الخبران الكبيران هما الإتفاق السعودي – الإيراني والوساطة الصينية؛ وقد نزلا كالصاعقة على الجميع. فما بدا مستحيلاً قبل عام أو عامين أصبح واقعاً، وإيران والسعودية تفتتحان عهداً جديداً. كذلك، حمل الخبر بُرهاناً مُدوياً هذه المرة على تغير العقيدة الإنعزالية للصين، وهو تغيرٌ يعود أول مؤشراته إلى أول “فيتو” صيني ـ روسي مشترك حول سوريا (4 تشرين الأول/أكتوبر 2011). ثم جاءت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الأخيرة إلى روسيا وإعلانه تحالفه الاستراتيجي معها، لتُكمل هذا المشهد.
ليس هذا موضوعنا في هذه المقالة، بل يكمن في الخبر الثالث الذي تُمكِن قراءته بين سطور تلك الجملة: نحن، إيران والسعودية، نعلن موافقتنا على إطلاق مشروع شرق أوسط جديد، نقرر فيه نحن مصالحنا، ولا تقرره لنا لا الولايات المتحدة، ولا الصين، ولا روسيا. لسنا على خلاف مع أي من هذه القوى، ولكننا لن نقع في فخ الاستقطاب مرة أخرى بعد درس الحرب الباردة التي كُنا فيها مجرد تابعين لهذه القوة أو تلك. بعبارة أخرى، على الولايات المتحدة أن تنسى أننا تابعون لسياساتها. لن نوافق بعد اليوم على دعم أوكرانيا لمجرد أنكم تريدون ذلك، ولن نُخفّض أسعار النفط متى تريدون ونرفعها متى تشاؤون، ولن نُطبّع مع إسرائيل لمجرد أنكم تريدون ذلك، هكذا.. ومن دون مقابل.
في حقيقة الأمر لم يكن هذا الإتفاق إلا تتويجاً كبيراً لسياسات جديدة تبناها قادة الإقليم تدريجياً. إفتتحت تركيا هذه السياسات بالتحالف مع روسيا وإيران في سوريا، والإصرار على صفقة “إس 400″، دون تنازل عن وجودها الحاسم في تحالف “الناتو”.
يراجع قادة الإقليم سياساتهم لتكون أكثر تسامحاً مع مطالب المجتمع التنموية، وأكثر صرامة مع مطالبه السياسية. بكلام آخر: أغلق السياسة على المجتمع، إفتح الاقتصاد، إمنح بعض الحريات الإجتماعية، نقطة انتهى. وهذا هو النموذج الصيني والروسي بطبيعة الحال
لننظر إلى ما حدث في الإقليم خلال الأعوام الثلاثة الماضية. أولاً؛ تقاربٌ تركيٌ ـ سعوديٌ، وزيارات متبادلة أعقبت فترة توتر عميقة بعد مقتل جمال خاشقجي، إنتهت إلى إيداع السعودية مبلغ خمسة مليارات دولار في المصرف المركزي التركي في ما بدا دعماً لتركيا ولرئيسها رجب طيب إردوغان في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تشهدها بلاده عشية الإنتخابات المقبلة. ثانياً؛ تقارب سعودي ـ مصري ـ بحريني مع قطر أنهى سنوات من القطيعة الكبيرة معها. ثالثاً؛ تقارب مصري ـ تركي، وإن كان بطيئاً نوعاً ما لكنه يحدث بخطوات ثابتة وملحوظة، كانت آخرها زيارة وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إلى القاهرة وقبلها زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى تركيا عقب زلزال السادس من شباط/فبراير، وقبل هذه وتلك، شهدنا في مونديال قطر مصافحة أردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي. ومع هذا وذاك، يشهد العراق، للمرة الأولى منذ بدء الاحتلال الأمريكي قبل عشرين عاماً، استقراراً نسبياً، لم يكن ليحدث لولا التوافق الإيراني السعودي، بل والتركي من خلف المشهد أيضاً.
زدْ على ذلك، هدوء نسبي في اليمن وليبيا، وتوقف للعمليات العسكرية فيهما، وحدوث الانقلاب الأبيض لقيس سعيد في تونس دون ردات فعل قوية من تركيا أو قطر أو سواهما من الجهات الداعمة للإسلام السياسي.
كل ذلك يشير إلى اتجاه واحد مفاده أن قادة الإقليم متفقون على استراتيجيات متقاطعة. أهم هذه الاستراتيجيات تصفير الخلافات البينية ما أمكن، وانفتاح اقتصادي كبير يكون عماده القطاع العام لهذه الدول مع مساحات واسعة جداً للقطاع الخاص، وانفتاح اجتماعي لا يتصادم مع الطبيعة المحافظة للمجتمع، ولا يخضع لصرامة التيارات الإسلامية المتشددة في الوقت ذاته.
باختصار، وبعد مآلات الربيع العربي الكئيبة، وانتصار الأنظمة السياسية على المطالب المجتمعية، يراجع قادة الإقليم سياساتهم لتكون أكثر تسامحاً مع مطالب المجتمع التنموية، وأكثر صرامة مع مطالبه السياسية. بكلام آخر: أغلق السياسة على المجتمع، إفتح الاقتصاد، إمنح بعض الحريات الإجتماعية، نقطة انتهى. وهذا هو النموذج الصيني والروسي بطبيعة الحال.
مزاج الإقليم اليوم هو مزاج تهدئة لا تصعيد، ولا يُعكّر صفوه إلا إسرائيل من جهة، والوضع في سوريا ولبنان من جهة أخرى
إذاً، لا تراجع عن التوجه شرقاً، ولكن دون أن يعني ذلك التخلي تماماً عن الولايات المتحدة. فالولايات المتحدة ستبقى قوة عظمى، إلى مدى غير قصير بالطبع. سيسعى الشرق الأوسط الجديد، بما يعنيه ذلك من توافق عربي ـ إيراني ـ تركي إلى سياسات متوازنة تبعده عن تجاذبات القوى العظمى.
مزاج الإقليم اليوم هو مزاج تهدئة لا تصعيد، ولا يُعكّر صفوه إلا إسرائيل من جهة، والوضع في سوريا ولبنان من جهة أخرى. وهذا المزاج تحديداً ما يُفسر برأيي التوتر الحاصل في إسرائيل، والمتمثل في أزمة سياسية غير مسبوقة، تُهدّد الكيان برمته. كما يفسر هذا المزاج التقارب العربي مع دمشق بعد قطيعة دامت أكثر من عقد، فبدون سوريا لن نستطيع الوصول إلى إقليم هادئ وتنموي كالذي نطمح إليه.
سيدفع هذا التوجه إسرائيل إلى إعادة حساباتها كلياً، وستسعى إلى إفساده ما استطاعت، برغم أننا نرى أن هذا لن يكون سهلاً اليوم مع ما تشهده من انقسامات، ومع ما تواجهه من تحديات في علاقتها بواشنطن.
لن يحل هذا التقارب، في أكثر من مسار إقليمي، كل مشكلات المنطقة بالتأكيد، فلا يوجد حل قريب لجيب المعارضة السورية في شمال غرب البلاد، ولا حل قريب لجيب غزة، ولا للبنان الذي يبقى الاختبار الأسهل للتقارب.
الشرق الأوسط الجديد في مخاض، ولكنه هذه المرة على مقاس بلدانه وليس على مقاس الولايات المتحدة!