لبنانيون يتنبأون بمستقبل الصين.. مصيرها مصير العالم

خرجت الصين من عزلتها الطويلة عام 1895 بعدما هزمتها اليابان في الحرب الشهيرة بينهما، ومنذ ذلك التاريخ انشدّت عيون العالم نحوها راصدة مسارها ومصيرها، واللافت للإنتباه في كتابات ثلاثة مفكرين لبنانيين على مدى نصف قرن من الحرب الصينية ـ اليابانية وحتى انتصار الثورة الشيوعية عام 1949 أنها تنبأت بمصيرين للصين: أن تُقرّر مصير العالم وألا تعيش طويلاً تحت ظلال الراية الحمراء. 

لم تكن الصين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر سوى ميدان لتقاسم النفوذ بين الدول الكبرى آنذاك، فاليابان طامعة فيها، وروسيا طامحة إلى السيطرة عليها، والدول الغربية كفرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية لا ترى فيها أكثر من سوق للإستهلاك وغنيمة حرب وإستعمار، فيما التخلف العلمي والإقتصادي والهُزال العسكري وانتشار الأمية والمجاعات والأمراض كانت تشكل عناوين صارخة توجز الصين وأحوالها، ومن نماذج الكتابات اللبنانية الإستشرافية لمستقبل الصين هذه المختارات لمفكرين ثلاثة هم شكيب إرسلان وميشال شيحا ومحمد جميل بيهُم.

أولاً؛ شكيب إرسلان:

كتب شكيب إرسلان سلسلة مقالات في مجلة “المقتطف” اللبنانية ـ المصرية بين عامي 1900 و1901 تحت عنوان “مستقبل الصين” وصف فيها الواقع الرديء لتلك البلاد وتنبأ لها في الوقت نفسه بأن تقفز سريعاً وخلال عقود قليلة إلى موقع قيادي وريادي عالمي يليق بتاريخها الحضاري العائد إلى ألفيات عدة قبل الميلاد.

وحول رداءة الواقع الصيني في تلك الفترة، كتب ارسلان في الأول من أيلول/سبتمبر 1901 فقال إن شدة الفقر في الصين تدفع الأزواج لأن يبيعوا زوجاتهم، وذهب في المقالة ذاتها إلى القول:

“كثيرون من الفقراء يلقون جثث أولادهم في مجاري الأنهر وربما تركوها أمام بيوتهم فجاء الدفانون وأخذوها، وهي عادة ذميمة عند أهل الصين، وأقبح منها ما هو معهود في بعض المقاطعات من قتل البنات خشية إملاق على حد الوأد الذي كان معروفاً في الجاهلية مع اختلاف في الطريقة، فالعرب كان يدفنون المولودة حية وهؤلاء يقتلونها غطساً في الماء البارد حتى الإختناق، وهناك طريقة أخرى للتخلص من الفقر وهي بيع الأولاد والشائع بيع الإناث أكثر من الذكور”.

وحول مشاهد الفقر أيضاً كان إرسلان قد كتب مقالة (“المقتطف” ـ تشرين الثاني/نوفمبر 1900) جاء فيها أن “قانون الجزاء عند الصينيين العين بالعين والأذن بالأذن، ولكن يُقبل التوكيل بتلقي القصاص، فالغني يستأجر من يحتمل عنه العذاب، والفقراء يتراكضون عند وقوع الفُرص لأن يتوكلوا عن المحكوم عليهم، فيؤجرون أجسادهم بدنانير معدودات حتى قيل في الصين الحاضرة إن الصينيين عائشون على ضرب العصي”.

شكيب ارسلان: الصينيون قوم يحترمون العلم ويُعظمونه ويضعونه فوق كل شيء حتى أن إسم العلم عندهم هو كيا ويعني به الدين أيضاً، فكأنهم جعلوا العلم والدين عندهم في ميزان واحد

وفي عدد “المقتطف” نفسه عرض إرسلان لأحوال الجيش الصيني في تلك الفترة فإذ هو “قاصر جداً، وهو جيشان، جيش العاصمة وجيش الولايات، وكبار القواد فيه من أصحاب رتبة فريق ثم يأتي بعدهم أمراء الألوية وهلم جراً إلى رتبة جاويش وكلها ألقاب في غير موضعها لأنهم لا يتعلمون ولا يتدربون ولا يعرفون التمرينات الحربية”.

تلك هي لمحات من واقع الصين في مطلع القرن العشرين، ولكن بما يتميز الصينيون؟ يقول إرسلان إنهم يتميزون بالعلم ويعطي أمثلة عدة من بينها هذان المثالان:

ـ “المقتطف”؛ تشرين الثاني/نوفمبر 1900: “قد تقرر عند الصينيين أن العلم هو سلم الترقي ومفتاح الحكومة، وعليه فقد يوجد العامل العالم ولا رأي له ولا حزم عنده، ويُفضّل على العامل غير العالم ولو ملك الصواب بأجمعه والسداد بحذافيره، وذلك لأن هذا غير حاصل على الشهادة وذاك حاصل عليها”.

ـ “المقتطف”؛ تشرين الأول/اكتوبر 1901: “الصينيون قوم يحترمون العلم ويُعظمونه ويضعونه فوق كل شيء حتى أن إسم العلم عندهم هو كيا ويعني به الدين أيضاً، فكأنهم جعلوا العلم والدين عندهم في ميزان واحد”.

ولأن الصينيين كما يرى إرسلان (تشرين الأول/أكتوبر 1901) “يجيدون التقليد ويحسنون المباراة ولا يرون شيئاً إلّا ذللته أيديهم، ويعلمون أن علومهم القديمة قد نُسخت آياتها وأنها صارت لا تفي بغرضهم، وإذا كان العلم هو الملك حقاً، فلا شك أن الصينيين يحرزون هذا العلم يوماً من الأيام ويحمون به ذمارهم”، وإلى كونهم أهل علم فعندهم أيضا “بصر في الصنائع، وهم أمة صناعية فطرة، وإن أخذ الأوروبيين للصين بالسيف أمر غير صعب المنال، ومقصد الأوروبيين في التملك خارج بلادهم الكسب والتجارة والعمل، والكسب مع أمة كالصين صعب، إذ لا يمضي مدة بعد أخذ الأوروبيين للصين حتى يأخذ الصينيون جميع ما بأيدي الأجانب من الصنائع”.

واقع الحال أن هذه هي حال الصين في هذه الآونة، فقد أخذت كل “الصنائع” والصناعات، وإذا كانت لا تبتكر صناعة أو لا تنفرد بها فهي “تجيد تقليدها” كما قال شكيب إرسلان تماماً.

ثانياً؛ ميشال شيحا:

في كتاب “لبنان في شخصيته وحضوره” نجد مقالة لميشال شيحا مؤرخة في السادس من تشرين الثاني/نوفمبر 1950، أي بعد سنة واحدة من اعتلاء الشيوعيين سدة النظام السياسي في الصين وفيها:

“لا يبدو أن الصين ستألف على مر الزمن صرامة الأنظمة الماركسية، فالإنتاج الضخم المتساوق، لا يلائم برتابته الصين الأصيلة موطن البورسلين والبرونز والأحجار الكريمة والمواد الطبيعية والألوان الفتّانة والفن الذي لا حصر له، لذلك يسود الإعتقاد بأن صين اليوم هيهات أن تمضي بعيداً على غرار موسكو، فهما أشبه بحساسيتين مختلفتين لا تستطيعان الترافق إلى أمد غير محدود”.

وفي جداله مع المادية التي تقوم عليها النظرية الماركسية، يعتبر شيحا أن المادية تناقض المخزون الروحي التي نهضت عليه الحضارة الصينية “ولو كان على الصين ان تخرج من حكمتها الألفية وأن تبدل نهجها، فليس ذلك ممكناً إلا بفعل إيمان، وليس بفعل انتفاء لكل ما هو روحي، فثمة أربعمئة وخمسون مليون نسمة يعنيهم هذا الموقف من الروح”.

شيحا: “لا يبدو أن الصين ستألف على مر الزمن صرامة الأنظمة الماركسية، فالإنتاج الضخم المتساوق، لا يلائم برتابته الصين الأصيلة موطن البورسلين والبرونز والأحجار الكريمة والمواد الطبيعية والألوان الفتّانة والفن الذي لا حصر له، لذلك يسود الإعتقاد بأن صين اليوم هيهات أن تمضي بعيداً على غرار موسكو

هل كانت هذه الرؤية استشرافاً للمسار الذي سلكته الصين بعد وفاة ماو تسي تونغ عام 1976 فأعادت الإعتبار والإحترام لثقافة حكيم الصين الأول كونفوشيوس، فأحيت الروح الكونفوشيوسية من جديد، ومع هذا الإحياء لم يعد في أدبيات الحزب الشيوعي الحاكم في الصين من الشيوعية إلا إسمها بعدما تحولت نحو “اشتراكية السوق” وهو المصطلح المُخفَف والمُلطَف الذي سارت عليه الصين منذ عام 1980 مع قيادة دنغ شياو بينغ، وبالتالي لم يعد للماوية منذ سنوات عدة إلا حضور طفيف، فيما “إنجازات” تلك الحقبة من مثل “القفزة الكبيرة” و”الثورة الثقافية” باتت غائبة تماما عن الراهن الصيني الذي أغلق صفحة إشكالية من تاريخه وكاد ينعاها من دون الإعلان عن ذلك لأنه لم يألفها، كما قال ميشال شيحا؟.

إقرأ على موقع 180  مشغره.. عودي كما اعتدناك أو وداعاً

عموماً يقول شيحا “إن مستقبل الأرض جمعاء رهنٌ بمستقبل الصين واتجاهاتها، ثم أن الشرق الأدنى يهمه الشرق الأوسط أكثر ما يهمه، فكم نود أن يصبح لبنان أكثر معرفة بشؤون الشرق الأقصى وشؤون الصين”.

ثالثاً؛ محمد جميل بيهُم:

في الأول من نيسان/أبريل 1961 كتب محمد جميل بيهُم في مجلة “العربي” الكويتية، وكان قد مضى أكثر من عقد على استلام الشيوعيين نظام الحكم، عن صعوبة شيوع الشيوعية في الصين فقال “قد لا تشعر حتى لو كنت في الصين بأن النظام الرأسمالي لا يزال فاشياً فيها، ورغم ما بذلته الحكومة القائمة والحزب الشيوعي من الجهود الجبارة لتحويل البلاد إلى النظام الشيوعي، فإن ثلثي الأراضي الزراعية لا يزال في حوزة أفراد يستثمرونه لأنفسهم، وأن ثلاثة أرباع الصناعات اليدوية لا تبرح في أيدي غير الشيوعيين ويستثمرها أصحابها”.

وفي قراءة بيهُم “وقد لا تشعر أيضاً وأنت ترى الحزب الشيوعي يسيطر على البلاد سيطرة تامة، بأن هناك احزاباً كثيرة أخرى، وبعضها من أهل اليمين الذين يمثلون الرأسمالية، والواقع أن الحزب الشيوعي الذي لا يزيد عدد المنتسبين إليه عن مليون و314 ألف شخص، إنما يحتفظ بالحُكم ليس لكثرة الشيوعيين في الصين، بل استناداً إلى أنه أوفر الأحزاب عدداً وأفضلها تنظيماً وإلى أنه يستمد القوة من موسكو، على أن هذه الأحزاب لم تهن ولم تستكن”.

ولكن لماذا مالت الصين نحو الشيوعية في برهة من الزمن؟

أحمد بهاء الدين: ليس صدفة أن معركة ماو تسي تونغ الأخيرة كانت ضد كونفوشيوس. إنه أراد أن يمحو ما قبله من رسالات، لقد كان هم ماو الأكبر هو كيف يضمن أن أفكاره يمكن أن تعيش بعده ألوف السنين

في تحليل محمد جميل بيهُم أن قاعدة الحزب الشيوعي الصيني، وأغلبيتها من الفلاحين، لم تكن على هذا السبيل ولا على تلك العقيدة، فالفلاحون “الذين كانوا دعاة الثورة لم يكن الحافز لهم على حمل السلاح مبدأ من المبادىء الإجتماعية وإنما ثاروا عن كراهية شديدة للأجانب الذين اسثمروهم مدة طويلة واستعبدوهم، والشعب الصيني المزارع والذي هو أشد الناس احتفاظاً بتقاليده، كانت كثرته أبعد الناس عن تفهم المبادىء الإجتماعية والتمييز بينها، واستطاب ـ الشعب الصيني ـ مواقف الروس حياله خلال ربع قرن، لا الشيوعية نفسها”.

رحل ماو تسي تونغ عن الحياة الفانية في التاسع من أيلول/سبتمبر عام 1976، وبرحيله عاد كونفوشيوس حياً، ومن أجمل ما كتب حول ذلك قطب الصحافة المصرية والعربية أحمد بهاء الدين، ففي مقالة له في “العربي” الكويتية (1 ـ11ـ1976) يقول:

“بين كونفوشيوس وماو تسي تونغ مرّ ما يقرب من 2400 سنة، لقد حارب ماو تسي تونغ الدنيا كلها تقريباً، ولكن الغريب أن معاركه الأخيرة كانت ضد ذلك المعلم الفيلسوف الذي مات قبل 2400 سنة، وهو كونفوشيوس بالذات. إن مشكلة ماو تسي تونغ أنه وصل نحو حد محاولة تغيير الطبيعة الإنسانية تغييراً أبدياً، وهو كان يحارب الطبيعة ويحارب الصين ويحارب حزبه ويحارب نفسه، وليس صدفة أن معركة ماو تسي تونغ الأخيرة كانت ضد كونفوشيوس. إنه أراد أن يمحو ما قبله من رسالات، لقد كان هم ماو الأكبر هو كيف يضمن أن أفكاره يمكن أن تعيش بعده ألوف السنين”.

ولكي تعيش هذه الأفكار كتب ماو تسي تونغ مجلدات من النظريات الفكرية والسياسية والعسكرية والأدبية على أمل أن يحفظها ويتوارثها الصينيون من بعده، لكن الصينيين لم يرثوا أفكاره ويكاد الجيل الجديد منهم لا يعرفها، بينما الصينيون يكادون يحفظون كل ما قاله كونفوشيوس عن ظهر قلب منذ ما لا يقل عن 2500 عام.

لماذا انتصر كونفوشيوس على ماو تسي تونغ؟ ربما في ثنايا هذا القول تنطوي الإجابة، يقول كونفوشيوس:

“إذ شئت أن تصلح نفسك فجدّدها كل يوم”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  السادات ما بين "الصدمة".. و"المنصة"