي مياهه من ينابيع في الجنة”.

إقرأ على موقع 180  الإنتخابات الأمريكية: ترامب يهيمن، بايدن يكافح.. وأوباما قلق

***

يحتل “التوك توك” بسرعة انتشاره والحمار المنحسر عددا ودورا مكانهما المتميز في قاعدة ما أطلق عليه مثلث وسائل النقل التي استخدمتها في حياتي. مثلث تقف عند قمته طائرات البوينج الجامبو ذات الطابقين وطائرات الكونكورد التي عبرت بين المحيط الأطلسي في ثلث الوقت الذي كانت تستهلكه الطائرات “العادية” مثل السوبر كونستليشن التي أقلتني من هونج كونج إلى القاهرة عبر بومباي ومن زيوريخ إلى ريو دي جانيرو وبيونس آيرس ومنهما إلى سانتياجو، وتنقلت بها في صحبة الأستاذ محمد حسنين هيكل في مهام صحفية في أجواء دول العالم العربي.

***

بين قمة مثلث وسائل النقل وقاعدته ركبت وأنا في سن المراهقة طائرة تدريب لأنزل منها ووالدي معي يمسك بيدي خشية أن أحاول الإفلات قبل أن نستقل الحنطور عائدين إلى بيتنا. تخرجت وعينت ملحقا دبلوماسيا وصدر أمر تكليفي بالالتحاق بسفارة مصر في نيودلهي. أتذكر أن وزارة الخارجية خيرتني بين أن أسافر بالجو أو بالبحر على باخرة ركاب إيطالية كانت بين “الأفخر والأشهر” على خطوط الملاحة العاملة بين أوروبا وآسيا. اخترت الجو ربما للهفة على الوصول بسرعة إلى مقر عملي أو ربما بسبب الاطمئنان الأقل لبحر شاهدت وقرأت عديد الروايات عن غدره.

***

لم يمنعني نقص الاطمئنان هذا من ركوب باخرة نيلية في طريق رحلتنا الكشفية ونحن طلبة إلى السودان. نمنا على سطح الباخرة وكان البرد قارسا فأشعلنا نارا وجلسنا، أو قل نمنا، حولها حتى الصباح. كذلك لم يمنعنا هذا النقص في الاطمئنان من اعتياد ركوبه في شبابنا وسنوات مراهقتنا، نعبره في عبارات صغيرة أو كبيرة وفي تاكسيات نهرية، ونتنقل فوقه في بواخر ضخمة بين الأقصر وأسوان. سبقتنا إلى استخدامها أجاثا كريستي وسجلت رحلتها في روايتها عن “جريمة فوق سطح النيل”. نعرف أيضا أن القدامى ركبوا النيل كما ركبوا البحرين الأحمر والأبيض قبل آلاف السنين.

***

ركبنا حافلات من كل الأنواع وفي أقسى الظروف. صعدنا سلسلة الجبل الأخضر في ليبيا وكنت واحدا من كثيرين لم يصعدوا قبلها في حياتهم لأعلى من تل المقطم. انتقلنا بسيارات نقل دواب وجنود من الخرطوم إلى الأبيض عاصمة كردفان، ومن هناك صعدنا سلسلة جبال النوبا لقضاء أيام مع قبائلها.

***

مرت سنوات خمس أو ست قبل أن نستقل، أنا وزوجتي مع هنود كثيرين، حافلة متهالكة من صنع المستعمر الإنجليزي صعدت بنا نحو ارتفاعات ليست متواضعة في مجموعة جبال الألب. وفي أفريقيا كنت ضمن مهمة رسمية زارت شمال تنزانيا وكانت فرصة لنجرب طريق الصعود نحو قمة كيليمانجارو الشهيرة بعد رحلة طويلة في السهول بحافلة عمومية نقلتنا من دار السلام.

***

مرت سنوات عدة على هذه الرحلة عدت بعدها إلى تحقيق حلم كثيرا ما راودني عندما كنت ملتحقا بسفارتنا في سانتياجو، وهو حلم صعود سلسلة الأنديز. هذه المرة كنت في غرب شيلي أعمل بالبحث مع فريق ضم بعض أروع الباحثين في العلوم السياسية. زرنا شقة بابلو نيرودا المطلة على المحيط وبعدها قرّرنا أن تكون عودتنا بطيئة عبر سلسلة لعلها بين أهم السلاسل التي شهدت عبور جيوش أوروبا ونزوح الملايين من الشعوب الأصلية. كانت رحلتنا، بسبب الضباب والسكون الطاغي، مرعبة.

***

توقفت عن الكتابة تعبا أو تدللا. ارتديت حذاء الخروج وتوجهت إلى ناحية سيارتي المتوقفة مثلي عن الحركة لعدة أيام. اقتربت منها لأكتشف أن أحد الإطارات “نائم”، صفة جرى العرف على إطلاقها على إطار على هذه الحال من الاعتلال. طلبت مساعدة من رجل الأمن. بعد دقائق سمعت ضجيجا فظيعا ومؤلما ظل يقترب حتى صار مصدره بيننا. ظهرت أمامي عربة شحن صغيرة تجرها دراجة بخارية ويقودها شاب نشيط قام بتغيير الإطار المعطوب بإطار صحيح. ودعاني إلى ركوب العربة مع الإطار المعطوب.

***

حاولت التهرب من الرحلة بالمراوغة وبغيرها وفشلت. بالفعل انتقلت إلى ورشة الإصلاح بوسيلة نقل بدائية الصوت والشكل مشت بنا وسط عاصفة من الاحتجاج والتأفف يقابلها من جانبي حرج لم أعهده مع أي وسيلة نقل أخرى استخدمتها على امتداد عصور عمري.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  معنى أن تعبر في زمن عبدالناصر