أية مقاربة مطلوبة في مواجهة الأنظمة العربية الحليفة لأميركا؟

سؤال يبدو مستهجناً نوعاً ما باعتبار أن أحد مبادئ الفعل السياسي والجهادي الذي تبنّته قوى المقاومة في المنطقة وبيئاتها هو تجّنب الاصطراع مع الأنظمة وتركيز المواجهة مع العدو الخارجي للأمة ومجتمعاتها أي أميركا والصهيونية.

واقعياً؛ فصلت قوى المقاومة بين الأنظمة العربية التابعة أو الحليفة للغرب وبين صراعها مع أميركا وإسرائيل برغم إدراكها التام أنّهم ولدوا من رحم واحد في سياق تكريس الهيمنة ومنع شعوب منطقتنا من نهضتها وبلوغ كرامتها والتسّيد على ثرواتها وقرارها فبنى المستعمر كيانات أِشبه ببلديات منها بدول إذ احتكر لنفسه القرار السياسي وتفخيخ سيادتها، وجعل البيروقراطية عقلانية النظام بدل الدولة وجعل اللاعبين الداخليين يتصارعون تحت السقف السياسي الذي قام هو بتحديده.

بعد ما أُجهِدنا به من اخفاقات وفشل هذه الأنظمة لعقود، وبعد أن وصل ببعضهم الحال ليتحوّل إلى عميل للخارج الغربي وقاتلاً لشعبه ومتآمراً على أمتّه.. من حقنّا أن نسأل: هل يصح إبقاء سياسة تحييد الأنظمة الحليفة للغرب في منطقتنا من المواجهة والصراع أم لا بد من التفكير الجدّي في كيفية اجتراح صيغة ضغط فعلي ومتصاعد عليها؟

الأنظمة وتبرير الفعل الإسرائيلي

ما بعد “طوفان الأقصى” لا يجب أن يكون كما قبله، فالمنطقة والعالم كله يولد من جديد والتحّدي بات وجودياً وملّحاً ولا يحتمل الفشل أو بيع الوقت والتسويف أو المصانعة والمضارعة. الوقت قاتل، أميركا والغرب يسيرون في مشروعهم لإنهاء أي صوت ديموقراطي أو أي إرادة حّرة وأي نموذج مقاومة وإنشاد للغة التحّرر.

ومن خلال التقييم وتتبع السلوك، يُمكن القول إنّ عدداً من الأنظمة العربية عميل لأميركا وربّما لإسرائيل وليس حتّى تابعاً. ولا يمكن تفسير تأخير إعلان الإنتصار بعد صمود غزّة الأسطوري وتضحياتها الطافحة إلاّ بإرجاعه لطبيعة الدور الملتبس بل والمتآمر لهذه الأنظمة لمصلحة أعداء شعوبنا والالتفاف على منجزاتها التاريخية الذي اعتُبر 7 تشرين (أكتوبر) من محطاتها البارزة.

نحن لن نلوم الغرب (برغم ما نراه من جزء مهم من الشارع الغربي من وقفة مشّرفة وما نسمعه من بعض السياسيين مثل ميلانشون في فرنسا ومؤيديه)؛ فالغرب عدوٌ لنا والمعركة معركته ومعركة استيلاد هيمنته المرتخية في العالم، وبالتالي ليس مستهجنا حجم إيغاله في دمنا. إنّ المستهجن هو تعاطي بعض هذه الأنظمة مع مسار إبادة امتّد لسنة ولا يزالون صامتين هم وجامعتهم – ليست جامعتنا – العربية. هذه الأنظمة لم تتآمر على شعوبها هي فقط ولا على أمانيهم وآمالهم ولم تمّزق الفضاء العمومي فقط ولم تفشل في التنمية فقط بل تآمرت وتتآمر على مستقبل الأمة وهويتها، وتضع نفسها في واجهة التصّدي وحماية إسرائيل ومصالح أميركا.

هناك إقرار في مؤسسات الغرب وكبريات مجلاته السياسية أنّ الذي مكّن إسرائيل بالوقوف وعدم الإنهيار حتّى اللحظة برغم تعّفن وتهالك جسدها، هي تلك المساندة العربية والدعم الضمني لها، وسعي هذه الأنظمة للابتعاد والتمايز عن المقاومين، بل تبرير الفعل الإسرائيلي بضربهم والقضاء عليهم. لماذا؟ لأنّهم حركة إسلامية من ماهية وتعريف مغاير لهم ولفهمهم للدين أو لأنّهم حركات مقاومة حرّة تحظى بتأييد شعبي كبير وتحمل قضية حقّة وجاذبة أو للسببين معاً.

لنا أن نسأل: هل كل حركة إسلامية هي تهديد ولماذا هذا الإدعاء؟ قد يقول قائل منهم لأنّ تاريخ الحركات الإسلامية في منطقتنا شابه ما شابه من التباس. فالشره للسلطة واستخدام العنف كان سمة غالبة على حركات إسلامية منذ مطلع الخمسينيات الى حين “الربيع العربي”. لا ننكر أنّه قد يكون هناك وجه لما يُقال، ونحن دعونا وندعو لإعادة قراءة تجارب الحركات الإسلامية في منطقتنا ودراسة كل منها على حدة دونما تعميم وتقييم مسارها وخطابها وسلوكها وهو ما نظّنه حاجة ملّحة علماً أنّ بعض هذه الحركات عملت على تقويم خطابها وأحدثت تغييرات فعلية في رؤاها وفهمها وتصوراتها، وقد يكون ما نراه اليوم من حركة إسلامية في فلسطين نموذجاً مناسباً لحركات إسلامية طوّرت وقوّمت وشذّبت في خطابها وفهمها وقدّمت خطاباً أكثر رشداً ونضجاً ووضوحاً فيما تريد وتصالحت مع مجتمعها فاستندت إلى قاعدة شعبية كبيرة ومتينة.

هناك إقرار في مؤسسات الغرب وكبريات مجلاته السياسية أنّ الذي مكّن إسرائيل بالوقوف وعدم الإنهيار حتّى اللحظة برغم تعّفن وتهالك جسدها، هي تلك المساندة العربية والدعم الضمني لها، وسعي هذه الأنظمة للابتعاد والتمايز عن المقاومين، بل تبرير الفعل الإسرائيلي بضربهم والقضاء عليهم

نعم، هي حركات تحرير وتحّرر بخلفية ومنطلقات دينية وتتموضع في الضفة المقابلة لبعض التجارب الإسلامية في المغرب العربي أو الخليج أو بلاد الشام كالنصرة وداعش وغيرهما أو أولئك من عباد السلطة بذريعة التمكين أو ممارسة الطقوس الدينية.

هي حركات تحرر بخلفية إسلامية. تجارب وحركات أرشد وأنضج في فهم الأولويات وتحديد المنهج وبلورة العمل على القضية. لذا، الأجدر أن نُنّمي هذه النماذج الجديدة لا أن نجهضها أو نتحالف مع العدو لإسقاطها، خصوصاً أنّه لن تنجح في وأد الدين فالدين ليس غرضاً يستنفذ ومنطقتنا يتجّذر فيها الدين، فمهما حاول من حاول من هذه الأنظمة والغرب من خلفهم لن يستطيعوا تحييد الدين – وموقع الدين في تحريك الواقع وتوجيهه (كان قد جرّب الإتحاد السوفياتي من قبلهم وفشل). لذلك نفترض ضرورة التعاطي بواقعية مع المنطقة وفهم طبيعة وقيم أهلها ومرجعية الدين في حياتهم وسلوكهم الجماعي، لذلك العقل والمصلحة تكمن في تشجيع وتكامل وتقوية التيارات الواعية والهادفة والتي تمتلك روح التحّرر بخلفية دينية وليس قومية أو نرجسية أو عصبية وسطحية.

الأنظمة والنهوض الشعبي

ما نراه اليوم في حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، يُشكل فرصة في واقعنا العربي تساعد على تخليق خطاب متمايز عمّا سبق من تجارب في ساحتنا الإسلامية؛ خطابٌ معتدلٌ متوازنٌ وتحّرريٌ لشعوبنا ومقدساتنا، والذي نراه في حماس والجهاد يشّكل أحد أوجه الشبه مع حزب الله كحركة دينية تحّررية.

القضية اليوم، أنّ هذه الأنظمة تشّكل حائط السّد للدفاع عن الكيان الصهيوني ومصالحه وتؤمّن له المتنفّس الإقتصادي والسياسي والاستراتيجي وتتطوع لدعم الإقتصاد الغربي وحفظ الدولار وقّوته من خلال اتفاقية البترودولار، ورابعها امتناعهم عن استخدام أوراق قوتهم لتخفيف نزف أطفال أمتهم بل يرون أمتهم عبئاً عليهم وفلسطين أثقل هذه الأعباء التي يجب التخّلص منها كما يُظهر سلوكهم. قد يكون للمرء انتقاد على مصر وينتظر منها أكثر لكن قد يجد الإنسان في مكان ما ما يُبّرره لمصر إذا قارن إمكاناتها وتحدياتها بموقفها منذ “طوفان الأقصى”، قد يجد زاوية يُبرّر لها موقفها – علماً أنّها تناور في الملف الفلسطيني بالمقدور من وجهة نظرها ويتّهمها الكيان الصهيوني أنّها غضت الطرف عن إدخال السلاح وحفر الأنفاق بين مصر وغزّة – وقد يتفهم المرء الدور السوري ودعمه بالممكن لوجستياً وسياسياً لجبهة المقاومة ويمتنع عن المساومة أو المقايضة برغم وطأة الظروف والتحديات الماثلة أمامه.

إقرأ على موقع 180  حالةُ غيابٍ عربي أم تروٍِ وتقريرُ مصير؟

لكن أن يصل الأمر ببعض هذه الدول أن تتصّدى لمن يريد أن يقاتل إسرائيل أو يرسل صواريخه الى الكيان نصرة لفلسطين وغزّة، فهذا يعني أنّها أصبحت دولاً عميلة وليس فقط مؤيدة لأميركا والغرب وليست بصدد حماية ذاتها من خلال القواعد الأميركية والغربية على أراضيها. المسألة صارت أنّها أتاحت أرضها وسيادتها للدفاع عن إسرائيل، وبالتالي هل يصّح أن تُبقي الشعوب الحيّة على ذاك التمييز في التعاطي مع هذه الأنظمة “العربية – الإسلامية” أم أنّ النهوض الشعبي هو الذي سيُمكننا من تجاوز الفخ الغربي الذي حدّد لها طبيعتها ودورها بالكامل واستفاد من عنوان إسلاميتها وعروبتها لتلعب هذا الدور، وليجعل من أي مسّ بها مقدّمة لفتن واصطراعات داخلية.

النتيجة التي نوّد أن نخلص اليها، هل يجب أن يقتصر فعلنا في المواجهة على تحّدي الصهاينة مباشرة أم نُوّسعه بعض الشيء باعتبار أنّ أي تخلخل في البيئة الإقليمية سيكون له آثار كبرى وخطيرة على إسرائيل وهيمنة أميركا، فلو تهاوى أي منهم لتغيّرت الخريطة الجيوبوليتيكية ودخل الغرب كلّه في أزمة. عندما سقط نظام علي عبدالله صالح في اليمن، ماذا كانت النتيجة؟ حالة جديدة مناهضة للغرب وجزءٌ أسّاسٌ من مقاومة الشعوب لأميركا والهيمنة وتغيير في المسرح الإقليمي وتعديل في موازين القوى. لم تكن “ثورات” الربيع العربي كلّها سيئة الخلفية كأصل لكنّها سرعان ما انجرّت الى المكان الخطأ فاختارت الطريقة والتوقيت الخاطئ فجاءت النتائج في غالبيتها مخّيبة. كان الأولى والأصح أن تبدأ تلك “الثورات” من ساحات أخرى كثيرة ولعل دول الممالك والمشيخات كان الأولى أن تحدث فيها “الثورات”، لكنّ الغرب حماها من ذلك وسارعت هي لإجهاض بقية الثورات وإنهاكها أو ما سمّي بالثورات المضادة، فحمت عروشها مرحلياً واستمّرت في تعاليها على شعوبها وشراء خياراتهم بالمال واللهو والتزيين.

نحن اليوم أمام أنظمة أضعف بكثير ممّا مضى وشرعيتها في الحضيض، يجب على الشعوب الحرّة والمجتمعات ممارسة ضغوط جدية عليهم قبل فوات الأوان، كجزء من تخسير أميركا نقاط قوّة وارتكاز لها في منطقتنا خصوصاً إذا ما تطّورت الأمور الى حرب إقليمية شاملة

النفاق أشد من الكفر

اليوم وبعد عام على “طوفان الأقصى”، ومع إمكانية تدحرج الأمور في المنطقة إلى حرب شاملة شبه عالمية. نحن أمام مفترق حقيقي ومفصلي في تاريخ منطقتنا الحديث. مفصلٌ وجوديٌ لشعوبنا ومستقبلها لا يتحمّل أنصاف الحلول ولا الترقيع ولا المسايرة، ولا الرهان على إمكانية تغير في سلوك أنظمة أميركا العربية أو بكلمة أدّق الأنظمة العربية العميلة للغرب. مفترق يرتبط ببقاء كياناتنا أو تشّظيها وربّما ولوجنا فوضى كارثية، في هكذا لحظة تاريخية لا يصّح ولا يجب العمل تحت سقف المراعاة والخشية وحسن الظّن والتعويل على استفاقة الضمائر.

كل شيء صار واضحاً. الفرز صار واضحاً. لو أرادت هذه الأنظمة الاعتبار والتعديل لفعلت: يكفي أكثر من 41 ألف شهيد في غزّة لإيقاظ الضمائر.. لذلك يجب إعادة النظر بمقاربات حكمت المرحلة الماضية وكل ما يساعد على ذلك فهو واجب. فالنفاق أشّد من الكفر. اليوم الكلام للشعوب وللتحّرر وللمقاومة وليس للأنظمة، الكلام للأمة وليس لنظام ما، الكلام لمستقبل هويتنا الإسلامية والعربية ولخطوط الجيو اقتصاد العالمية وليس للهو والعبث والتنّكر.

إن الرهان والمبالغة في الرهان على تغيير أو استفاقة هذه الأنظمة ظهر أنّه خائب وفي غير محّله وغير عقلاني فما خبث سقيه أمّرت ثمرته. كل يوم يتبين أنّهم هم ركيزة ثانية للنفوذ الأميركي وللهيمنة الغربية؛ ركيزةٌ تتكامل مع إسرائيل وتتّحد بها. هم البيئة الحيوية والوسط الضروري لاستمرار إسرائيل ومُكنتها. الأجدى بنا اليوم إعادة النظر في مقاربتنا لهم والتفكير في كيفية ممارسة ضغوط جدية لتحييدهم فعلياً أو التقليل من مخاطر عمالتهم ودورهم الوظيفي.

إنّ هزيمة أميركا وتجّبرها علينا تطلب صنوفاً جديدة من الضغط على الأنظمة العربية العميلة تحمل عروض الأمان والتهديد، أي عبر عروض الطمأنة وعروض دفع الفاتورة والكلفة لإجبارها على إعادة النظر بعمالتها للغرب واستمرارها في تنفيذ أجندته من أجل تحييدها بالحّد الأدنى.

الرهان على هذه الأنظمة حاله كحال التخوّف من سلوكها قد تبخّر وتبدّد، كلّما راهنا على يقظتها خدعتنا وكلّما خشينا من فتنتها مكّنت أميركا منّا. هذه الأنظمة سقطت بكل الإعتبارات ولا أظّنها قادرة على إنتاج فتن طائفية كما كانت تفعل، لقد انكشف المرج وبانت حقيقة كل نظام وهويته الفعلية. فلسطين فرزت الجبهات وحددّت العميل والصديق والعدو والحليف والشرعي وغير الشرعي . وعليه نفترض أنّ هناك ما يجب القيام به من ضغوط متصاعدة وربّما مفاجئة بمواجهة هذه الأنظمة كي ترعوي عن سلوكها المشين وتعّدله.

نحنُ نريد أفعالاً تؤدّي إلى تحييد هذه الأنظمة عن موقعها التاريخي في الخندق الغربي الأمريكي. فمن يدعم الصهيونية وأميركا يجب أن يتحمل الكلفة والوزر ولا يبقى أداة متقّدمة بمواجهة قوى التحّرر في المنطقة من دون غرم. على من يستعجلون الخطى في التطبيع العلني والضمني ويبتدعون تحالفات دولية وغيره للتهّرب من مسؤولياتهم التاريخية والتظاهر بالإهتمام، وعلى من يستميت بالدفاع عن المصالح الأمنية لأميركا وإسرائيل، أن يعلموا أنّ مساحة المناورة بوجه الشعوب شارفت على نهايتها. لم تعد الشعوب تقبل أن يبقى مال نفطهم يضّخ في مشاريع الفتن الداخلية والاقتتال وتمويل الحروب ولا في حافظات الغرب وبنوكه ليعيدوا تمويل حروبهم وهيمنتهم علينا ولا بحماية وحفظ قيمة الدولار بالبترودولار، كأنّهم مكلّفون بإجهاض كل أمل ونهضة في واقعنا العربي.

نحن اليوم أمام أنظمة أضعف بكثير ممّا مضى وشرعيتها في الحضيض، يجب على الشعوب الحرّة والمجتمعات ممارسة ضغوط جدية عليهم قبل فوات الأوان، كجزء من تخسير أميركا نقاط قوّة وارتكاز لها في منطقتنا خصوصاً إذا ما تطّورت الأمور الى حرب إقليمية شاملة، فلا يصح أن ينأوا بأنفسهم ويتظاهروا بالحياد ويطالبوا بتحييد أنفسهم في حمأة اللظى. أنّا لهم ذلك وهم امتداد أداتي لقتلة أطفالنا وهدمة بيوتنا وحارقي مصحفنا ومجهضي أمانينا. لا يجب أن يكونوا سدّا في وجه الطوفان.

Print Friendly, PDF & Email
بلال اللقيس

باحث سياسي، لبنان

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  قبل أن تبدأ مفاوضات الناقورة