للصين أن تُنقذ أمريكا وروسيا في الوقت المناسب

غريب أمر بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي، من الجمهوريين بخاصة، الذين يطالبون باتخاذ مواقف أمريكية في الحرب الأوكرانية أشد تطرفا. أحدهم وهو من زعماء الحزب الجمهوري يطالب برأس الرئيس فلاديمير بوتين وآخرون بإرسال طائرات أمريكية لأوكرانيا وفرض حظر جوي وتصعيد الحصار الجبار حول روسيا. هؤلاء يعلمون أن أوكرانيا، في ذهنية الهيمنة الغربية، ليست أكثر من طعم لاستدراج روسيا إلى هاوية السقوط. هم يعلمون وآخرون خارج أمريكا أيضا يعلمون ويدركون خطورة هذا الجانب الهدام في استراتيجيات الهيمنة.

سمعتُ محللاً، خلال حوار عبر الأثير، يذكرنا بأبجديات تاريخ صراعات الأقطاب والدول والحضارات، وهي نفسها من أبجديات النظرية المعاصرة في علوم العلاقات الدولية، وهي نفسها ما نشأنا عليه في بيوتنا القديمة وتراث حواديت جداتنا. لقنتنا الجدات درساً قيماً من دروس عديدة قيمة، إن اشتبكنا في صراع مع حيوان في الغابة أو في الحي فواجبنا أن نحاول ألا نصيبه إصابة بالغة. لن يتركنا سالمين آمنين. هذا الحيوان أو الخصم المصاب يتحول إلى وحش كاسر لا يرى أمامه سوى الدم والانتقام ولن يفرق بين عدو وحليف. يعتقد هذا المحلل، وأنا اتفق معه وإن مع بعض التحفظ، أن الرئيس دونالد ترامب جرّب أن يجر الصين إلى اشتباك. تنبهت ولم تشجعه. كان هدفه تطوير الاشتباك إلى صراع حاد يعتمد في البداية على آليات التجارة والاقتصاد والحصار بالأحلاف، ثم بالجيوش وسباقات التسلح والفضاء. فشل ترامب، والمجموعة الأشد عدوانية في النخبة الحاكمة، في تحقيق الهدف خلال عهده. كان السبب في الفشل يكمن غالباً في المستوى المنخفض جداً لعلاقات الولايات المتحدة بمعظم حلفائها في ذلك الحين، وفي الوقت نفسه كان للرئيس بوتين موقف لا يشجع أمريكا على الاستمرار في مساعيها لإثارة ثم تصعيد اشتباكها مع الصين.

كان واضحاً أن هذه المجموعة الأشد عدوانية في منظومة صنع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، وفي ضمنها عمالقة شركات صنع السلاح وجماعات ضغط لها مصالح مستفيدة مباشرة أو عن طريق تنفيذ سياسات تثير أو تزيد التوتر في العلاقات الدولية في أقاليم معينة أو في العالم عموماً، أقول كان واضحاً أنها بعد الفشل الذي منيت به جهودها لإثارة توتر حاد في العلاقات مع الصين عادت في عهد الرئيس جو بايدن تركز خصوماتها على روسيا. هذه المرة كانت موسكو، على ما أتصور، واعية للدرس. الهدف النهائي ما يزال هو نفسه، وهو وقف أو تعقيد فرص صعود طرف جديد، وهو الصين، نحو مكان في القمة الدولية ومنع طرف مخضرم، وهو روسيا، من استعادة مكان على القمة فقده بانتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي ثم انفراطه. ما تغير فعلياً لا يخرج عن تعديل بسيط في الأسبقية، البدء بالصين أم بروسيا. الأمر المؤكد ألا يكون البدء بالاثنين معاً في ظروف أمريكا الراهنة وعلاقات الغرب بعضه بالبعض الآخر.

***

هنا ينعقد الأمل على الصين معتمدة على دعم العالم النامي، أن تتدخل في الوقت المناسب فتنقذ الغرب من نفسه وتمنع ذبح أوكرانيا وتضع روسيا على طريق جديد لم تسلكه من قبل وتستعيد لدول العالم النامي الأمل في مستقبل لا هيمنة فيه أو تسلط

لم يقرر الرئيس بوتين فجأة إعلان الرغبة في استعادة نفوذ روسيا في العالم وبالأخص في مواقع ريادتها السابقة. انتبهنا إلى قفزاته عبر سنوات حكمه من فوق تمددات حلف الأطلسي في وسط وشرق أوروبا نحو الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. استعاد لبلاده ممارسة التمدد حتى وصل النفوذ الروسي إلى أفريقيا الاستوائية. لم تكن أحداث أوكرانيا خلال السنوات الأخيرة غائبة عنه. أوكرانيا، بالنسبة لروسيا أياً كان لون الحكم فيها وحجم مسئولياتها الإقليمية والدولية، ليست مجرد دولة أوروبية أخرى أو دولة من دول الجوار، إنما جزء حقيقي من كيانها الثقافي والإمبراطوري والديني والأمني. كانت حاضرة دائما في ذهن النخبة السياسية الروسية، وبخاصة الجماعة الاستخباراتية، فكرة أن أمريكا حين تنوي قصقصة ريش روسيا البوتينية فسوف تبدأ من أوكرانيا وليس من جورجيا وبلاد الشيشان.

هناك على الناحية الأخرى ظهر جلياً أن الصين حاولت ونجحت في تفادي الوقوع في أكثر من شرك أمريكي في عهد ترامب وكذلك، ولكن بتركيز أقل جداً، في عهد بايدن. فلبايدن باع في صراع أمريكا مع روسيا لا يتوفر بالقدر نفسه في صراعها مع الصين. ومع ذلك فقد ساد توقع في الأكاديميات الصينية بأن أمريكا لن تنتظر حتى تُعمّر ما تَخرَّب وتهدّم وتدهوّر في البنية التحتية الأمريكية لتبدأ بعدها مواجهاتها الساخنة أو الباردة مع خصميها الروسي والصيني. توقعوا أيضاً، فيما يبدو، أن واشنطن سوف تعتبر روسيا تهديداً ثانوياً بالمقارنة بالتهديد الصيني ولكنها لم تكن لتبدأ بروسيا قبل أن يتكتل الحلف الأطلسي ويتوحد خلف أمريكا.

أعرف، بقدر من الدقة، أنه برغم عديد التغييرات التي دخلت على السياسة الخارجية الصينية لا يزال الحزب الشيوعي الصيني حريصاً على عدم الانجرار في ركاب أزمات دولية عويصة سواء مع الجيران أو مع غير الآسيويين. المؤكد أيضاً، من وجهة نظري، أن حكمة الرئيس الأسبق دينج تشاو بنج في هذا الخصوص لا تزال حاكمة وملزمة للحزب في عهد شي جين بينج، رئيسه الحالي.

إقرأ على موقع 180  بين عَبَدَة "الكرسي".. وعبيدهم!

ليس محل شك في دوائر صنع السياسة في الصين أن الهدف الأعلى لواشنطن، في استراتيجيتها المعلنة وحسب قواعد سياساتها غير المعلنة وبأغلبية الآراء في الحزب، لا يخرج عن تنفيذ خطة “وقف صعود الصين”. بكلمات أخرى، أن تعمل واشنطن بكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة لاستعادة الأحادية القطبية المطلقة التي حلت في أعقاب الانفراط السوفييتي، من “براثن طموحات الصين ونفوذها المتوسع في كل القارات بما فيها أمريكا الجنوبية”.

***

هكذا تصبح الأزمة الأوكرانية درساً جاء متأخراً وبالغ القسوة لروسيا ودرساً مبكراً وغير مباشر للصين. لذلك، ومن وجهة نظري على الأقل، فإن بكين لم تخطئ عندما لم تصطف وراء موسكو في هذه الحرب حليفاً كاملاً ومتكاملاً، فالشرك المنصوب في أوكرانيا كان يمكن أن يتسع للقطبين الروسي والصيني معاً لو تكاملت عناصر القوة لدى أمريكا. كذلك لم تخطئ في خطواتها التالية، ومنها استثمار ردود الفعل العالمية لتقيس بالدقة الواجبة ظروف خطواتها التالية. فللصين، كما يعرف الخبراء، هواية استجلاب أقوال وحكم وتجارب شخصيات في تاريخها المتواصل الحلقات. لديهم مثلاً في سجلات سياسات الصين الخارجية في أوائل مرحلة صعودها تجربة المشاركة في إطلاق حركة الحياد الإيجابي ثم في قيادتها. اليوم وفي ظل الأزمة الأوكرانية الخانقة، واللئيمة كما يصفونها، تعود إلى صدارة الموقف الصيني شعارات تنسب دائماً إلى شو اين لاي رئيس وزراء الثورة الصينية في منتصف عقدها الأول. من هذه الشعارات التعايش السلمي وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى واحترام مبدأ السيادة الإقليمية. المهم في ظروف أزمة أوكرانيا أن نذكر أن دول العالم النامي عادت تطرح هذه المبادئ تبرر بها غضب حكوماتها وشعوبها من صراعات الهيمنة التي يمارسها القطبان الأمريكي والروسي. صراعات تنشب بين الكبيرين وضحاياها من الصغار. يكفي الصين أن تردد الدول النامية هذه الشعارات الغاضبة أو المبادئ الموروثة لتدرك أن دوراً لصالح السلام ينتظرها لتقوم به. العالم النامي بأسره كشف بمواقفه من أزمة أوكرانيا تنديده بالطرفين، الطرف الغربي بقيادة أمريكا التي ماجت بجيوشها تغزو وتحتل دولاً ذات سيادة، لم تستأذن من مجلس الأمن وعموما لم تحترم قواعد سلوك هي نفسها كانت وضعتها وتطالب الآخرين باحترامها، والطرف الروسي الذي تدخل بجيوش أيضاً جرارة ليغزو ويحتل أوكرانيا الشقيقة، الدولة ذات السيادة ويخرب اقتصاداتها ويشرد ملايين الأفراد من شعبها.

الصين كقطب متمرد على طريق الصعود، مدعوة لتحمل مسئولية قيادة حركة تشنها دول مستقلة وغير منحازة بهدف وقف سلوكيات الهيمنة والاستعمار. بوجود الصين طرفاً متمرداً نكتشف الآن أن السلم العالمي لن يتحقق ويستقر ما لم يتخلَ القطبان الروسي والأمريكي عن عنصرية صريحة أو مستترة في الإصرار على أن تظل القمة الدولية حكراً للجنس الأبيض

نعم، الصين كقطب متمرد على طريق الصعود، مدعوة لتحمل مسئولية قيادة حركة تشنها دول مستقلة وغير منحازة بهدف وقف سلوكيات الهيمنة والاستعمار. بوجود الصين طرفاً متمرداً نكتشف الآن أن السلم العالمي لن يتحقق ويستقر ما لم يتخلَ القطبان الروسي والأمريكي عن عنصرية صريحة أو مستترة في الإصرار على أن تظل القمة الدولية حكراً للجنس الأبيض حصراً. أوكرانيا كانت ولا تزال أزمة كاشفة. أولاً: كشفت لشعوب العالم النامي زيف أوروبا عن حقوق الإنسان عندما ميزت معظم دولها بين النازح الأبيض أزرق العينين والنازح الأسمر والأصفر. ثانياً: كشفت عن حقيقة معتم عليها وهي أن الصين، وشعبها ضيق العينين أصفر اللون، يستحيل التصور أن تقود عالماً لا تزال تهيمن عليه قوى لا تزال تمارس العنصرية كما فعلت في أول أزمة كبرى تقع في أهم معاقلها، في أوروبا. ثالثاً: ترددت مقارنات صارخة بين تعامل أمريكا والغرب كما روسيا وجوارها الأوروبي في أزمة أوكرانيا وبين تعاملها فى الأزمة المستدامة بين الدولة الصهيونية وفلسطين.

***

كثيرة هي المسارات التي يمكن أن تسلكها أزمة أوكرانيا، أما أهمها وأخطرها فهو المصير الذي ينتظر العالم لو أن أمريكا ودولاً في أوروبا أصرت أن تجر روسيا إلى مهالك أو إلى مسالك أشد قسوة. هنا ينعقد الأمل على الصين معتمدة على دعم العالم النامي، أن تتدخل في الوقت المناسب فتنقذ الغرب من نفسه وتمنع ذبح أوكرانيا وتضع روسيا على طريق جديد لم تسلكه من قبل وتستعيد لدول العالم النامي الأمل في مستقبل لا هيمنة فيه أو تسلط.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  إلى البعض من أحبتي اللبنانيين.. لسنا في موناكو!