رجال أثروا في حياتي

كثيرون هم الرجال الذين أثّروا في مجرى حياتي. بعضهم خلف آثارا أثّرت لساعات وأيام. بعض آخر ترك بصمات لا تمحى. بعض ثالث مر مرورا عابرا ولكن بآثار عميقة. كثيرون عبروا عبورا خامدا، لا حس ولا خبر.

في حياتي رجال آلوا على أنفسهم إلا أن يرسموا لحياتي خرائط طريق ضعت في كثير من شعابها وصحّحت أو أعدت رسم القليل منها، ورجال عاشوا ورحلوا ولم يدركوا أنهم خلفوا لي وراءهم إرثا من قيود كبلت بعض حرياتي، وآخرون كثيرون قدموا نماذج حية موحية أو مغرية أو ناهية جربت منها البعض القليل وتمردت على البعض الكثير.

في حياتي، كما في حياة كل الناس، رجال يستحقون أن نأتي على ذكرهم بين الحين والآخر وفاء وإشادة أو تنبيها وإفادة.

***

قيل لي إنه كان لي عم، شقيق لأبي، يكبره بسنوات غير قليلة وكان الأكبر على أشقاء خمسة أو ستة. أذكره شكلا. قيل لي أيضا إن هذا العم تعرّف في شبابه على “فنانة” يونانية تغني وترقص لرواد ملهي ليلي. تطورت العلاقة نحو حب جارف من طرف واحد أطاح بثروته الشخصية قبل أن تمتد لتطيح بثروة العائلة المكونة من أراضٍ زراعية وشركات ومطابع ومحلات لبيع الكتب وغيرها من “الورقيات”. فرضت الأزمة على أبي وأشقائه التوقف عن الدراسة للعمل بالحكومة. فرضت أيضا علينا جميعا في العائلة الالتزام بثقافة عنوانها بالعامية المصرية “إن فاتك الميري إتمرغ في ترابه”. وبالفعل كان هذا الالتزام أحد اعتبارات القرار بتوجه معظم شبان العائلة نحو آفاق العمل الحكومي.

***

بمناسبة الحديث عن عمي الأكبر، أذكر أنني في بداية سنوات مراهقتي اكتشفت أن عمي الأصغر يقضي معظم أمسياته وبعض لياليه في مقهى غير بعيد عن موقع سكني. اكتشفت أيضا أن عازفا على العود لا تفوته هذه السهرات وأنني صرت أحرص على الاستماع لعزفه وأغانيه الشعبية مختبئا مع مراهقين آخرين وراء حائط تابع لمبنى مجاور للمقهى. هناك، وأنا في العاشرة من عمري، تشبعت مبكرا بفن وشخصية سيد مكاوي حتى صرت أحد مريديه وإن عن بعد. كبرت سنا ونضجا وكبرت معي هواية هذا النوع من الموسيقى الشرقية؛ كبرتْ أيضا ونضجتْ ابنته حتى صارت سفيرة لدى الفاتيكان.

بمناسبة الموسيقى والولع بها، عشت معظم سنوات عمري أعترف بفضل عز الدين فريد – زوج شقيقتي الكبرى – في تنمية وعيي بالموسيقى الغربية الكلاسيكية دون تعارض مع تعلقي بالموسيقى الشرقية، وعلى تشجيع ميلي لقراءة الروايات البوليسية ومذكرات القادة الكبار في دول الغرب. أظن أنني مدين له أيضا بخاصية الانصات لساعات لا أملُّ ولا أقاطع ولا أشرد.

لا أشرد ولكن في رأسي ورشة تعمل بدون توقف. إذا لم تعمل للعمل الذي أؤديه خلال سنوات خدمة “الميري” أو الكتابة الحرة والكتابة المقيدة، هذه الأخيرة استهلكت من قوانا وطاقتنا أضعاف ما استهلكته الكتابة الحرة، هي على كل حال آفة كل العصور وكل العقائد، لم يفلت من إسارها مفكر كبير أو صغير.

***

كنت طفلا عليلا، بمعنى كثرة حالات المرض نتيجة التهاب مزمن في “اللوزتين”، وكان لنا طبيب خاص يسكن في حي الظاهر في وقت كنا نسكن حي “المالية” أو حي الوزارات. كان يقطع هذه المسافة في عز الليل أو عز القيظ. كانت حجة أمي في استدعائه في مواعيد غير مناسبة قلق “أبو الولد”، وهو قلق غريب استمر حسب رواية الأم حتى كبر الولد وتخرج من الجامعة واشتغل بالسلك الدبلوماسي وكان يتأخر في عودته من سهرة أو أخرى بحكم اختلاطه بنوع مختلف من البشر، لم يكن الوالد يأوى إلى فراشه قبل عودة إبنه إلى البيت، وقد صار هو نفسه رجلا ورب بيت ووالدا.

مرّت الأيام، غاب عنا طبيب طفولتي، كبرت وقرأت وأسر لي أبي أن طبيبي الرائع كان يهودي الديانة، وقبل سفره أبلغ أبي أنه يسافر مجبرا، فهو لم يعرف وطنا إلا مصر، على أرضها ولد وفي مدارسها وجامعاتها تعلم، وكل أصدقائه وعائلته من هذا البلد. مرّت سنوات واختطفني مع أربعة آخرين مستوطنون يهود يسكنون ضاحية من ضواحي مدينة غزة. هناك، أقصد في المستوطنة التي احتجزونا فيها، كما في سجن بئر السبع، قابلت يهودا يتأسفون على الابتعاد عن مساقط رؤوسهم في المغرب وتونس وحي السكاكيني والظاهر في مصر. هؤلاء وأمثال طبيبي كثيرون يخضعون هذه الأيام لإرهاب منظمة صهيونية هي الأشد وحشية وقسوة من كل ما ومن عرفنا وسمعنا عبر العصور.

***

على سيرة القسوة أتذكر الشيخ بيومي، العالم الأزهري الذي جرّب تدريبي وبنات خالتي على الصلابة ورفض المرونة في التعامل مع الغير. أظن أنه لم يوفق معي. إلا أنني يجب أن أعترف أنني تفهمت منذ حينها معاني الإيمان القوي بعقيدة وسلوكيات معتنقيها وإن لم أتفق معها ومعهم.

***

تعلّمت أيضا كيف أوفق في الفصل بين أسلوب كتابة البحث العلمي وأسلوب كتابة التقرير الدبلوماسي والمذكرة الرسمية وأسلوب كتابة التقرير الصحفي ومقال الرأي الموجه لعامة القراء. ثلاثة أساليب ولكل أسلوب منها قراؤه. علّمني التمييز بينها وساهم في نقلي من أسلوب إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى أساتذة من كل الثقافات أكثرهم مصريون ومنهم توفيق رمزي وإبراهيم صقر وبطرس غالي وفتح الله الخطيب، آخرون ساهموا أيضا، أولهم وثانيهم كنديان والثالث هندي والرابع روماني والخامس هنغاري، وفي مرحلة أخرى ساهم في نقلي من أسلوب البحث العلمي ومن أسلوب التقرير الرسمي والمذكرة البيروقراطية إلى أساليب الصحافة محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وممدوح طه وصلاح الدين حافظ ومحفوظ الأنصاري ومصطفى نبيل وآخرون كثيرون.

إقرأ على موقع 180  التحرش الخفي من الواقع.. إلى ضفاف الإفتراضي

***

لن أسعى لمن يُعزّز إحساسي ويُذكّرني بفضل هؤلاء وغيرهم، فكل سطر أكتبه هذه الأيام كفيل بأداء هذا الواجب المحبب بل والممتع.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  المحرمات.. والمجتمعات المريضة!