يقول المطران جورج خضر عن الدكتور حسين شعبان “إنه يقيم في الإسلام إقامة المؤمن وإقامة المؤرخ، أما المؤمن فيأتي من أبدية المصدر وأما قارىء التاريخ فمن رؤية الأزمنة تتغير ولكن يحل فيها التنزيل، والمسألة هي كيف تقرأ”؟
قد تستغرق في القراءة لفهم ما وراء الكلام من تأويل وتفسير، وتشعر بمسؤولية كبرى في خوض غمار الفقه والفتاوى والتحريم والتحليل والردة والمرأة، والنقد “كأفضل أداة تنمية وتطوير إكتشفها الإنسان”، بحسب ايمانويل كانط.
يقول الشاعر البريطاني توماس ستيرنز أليوت نحن بحاجة إلى ثلاث قضايا للتطور: المعلومة والمعرفة والحكمة، والأخيرة هي الأعلى درجة.
ويقول كونفوشيوس إن الحكمة تعني معرفة الناس أما الفضيلة فهي حبهم.
***
حين قرأت كتاب د. عبد الحسين شعبان بعنوان “دين العقل وفقه الواقع” تهيّبت أنا غير المُتدينة في مقاربة فهرس الكتاب ما أن وقعت عيناي عليه، ولكن سرعان ما وجدت نفسي منجذبة إلى سلاسة الموضوعات، وإلى إكتساب ثقافة كنتُ أغيّبُ نفسي عنها لأسباب عديدة. وسرّني كثيراً أن أنحاز مرة إلى السيد أحمد الحسني البغدادي وأصفق له، حين يقر بوجود شوائب عالقة بالدين تشوّه الغاية التي رمى إليها وهو الإنسان والإنسانية، هو العارف بالدين وببواطن الأمور، وأخرى للدكتور عبد الحسين شعبان أحيّيه على جرأة وشجاعة نادرتين في استنباط الرأي السديد والإرتقاء بالمناقشة إلى مستويات فلسفية وسوسيولوجية بخلفية المفكر الموسوعي المتحرر من سطوة الإيديولوجيا ومن تسلّط الفكر الديني وجموده. وهل بغير الموضوعية يستقيم المنهج العلمي وتستقيم الفكرة والعبارة؟
لا بدّ من الإعتراف أيضاً أن سعة صدر وعقل السيد أحمد الحسني البغدادي، ساهمت في دفع الحوار إلى الأعلى بغض النظر عن تطابقه رؤيته أو إختلافها مع رؤية شعبان الأكثر ميلاً نحو العلم والعقل والتنوير والسلام.
“دين العقل وفقه الواقع”، كتاب ثريٌ جداً لغةً ومراجعَ وأفكاراً، وهو يشبه صاحبه الموسوعي الذي يُصرُ على السباحة في هذا الكون كمن يتعلم أواليات الأشياء، بلا يقين ثابت ولا أي نوع من أنواع الجمود الذي يحيط بالأيديولوجيا
يساري بنشأة نجفية
قبل الخوض في الكتاب، لا بد من التعرّف إلى نشأة شعبان “ففي المنزل الذي وُلد فيه في “عكَد السلام” في النجف، كان صوت القرآن الكريم مدوّياً وهادراً، حيث يفتتح والده نهاره بقراءة القرآن وظلّ على عادته تلك طوال أيام حياته ولقد شكّل القرآن أحد الروافد الروحية الأساسية في تكوينه وفي منظومة القيم التي تأثّر بها لاحقاً خصوصاً: الخير والمروءة ومساعدة الفقير ونصرة المظلوم والدفاع عن الحق والانحياز إلى العدل والرحمة والتسامح وغيرها”. وفي مرحلة نشأتي الأولى تلك يقول شعبان: “اطّلعت على “نهج البلاغة” للإمام علي، وهو ما دفعني لاحقاً للاطلاع على المذاهب الأربعة، وفيما بعد على الإنجيل، إضافة إلى البوذية وتعاليمها”. كان أهله من ذوي الميول اليسارية التقدمية، غيرَ أنهم يخالطون شخصيات من أعراق ومذاهب شتى، فأصبح منذ نشأته معتاداً على التنوع الفكري والمجتمعي.
لا بدّ وأن تلك النشأة النجفية من عشيرة تتولى رئاسة الخدمة في العتبة العلوية (مقام الإمام علي) قد حصّنت عبد الحسين شعبان ضد التكفير ودعاوى التفريق وغيرها، بعدما طالت سهام الاتهام كتّاباً ومفكرين تجرأوا على “نقد الدين” أو بعض ما ألصق به وتناول موضوعاته الحساسة، ويحضرني الآن الدكتور نصر حامد أبو زيد في نقد الخطاب الديني وغيره العشرات ممن طالتهم الحملات التكفيرية، أو ممن راحوا ضحية التعصّب والتطرّف الديني والمذهبي مثل حسين مروّة ومهدي عامل (حسن حمدان) ومحمد محمود طه وآخرين، الأمر الذي لا ينكره الدكتور شعبان في أكثر من زاوية في كتابه.
هل كان ليجرؤ مفكر من بيئة يسارية علمانية على خوض هذه المغامرة؟ أقول نعم، لكن نصيبه من التعرّض للتشهير على أقل تقدير وصولاً إلى إقامة حد السيف، سيكون كبيراً، بل ستلحق به شتّى الاتهامات إذا كان من دين آخر أو مذهب آخر.
نقد الخطاب الديني
لا ينطلق النقاش من السؤال الأول في الوجود هل الله موجود أو غير موجود؟ يتجاهل الكاتب هذا السؤال وإن يفتح مناظراته حول الإيمان واللّاإيمان واضعاً إياه في إطاره الفلسفي الأشمل مع سلسلة من الأسئلة المطروحة على حلبة الصراع الكونية. الدين أمر واقع فعلاً وعلينا أن نتعامل مع المشكلات التي تنبثق عنه وهذا يتفق مع نظرة شعبان المادية الجدلية التي لا يخفيها، مستفيداً من سعة إطلاعه على الفكر الديني وممارسة طقوسه من الداخل والخارج، بل أنه يتحدّث وكأنه من داخل المؤسسة الدينية التي يعرف خفاياها وخباياها ونقاط قوّتها ونقاط ضعفها في آن، لذلك حين ينتقدها يقدّم رؤية للإصلاح من داخلها ومن عمق الدولة ومسؤوليتها أيضاً في إطار وضع الدين في مكانه الصحيح، خصوصاً حين يخضع كلّ شيء للدولة وقوانينها العامة الموحدة.
سألت نفسي هل يستقيم الحديث عن إعمال العقل في ضوء سيطرة المسلمات الغيبية التي تغرق فيها الأمم الإسلامية بعدما تفككت وتحللت وصارت قبائل متناحرة ومتأخرة عن ركب الحضارة ونهر المعلومات الهادر؟
نعم إنها جرأة ما بعدها جرأة في مقاربة مواضيع الدين في عقر داره. ولكنها الجرأة المطلوبة لتحديث الخطاب الديني، وحسب شعبان باقتفاء أثر هوبز لا بدّ من إصلاح الفكر الديني أو المجال الديني لكي يصلح الخطاب عن طريق الإعتراف بوجوده أولاً، ثم مخاطبته بلغته وإحداث هزة في الوعي بغية إزالة شوائب التكفير والإرهاب التي ألحقها بعض من يسمون أنفسهم “رجال دين”، على الرغم من عدم وجود هذه المرتبة في النصوص الإسلامية وإنما هي مستحدثة إجتماعياً، لتسليط فئة على فئة وهيمنتها اجتماعياً وإقتصادياً لأهداف سياسية بحتة وأغراض خاصة.
هكذا نفهم كل أنواع الإنقسامات، الشيعة والسنة، المذاهب الأربعة وإختلافات فقهية بين مرجع ديني وآخر غيره، ناهيك عن استهداف المسيحيين وأتباع الأديان الأخرى، وهو ما عاشه شرقنا العربي في مرحلة ما بعد الإحتلال الأميركي للعراق وحتى يومنا هذا.
ولكن هل يكفي إنكار بعض الأفكار المنسوبة للأحاديث النبوية، حتى ننفي التهمة عن الإسلام بأنه دين متخلف يقتل ويُحقّر المرأة ويُكفّر الرأي الآخر إلى حدّ القتل، وصولاً إلى تحريم الغناء والموسيقى، الأمر الذي يتنافى مع أبسط مبادىء شرعة حقوق الإنسان في العصر الحديث؟ ألا ينبغي التطرق إلى النصوص نفسها ومتابعة زمانها ومكانها وتسلسلهما؟
نقد الماركسية أيضاً
يحضرني قول كارل ماركس الرائج الذي يجتزئه العامة بوصف “الدين أفيون الشعوب”، وكأنه مخدّر يوقف حركة الإنسان ويعيقه، فيما لو أخذت جملته في سياقها الأصلي لإختلف المعنى. لقد قصد ماركس منها، أن الدين نفسه هو منتج بشري، وهو جوهر معاناة الإنسان والإعتراض عليها، وقد فسّرها بعض أنصاره خطأً وبالغوا فيها إلى درجة ظهروا وكأنهم ضدّ الدين، وعن قصد فسّرها أعداءه ووظّفوها ضدّ الماركسيين باعتبارهم ملاحدة، لكن شعبان من خلال العديد من كتاباته بما فيه كتابه “تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف” وكتابه الآخر “الحبر الأسود والحبر الأحمر: من ماركس إلى الماركسية” أعاد الاعتبار لهذه العبارة بوصفها قيلت عن العلاقات الملموسة في الدولة البروسية والكنيسة البروتستانتية في ألمانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر وكان ماركس نفسه قد اقتبسها من عمانوئيل كانط، حيث وردت في كتابه “الدين في حدود الفعل البسيط” استناداً إلى التطمينات التي كان الرهبان يقدّمونها عند رؤوس الموتى، فوظيفة الدين وأسباب حاجة البشر إليه حسب ماركس باعتباره “الزهرة الوهمية على قيد العبد” أو “زفرة المقهور”.
اتفق مع شعبان والبغدادي في تحميل مسؤولية إنحدار وتدهور الدين إلى مجموعة من البشر يسمون أنفسهم رجال الدين، وبينهم الصالح والطالح، وهم يخطئون ويصيبون، ولا يمكن أن يكونوا أكثر فهماً ودراسة من رجال العلم في مختلف ميادين الحياة
ووفقاً لمحاورتي مع شعبان نفسه، فقد انتقد بعض أطروحات ماركس بشأن انقراض الدين واعتبرها غير صحيحة وهو ما تدحضه الحياة ذاتها، وقد حاول غرامشي من بعد ماركس إعادة النظر بالمسألة الدينية استناداً إلى “البراكسيس” (الممارسة الثورية المتحررة فكرياً) وهو ما يستنتجه شعبان عن الدين الذي يعتبره ظاهرة دائمة ترتبط بالوعي والثقافة وهو تعبير عن الإحساس المشترك الذي علينا إدراكه والتعامل معه من موقع نقدي وليس من موقف النفي أو الضد، وخصوصاً لبعض ما علق به ويتعارض مع العقل. ويفرّق الكاتب بين الدين والقيم الدينية وبين التديّن والممارسة الدينية بما فيها من طقوس وشعائر.
المشكلة الإسلامولوجية
يتألف كتاب “دين العقل وفقه الواقع” من مجموعة من المناظرات التي وقعت بين مؤلفه عبد الحسين شعبان والسيد أحمد الحسني البغدادي وقد بلغت ما مجموعه ثماني عشرة مناظرة وثّقها في القسم الثاني من الكتاب، أما القسم الأول فخصصه للإطار المنهجي والمفهومي متطرقاً إلى حيثيات المناظرات ومحتواها، من الحداثة والتقليد، إلى الوعي بالتاريخ والاجتهاد بالإسلام وصولا إلى جوهر النقاشات التي تدرس الإسلام والحداثة، والديني والعلماني، وفكرة الدولة الإسلامية ومسائل الفكر الديني والإصلاح.
في القسم الثاني ولوج إلى لب المناظرات بما هي مبحث إصلاحي يهدف إلى تجديد الفكر الديني وتحديثه من ضمن الأطر المتاحة.
مروحة واسعة من العناوين الهامة طالتها المناظرات ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الإيمان واللّاإيمان، الدين والإرهاب، الدين والعنف، بين المقدس والمدنس، النقد والنقد الذاتي لرجال الدين، في نقد مبدأ التقليد، الفتوى وضروريتها، الطائفية، المواطنة، الأوقاف، الفدرلة، العصمة، المرأة هل هي ناقصة عقل ودين، الردة والمرتد، الطاهر والنجس، العصمة والمعصوم وعلم الغيب إلخ.
في حقيقة الأمر كنت أود تناول مناظرة المرأة، غير أنني سرعان ما غيّرت رأيي حين تعمقت في المناظرة الخامسة التي تتناول نقد رجال الدين لا بل أن نقرأ نقداً ذاتياً بلسان أحد كبار فقهاء الدين (آية الله السيد أحمد الحسني البغدادي). ويبدو أنني اتفق مع شعبان والبغدادي في تحميل مسؤولية إنحدار وتدهور الدين إلى مجموعة من البشر يسمون أنفسهم رجال الدين، وبينهم الصالح والطالح، وهم يخطئون ويصيبون، ولا يمكن أن يكونوا أكثر فهماً ودراسة من رجال العلم في مختلف ميادين الحياة.
يظهر شعبان بمنهجه الجدلي المادي ليخضع كل الأفكار والرؤى والطقوس والنصوص لمشرحة النقد، فلا شيء يُطوّر ويُنقذ الإنسان من الركود إلّا النقد العلمي، وإعمال مبدأ الشك الديكارتي بكل ما يتنافى مع العقل
في هذا الفصل يروي الكاتب طرفة عن مقاربة علي شريعتي وهي تلخص محتوى الفكرة فيقول “بين الجلوس في المسجد والتفكير بالله، أفضل المشي في الشارع وأنا أفكر بالله على الجلوس بالمسجد وأنا أفكر في حذائي”، وفي قوله إشارة واضحة وصريحة إلى تجار الدين. وقد وصفهم كارل ماركس أنهم يفكرون ستة أيام في جمع المال، ويوماً واحداً في الدين.
هنا يظهر الكاتب بمنهجه الجدلي المادي ليخضع كل الأفكار والرؤى والطقوس والنصوص لمشرحة النقد، فلا شيء يُطوّر ويُنقذ الإنسان من الركود إلّا النقد العلمي، وإعمال مبدأ الشك الديكارتي بكل ما يتنافى مع العقل.
نجح شعبان في الإضاءة على كثير من مواطن المشكلة الإسلامولوجية (أي استخدام التعاليم الدينية بالضدّ منها في إطار نسقي مغلق)، وعمّق التفكير فيها وتناول مسائل غاية في الحساسية غايته في ذلك ليس تهشيم الإسلام ولا مناصرته، وإنما تفعيل النقاش الذي يؤدي إلى تحسين طرق عيش المسلمين وجعلهم يندمجون بركب الحضارة في ضوء احترام فكرة التعددية والتنوع ضمن الدين الواحد وخارجه، وصولاً إلى حق الفرد بأن لا يكون مؤمناً بالضرورة.
قد يكون أغفل بعض القضايا عمداً كي لا يُحرج صاحبه أو أنه قرر تأجيلها إلى موعد آخر وكتاب آخر. مثلاً، كنت أودّ أن أقرأ عن رأي السيد البغدادي بخصوص تحريم الموسيقى والغناء، ألِأن الموسيقى تدخل إلى القلب مثل الدين ويخشى مزاحمتها؟ أيضاً رأيه في “سن الحضانة”، وبما تضج بها المحاكم من قصص الظلم والفساد تحت العمائم المتلطية بجمود النص لإخفاء ذكورية مقيتة على المستوى الإنساني؟
خاتمة
“دين العقل وفقه الواقع”، كتاب ثريٌ جداً لغةً ومراجعَ وأفكاراً، وهو يشبه صاحبه الموسوعي الذي يُصرُ على السباحة في هذا الكون كمن يتعلم أواليات الأشياء، بلا يقين ثابت ولا أي نوع من أنواع الجمود الذي يحيط بالأيديولوجيا.
هذا النوع من المؤلفات يضيف إلى مكتبتنا العربية وإلى الفكر العربي والإسلامي إسهاماً يُعزّز إمكانية الخروج من الأزمنة المظلمة التي نرقد فيها منذ قرون بعيداً عما وصل إليه العالم من تطور في مختلف نواحي الحياة.