فيروز.. قوة لبنان الناعمة والخالدة

تستأهل فيروز كل تكريم وتستحق مؤسسة الفكر العربي أن "نقطف لها وردة حمرا" تحية للإصدار الخاص من "أفق" (تصدر عن المؤسسة) بعنوان "وطن إسمه فيروز"، كبادرة تكريم للسيدة فيروز في عيد ميلادها الثامن والثمانين، احتفاءً بصوتها الآسر وأدائها المتميّز.

سبع وثلاثون مقالة تضمها الإصدار. 351 صفحة من الطباعة الأنيقة. الغلاف الأبيض المائل للرمادي والورق السميك شديد البياض أضفيا بُعداً صوفيّاً، زيّنته صورة فيروز المرسومة وكأنها بملامحها هذه تؤدي صلاة، فامتزج بهاء “السيدة” بكلمات الحب الضاجّة بها هذه الصفحات. فـ”السيدة” نبع ما يزال دفق الكتابة عنها لا ينقطع مهما كانت الظروف، وكيفما رأتها العيون سمعاً وتذوقاً.. والإصدار التكريمي المذكور “غير مخصص للبيع”، وكأن المؤسسة أرادت تكريماً ثانياً للسيدة فيروز بنزع الطابع التجاري، والإبقاء على الجانب المعنوي/الروحي كقيمة دالّة بعيداً عن المادّيات.

تنوّعت مضامين المقالات، وانتسب كل كاتب منها لرؤيته الخاصة بهذا الوطن الذي إسمه فيروز، و”هو”، و”هي” مُتّسعان، ويتّسعان لأنواع كثيرة من المودة، ربما لو أتاحتها مؤسسة الفكر العربي لأصدرت كتاباً تكريمياً للسيدة فيروز كل عام، وربما دخلت، وأدخلت فيروز والرحابنة في عالم المؤلفات الموسوعية، لا سيما وأن العاشقين لهذه النبتة الخيّرة ينتظرون ـ تحديداً- من العبقري الإبن (زياد) كتابة ما لم نعرف، ونسمع، ونقرأ بعد.

يرى الشاعر هنري زغيب أنّه “ومنذ إطلالتها الأولى قبل ثلاثة أرباع القرن (1947)، بدأت متوّجة بالمجد”

 ثمة ملاحظة أوردها بكل ودّ حول ما جاء في مدخل الكتاب من أن هذا الإصدار يمتازْ بأن المشاركين في تأليفه “ينتمون إلى مختلف الدول العربية”، وملاحظتي تكمن في غياب كتّاب من تسع دول عربية كنا نتمى اكتمال القمر/ البدر بما ستجود به نظرتهم “للسيدة”، مع أمنيتي أن يكون إصدار العام المقبل عن المؤسسة في هذا الإطار، إذ غابت أسماء من دول: الكويت، سلطنة عُمان، تونس، الصومال، جيبوتي، موريتانيا، جزر القمر، قطر، ليبيا واليمن.

يُقارن الدكتور عبد الإله بلقزيز في مقالته (لن نذكر عناوين المقالات برغم جماليتها)، بين “المُجدِّديْن الكبيرين” الرحابنة وسيد درويش، مع فارق “أنّه تأتّى للرحبانيّيْن ذلك الرأسمال الفني الرفيع الذي لم يتأتَّ لسيد درويش: صوت فيروز، الذي حمل الغناء العربي إلى رحاب الكونيّة”. في حين يرى الشاعر هنري زغيب أنّه “ومنذ إطلالتها الأولى قبل ثلاثة أرباع القرن (1947)، بدأت متوّجة بالمجد” نقلاً عن بَوْح منصور الرحباني له، معدداً صفات نادراً ما تجتمع في موهبة: الصوت، الإحساس، اللفظ السليم ومخارج الحروف بعد تدريب محمد فليفل مُكتشفها الأوّل على التجويد القرآني فأجادته، وبات لفظها في غناء القصائد مُمتازاً فلا تلْحَن”، المضمون والأداء.

وانطلقت الدكتورة رفيف رضا صيداوي (من المؤسسة وعملت على تحرير الكتاب مع الشاعر أحمد فرحات وبإشراف الدكتور هنري العويط) في الكلام عن فيروز “من عالم الفن كمجال غير معزول عن التأثيرات الاجتماعية كافّة، أي كما نظر بيار بورديو في أنّه عالمٌ غير معزول عن الحقول الاجتماعية الخارجة عن حقل الإنتاج الفني”، وبالتالي “فيروز هي جزء من الرحابنة الذين ألّفوا واخترعوا وأبدعوا كلمات وألحاناً جعلتنا نتعرّف إلى مجتمعنا من خلال فنّهم”، متوقفة أمام فيروز الفلسطينية فتقول: “لغاية اليوم بقيت فيروز صادقة في غنائها وإدائها لفلسطين، حتى أنّها في العام 2017 رأيناها تتضرع بترنيمة خاصّة إلى الله، وتشكو إليه معاناة أهل فلسطين تحت عنوان “إلى متى يا رب”، وظهرت فيروز وهي تؤدي هذه الترنيمة من داخل كنيسة أرثوذكسية بثوب أسود، واضعة غطاء على رأسها وخلفها صورة للسيد المسيح”.. أما الناقد الدكتور سعد البازعي فقد عّمَد إلى تفكيك الشعر في عدد من الأغنيات، باللغتين العامية والفصحى، وأدخل بعضها في خانة التساؤلات الفلسفية (أغنية أسامينا) والتجديد، والخروج من أسر التقليد والتكرار”.. ورأى الناقد الدكتور سعدالله آغا القلعة أن الرحابنة “طوّرا أسلوباً متفرّداً في تشكيل مَوجات الألحان المُتلاحقة، المُوَلّدة للأبعاد الدرامية، بحيث تعبّر بدقّة وأمانة عن المعاني المُتشابكة والمُتناقضة في أغاني فيروز”.

وقد عَرَضَ الناقد والروائي نبيل سليمان لتواريخ انطلاقة فيروز والرحابنة، وعلاقتهما المبكرة بإذاعة دمشق، فكانت “البداية في العام 1953 أي بعد أقل من خمس سنوات على هزيمة العرب الكبرى التي اشتهرت بنكبة فلسطين العام 1948” (وهل كان الانهزام العربي وحده المسؤول عن هذه النكبة؟)، ليعود ويكرر تلك الشائعة حول منع الرئيس جمال عبد الناصر بثّ أغنية “سائليني يا شآم” من كلمات الشاعر سعيد عقل تبعاً لما قاله الصحافي شربل القطار، والتي دحضها الدكتور الباحث والمؤرخ للأذواق الفنية التراثية والتشكيلية والغنائية محمود الزيباوي بأسلوبه العلمي والتنقيبي وذلك في مقالة له منشورة على موقع المدن الألكتروني بعنوان “حقيقة منع عبد الناصر “سائليني يا شآم” بتاريخ 19/1/2023.

وفي حين شكّلت مقالة الناقد والباحث فيصل درّاج بعنوان “السيدة فيروز والولد الفلسطيني ثُمالة حنين الطفل والشاب والكهل اللاجئ بعيداً عن وطنه فيقول” شعرت ولا أزال، أن أغنية فيروز سنرجع يوماً إلى حيّنا موجَّهة لي فهي عن اللاجئين وإلى اللاجئين”، كما أن “الوطن في الإنشاد الفيروزي صورة الحقيقة والجمال، أكان يُدعى لبنان الذي انتظرت فيروز “بعثه” بعد الحرب الأهلية، أو كان وطناً مُصادراً اسمه فلسطين”، فقد تولى المؤرخ والكاتب جوني منصور من فلسطين إبراز “دور فيروز الفنيّ من خلال مجموعة كبيرة من الأغاني التي خصّصتها للقضية الفلسطينية”، مفككاً مضمون هذه الأغاني وما تضمنته من تحدٍ وإيمان، وغضب ووطن سيعود.

إقرأ على موقع 180  أيّها اللبنانيّون.. هذا هو قضاؤكم!

وإذ نختم مقالتنا هنا بمقالة الشاعر والكاتب محمد فرحات (انتقاؤنا لعدد من الكُتّاب ممن أجادوا في توصيف الظاهرة الفيروزية، لا يعني ذلك تجاهلاً مُتعمداً لآخرين أفاضوا وأغنوا، ولكن كما أسلفنا بسبب ضيق مساحة النشر) إذ أعارَ فرحات لبنان قوة فيروز الناعمة، مشيراً إلى “ما نشهده من تراجع في الفنون كلها”، فإننا نستعير من رفيف صيداوي تشبيهها فيروز بالبلسم الذي يسري مفعوله على النَّفس كمثل سريان إيقاع أغنيتها “تعا ولا تجي” المشابه لانعدام الوزن في حالتنا اللبنانية المقيمة حالياً.

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الدرس الأفغاني لأوروبا والحلفاء.. "الإستقلال" عن أميركا!