“الأسطورة كلام، ولكن ليس أيّ كلام”، يقول الناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه “اسطوريات”. في الحالة الخواجية، الشخصية الغامضة تكاد تكون هي الأسطورة، لكثرة ما ينسب إليها أو ما ينسج حولها من حكايات، بعضها يمت بصلة إلى الحقيقة، وبعضها الآخر، من صنع الخيال اللبناني.. حمّال الحكايات و”الخبريات”. أما “الأسطورة” نفسها، فقد قررت أن تقبع في مربع الغموض والأسئلة والظلام، وهي الصورة التي يشتهيها الرجل لنفسه، وهو المعروف بحبه لعالم الليل والسهر وإبتعاده عن النهار والضوء والصفوف الأمامية.
لمع نجم علاء الخواجة، لبنانيا، في السنوات الثلاث الأخيرة. قبل ذلك، كان بعض الجمهور اللبناني، يعرف إسمه جزءا من عالم الفن والنجوم والمشاهير في مصر. هناك، تزوج فنانتين مصريتين صديقتين، هما شريهان وإسعاد يونس، قبل أن “يُقنع” سيدة لبنانية بالطلاق من زوجها رجل الأعمال البيروتي، حتى تصبح زوجته الحالية. هنا، يصبح المال وسيلة لـ”إقناع” زوجة وشراء حصة وعقار ومصرف وأرشيف.. والأهم صمت إعلام وإعلاميين.
إحتجز سعد الحريري في الرياض في خريف العام 2017، وأجبر على الإستقالة. لاحقاً، ساهمت أدوار محلية وإقليمية ودولية في إعادته إلى بلده وعائلته وجمهوره.. والأهم حكومته.
في هذه اللحظة السياسية، بدأ يسطع إسم علاء الخواجة. خرج من الهمس إلى العلن، وهو مسار كان قد بدأ غداة إنتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية وعودة سعد الحريري إلى السرايا الكبير في نهاية العام 2016.
في البداية، قيل إن هذا الرجل مكلف من الديوان الملكي السعودي بالوصاية المالية على الحريري، ربطا بحادثة “الريتز” وإسترجاع أموال من شخصيات سعودية، بينها الحريري، وصولا إلى إفلاس أمبراطورية “سعودي أوجيه”.
منذ تلك الفترة، بدأ الخواجة يتحرك ضمن دائرة ضيقة من رجال الأعمال والسياسيين والصحافيين وأهل المجتمع… وحتما لن يفصح الرجل عن هوياته، الفلسطينية، الأردنية، المصرية، اللبنانية وعلاقاته المتشعبة في أربع جهات الأرض.
قد تجلس معه على طاولة واحدة في أحد مقاهي العاصمة، وتسأله متى يأتي الخواجة علاء، فيجيبك “أنا علاء الخواجة”، وهي واقعة ــ ربطا ببنيانه المربوع ـــ تشي أنك أمام رجل عادي، مُلتح، بلا ربطة عنق في أغلب الأحيان.
يذكرنا علاء الخواجة بمسلسلات وأفلام قديمة بالأسود والأبيض. يتفق عارفو الرجل على أن المقاطع الأولى من “مسلسله” سجلت في مصر تحديدا. صداقات قوية معطوفة على منظومة مصالح متصلة بالنظام في زمن حسني مبارك. نساء وفن ونجوم وسياسة. المحصلة هي الفوز بأرشيف مصر الفني، السينمائي، التلفزيوني، الموسيقي، وإنشاء شركة لهذه الغاية، مع صديقه أحمد نجل الكاتب العربي الراحل محمد حسنين هيكل. لاحقا، أمكن للشركة، بيع هذا الأرشيف الضخم إلى “الجائزة الكبرى” الأمير الوليد بن طلال (روتانا). مع هذه الصفقة، حقق الخواجة وشركاؤه ثروة كبيرة، ولو أن الأمر إستدعى رفع دعاوى من متضررين وإندلاع سجالات، أخرجت، في حينه، إسم علاء الخواجة إلى العلن في الصحافة المصرية.
في لحظة ما، وحسب مؤسس “موسوعة المعرفة” الدكتور نائل الشافعي، قررت منظمة التحرير الفلسطينية إستبدال محمد رشيد تركماني حامل محفظة وإستثمارات ياسر عرفات من عضوية مجلس إدارة “أوراسكوم للإتصالات” بعلاء الخواجة، قبل أن يؤول أمر هذه الشركة المصرية كلها إلى المليونير اليهودي الروسي ميخائيل فريدمان. إختفى إسم الخواجة، كما تركماني، وكأنهما لم يمرا على مجلس إدارة “اوراسكوم” التي إرتبط إسمها بإسم رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، الذي تدير شركته حاليا شركة “الفا” اللبنانية.
وإذا كانت شخصية الخواجة المصرية إرتبطت بفن وفنانين، إلا أنها كانت وثيقة الصلة برجال أعمال من صنف آل مبارك وآل هيكل وآل ساويرس. ينسحب ذلك على شخصياته الأخرى، ولو أنها إرتبطت أكثر بـ”البزنس” وتراجع حضوره بين نجوم الفن. علاقة وطيدة بالملك الأردني عبدالله الثاني ورجالات النظام والديوان ولا بأس من محفظة أعمال صغيرة في عمان.
الصيت العراقي، حسب رجل أعمال مصري، “إرتبط بدخوله في شراكة مع أحد رجال الأعمال العراقيين في زمن صدام حسين، أفضت إلى خلافات وإنسحابه وترك علامات إستفهام حول حقيقة نظرة الأميركيين إليه”.
الخواجة يشكل ركيزة في منظومة يبدو أن أحد أبرز أساساتها “تركيب الطرابيش” في هذا المشروع أو ذاك
ولأن لبنان منصة سياسية ــ إعلامية ــ إستخباراتية، لم يكن مرور علاء الخواجة فيه، بالطريقة التي يشتهيها دوما. رجال سياسة يصوبون عليه من أجل الفوز بوريقة صغيرة من دفتر شيكاته. مؤسسات إعلامية تنال “مبتغاها” مقابل مطلب صغير لا بل متواضع جدا: لا تذكروا إسمي نهائيا، لا مدحا ولا هجاء. المطلوب فقط إهمال سيرتي، وليقل هذا وذاك ما يريد. لست محتاجا لمن يدافع عني، كما ينقل عنه أحد الزملاء الإعلاميين.
قاعدة ذهبية تعفي من يبرم تفاهما شفهيا معه، في أن يتحرر من الزجليات اللبنانية التي تلزم هذه المؤسسة أو تلك بكيل المديح لهذا المتمول (السياسي أو غير السياسي) أو ذاك. يساعده في حماية هذه الصياغات، فريق قانوني محترف، خصوصا وأن الخواجة يشكل ركيزة في منظومة، يبدو أن أحد أساساتها “تركيب الطرابيش” في هذا المشروع أو ذاك. إذا أصاب المشروع يربح، وإذا كان مهددا ينسحب بهدوء شديد.
إستفاد علاء الخواجة في المرحلة الأولى من منظومة علاقات حريرية أبرزها مع نادر الحريري (إستمرت العلاقة بينهما حتى من بعد إبعاد مستشار ومدير مكتب رئيس الحكومة السابق، وهما يلتقيان في أغلب الأحيان في العاصمة الفرنسية). إتخذت ترجمة “الوصاية” على سعد الحريري أشكالا عدة من الشراكة، منها شراء حصة أيمن رفيق الحريري في مجموعة البنك المتوسط بمبلغ قدره 1.267 مليار دولار، مع حق الإدارة والتوقيع والتطهير والتوظيف. لدى تدقيق أحد المصرفيين، يتبين له أنه من أصل هذه الحصة، “هناك حوالي 75 في المئة منها لشركاء آخرين بينهم الأخوان تيدي وريمون رحمة”. الأخيران ملاحقان من الأميركيين ومهددان بأن يصبحا على لائحة “اوفاك”، وهو أمر يطرح علامات إستفهام حول كل شراكاتهما وشركاتهما ومشاريعهما (ومنها معمل دير عمار في شمال لبنان، الذي وقع عقده قبل سنة ونصف تقريبا وما يزال حبرا على ورق، على سبيل المثال لا الحصر).
والمعروف أن الخواجة بإستحواذه على 42.24 في المئة من بنك المتوسط، تكون باقي الحصص موزعة كالآتي: 42.24 في المئة لسعد الحريري، ولها شروطها مع علاء الخواجة، والباقي (15.52 في المئة) للسيدة نازك الحريري.
ويشترط الخواجة على الحريري أن يسدد هو وجماعته القروض التي فازوا بها من “المتوسط” في عز “ثورة الأرز”، ومن أبرز هؤلاء “رئيس وزراء سابق يرفض حتى الآن تسديد قرضه الذي يقدر بعشرات ملايين الدولارات، بينما سارع مؤخرا فريد مكاري (نائب رئيس مجلس النواب السابق) إلى تسديد قرضه البالغ حوالي ثلاثين مليون دولار، بعد تسييل أحد عقاراته خارج لبنان مؤخراً”، يقول أحد العاملين في بنك المتوسط.
وبينما يتجه الخواجة، حسب المصدر نفسه، إلى رفع دعوى قضائية ضد رئيس الوزراء الأسبق، فإنه تفاهم مع رئيس الوزراء الحالي على جدولة ديونه للمصرف تحت طائلة إما وضع يده على حصة حريرية جديدة في “المتوسط” أو وضع المصرف يده على بعض العقارات التي يملكها سعد الحريري ومنها “بيت الوسط”.
لم تتوقف أعمال الخواجة على لبنان، ومنها مشروع الطاقة بالرياح في عكار، دير عمار، سوليدير، بنك المتوسط، “مشروع القمم”
وللخواجة حصة في الإعلام الأزرق، ولو من نافذة الإقفال القسري لتلفزيون “المستقبل”. هنا، تبدو القضية ملتبسة. لا يخفي الرجل وجهة نظره، وهي أقرب ما تكون إلى وجهة نظر آخرين في الفريق الحريري. كان ينبغي على سعد الحريري إقفال الشاشة الزرقاء وإغلاق جريدة المستقبل وإذاعة الشرق ومواقع المستقبل الإلكترونية فور عودته إلى لبنان، بعد غيبته الطويلة عن بيروت وتراكم الديون (رواتب مؤجلة للموظفين والمتعاقدين وتعويضات لا تدفع لمن صرفوا وإشتراكات متراكمة للضمان). هذا الأمر الواقع، وهو نتاج تأجيل إتخاذ القرارات ترافق مع إرتفاع ديون الحريري في كل القطاعات، ما جعله يرهن معظم عقاراته وعقارات المستقبل، تيارا ومؤسسات إلى بنك “ميد”.
ووفق الإتفاق بين الحريري والخواجة، فإن الأول، سيبلغ التيار الأزرق أن النسخة الجديدة لتلفزيون المستقبل الإخباري، بفريق مصغر وبتقشف إداري وبرامجي، لن يكون هو المسؤول عنها، بل ستكون في عهدة علاء الخواجة بالكامل. الهدف هو أن يحرر الحريري نفسه من فكرة التوظيف السياسي، خصوصا وأن حجم المطالب والتدخلات، حتى من داخل البيت الحريري (العمة بهية وأحمد الحريري ونازك الحريري إلخ..)، “كبير جدا ويتسبب بوجع رأس”.
بطبيعة الحال، لم تتوقف أعمال الخواجة على لبنان، ومنها مشروع الطاقة بالرياح في عكار، دير عمار، سوليدير، بنك المتوسط، “مشروع القمم”، وهو مشروع يهدف إلى إقامة مجمعات سياحية شبيهة بفقرا والزعرور والأرز في عدد من المرتفعات الجبلية الممتدة من الشمال إلى الجنوب. ثمة أعمال أخرى في بلدان أخرى، عربية وأجنبية.
وإذا سئل الخواجة من القريبين أو البعيدين، يكون جوابه واحد: لست رفيق الحريري الجديد، ولا طموحات سياسية عندي، أنا فقط من جماعة “البيزنس”. يوحي رجل الأعمال المتعدد الجنسيات بكرهه للسياسة والسياسيين، من لبنان إلى آخر زاوية في الكون.
الأكيد أنه يستطيع “تدوير” السياسة في خدمة الأعمال من خلال منظومة علاقات سياسية، بحيث لا تهمل الأرباح أحدا. هل يمكن تسميتها بغير “منظومة حماية وفساد وإفساد”؟ منظومة تعطي دفعا للسياسة. تفاهمات على الأعمال في باريس تؤدي إلى تسريع ولادة حكومة سعد الحريري بعد شهور طويلة من التكليف والإنتظار. منظومة تتمدد وتجعل الخواجة يطل على باريس من خلال إستحواذه سابقا على “أوجيه انترناشيونال” الفرنسية، فيكون أحد أبرز رجال الأعمال العرب المنخرطين في أعمال مصرفية ونشاطات تمويلية وعقارية وفندقية، كما في مجال التيليكوم والطاقة.
تطرح ظاهرة علاء الخواجة أسئلة لبنانية، خصوصا وأن لبنان عرف هكذا نماذج في الماضي القريب، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، روجيه تمرز، الرجل الذي يوحي بكلماته وملامحه، أنه عائد للتو من إحدى صفحات التاريخ، لكن بفارق أن تمرز كان يمني نفسه بأدوار سياسية من رئاسة الجمهورية إلى اللعب على خط تماس الدول.
تطرح هذه الظاهرة إشكالية تكاد تخنق الواقع اللبناني بأسره: تاريخيا، هناك أكثر من سلطة في لبنان. سلطة الدولة. سلطة الأمن. سلطة الإعلام. سلطة المال والمصارف إلخ…
الخطورة اليوم أننا ننتقل من مرحلة “السلطة” إلى مرحلة “الديكتاتورية” المقنعة أو الخفية. رجال أعمال يكاد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة: علاء الخواجة. جهاد العرب. تيدي وريمون رحمة. طوني فاضل. لو راجعنا سيرة كل واحد من هؤلاء، سنحاول أن نتباهى بأن بينهم “المخترع” و”الفدائي” و”الخارق” والمقاول الأول في الجمهورية وحتما ميزة كل هؤلاء أنهم “قامات” عابرة للطوائف والمناطق والأحزاب، وهم بمعظمهم من فئة “متعددي الجنسيات”!
هؤلاء هم الحزب اللبناني الأول، في يومنا هذا. حزب يحرّك رجاله من وراء الستارة. لا يترك بصمات. يفوز بالصفقات. لا يحب المنغصات. لا بأس بتوزيع مغانم ومكافآت، ولكل حسب حجمه ونفوذه وتأثيره.
هل هذا لبنان الذي نعرفه ونطمح إليه. إسألوا “غوغل”. سيجيب: حتما لا. هذا لبنانهم. أهلا وسهلا بكم في جمهورية ديكتاتورية المال.