تبرز دولة الإمارات، مراراً وتكراراً، باعتبارها من أهم شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبسبب قدراتها العسكرية غير المتناسبة مع حجم مساحتها الجغرافية الصغير، لقبها وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس بـ”أسبرطة الصغيرة” Little Sparta(**) ووفقاً لهذا المنظور تُعتبر أبو ظبي الحليف الحيوي بالنسبة إلى واشنطن؛ في ردع إيران، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز الإستقرار الإقليمي.
أصبحت الإمارات، في الآونة الأخيرة، تُعتبر عنصراً فاعلاً في مهمة تحقيق رغبة واشنطن “للتخفيف والتخلص” من أعبائها الإقليمية في الشرق الأوسط ما يساعدها في المضي في إستراتيجية الإستدارة نحو آسيا. ولا يُعكر وجهة النظر هذه كل ما ترتكبه الإمارات من تجاوزات مثل إنخراطها في صراعات إقليمية، وتورطها بانتهاكات ضد حقوق الإنسان، وما إلى ذلك، طالما أن مثل هذه الأفعال لا تضر بمصالح الولايات المتحدة بشكل مباشر. فالإمارات تبقى رمزاً للإستقرار والتقدم في منطقة مضطربة.
شريك أمني
يبدو أن إدارة الرئيس جو بايدن أيضاً تقبل بهذا الوضع، فقد وافقت على بيع أبو ظبي أسلحة بقيمة 23 مليار دولار (تشمل طائرات من طراز F-35)، وهي الصفقة التي كانت إدارة دونالد ترامب قد بدأتها. كما أشادت إدارة بايدن بالإمارات باعتبارها “[شريكاً] أمنياً رئيسياً” للولايات المتحدة. وبعد انتخابها مؤخراً عضواً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لفترة عامين تبدأ في شهر كانون الثاني/يناير 2022، يبدو أن “Little Sparta” مستعدة الآن لمساعدة الولايات المتحدة في تعزيز مصالحها المشتركة حتى على الساحة العالمية.
السلوك السيء للإمارات يُضر بالمصالح الأميركية في الشرق الأوسط وفي الداخل
لكن هذا النهج معيبٌ للغاية.. فبرغم التفاؤل الذي أبداه أتباع وجهة النظر هذه التي تقول بأن الإمارات حليف قوي، إلا أن تجاهل السلوك “المارق” لهذه الدولة قد أضر بمصالح الولايات المتحدة، ليس فقط داخل منطقة الشرق الأوسط ولكن في الداخل الأميركي أيضاً.
السياسات التي اتبعتها وتتبعها الإمارات في الشرق الأوسط هي بطبيعتها مزعزعة للإستقرار، وساهمت في تفاقم العديد من الحروب الأهلية الدائرة في المنطقة، وانتهكت العديد من القوانين الدولية، كما أنها تعمل وبنشاط على تقويض محاولات التغيير الديموقراطي التي تجري في المنطقة. أضف إلى ذلك، أن هناك محاولات متكررة من قبل الإمارات للتدخل في السياسة الداخلية للولايات المتحدة وعلى أعلى المستويات، كما أنها لا تنفك تمارس أفعال المراقبة والتجسس على دبلوماسيين ومسؤولين حكوميين في جميع أنحاء العالم.
أسطورة الاستقرار الاستبدادي
تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم لهؤلاء “الحلفاء” الذين تسعى إلى حصر مصالحها معهم في الشرق الأوسط قبل أن تتحول إلى مسارح أخرى. كما على واشنطن محاسبة أولئك الذين يسعون للتدخل بشكل غير قانوني في سياستها الداخلية. وللقيام بذلك، يجب عليها تمزيق “الشيك على بياض”، أو الشيك المفتوح الذي تتعامل به مع الإمارات.
منذ عقود، سيطرت السياسة الأميركية على الشرق الأوسط من خلال ما يُشار إليه باسم “أسطورة الاستقرار الاستبدادي”. يشير هذا المصطلح إلى الاعتقاد الخاطئ بأن الحُكام المستبدين في الشرق الأوسط “بإمكانهم حماية المصالح الأميركية من خلال فرض نظام سياسي وإجتماعي معين على المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة”. ومع ذلك، “فإن العكس هو الصحيح: هذه الأنظمة الاستبدادية هي المصدر الرئيسي لعدم الإستقرار في الإقليم، سواء من حيث طبيعة الحُكم السائد فيها أو السياسات المتبعة”، كما يقول نادر هاشمي، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة “دنفر”.
الإمارات العربية المتحدة هي مثال لـ”أسطورة الاستقرار الاستبدادي” هذه: الافتقار إلى المساءلة في الداخل، والشيك على بياض الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة شجّع أفعالها التي تزعزع الاستقرار في المنطقة وتهدد المصالح الأميركية في الوقت نفسه.
برزت دولة الإمارات؛ الغارقة بالأسلحة الأميركية المتطورة والحديثة؛ كواحدة من أكثر الدول تدخلاً في شؤون المنطقة، وتتبع سياسات ساهمت في إطالة أمد الحروب الأهلية الدائرة هنا وهناك، وخلقت أزمات إنسانية، وسحقت محاولات كانت تتطلع لتغيير ديموقراطي، وغذَّت مظالم كامنة أدت إلى اضطرابات.
في مصر مثلاً، لعبت الإمارات دوراً أساسياً في دعم انقلاب 2013 الذي أطاح بمحمد مرسي المُنتخب ديموقراطياً في ذلك الوقت وعيّن عبد الفتاح السيسي حاكماً، وسارعت إلى تأمين مساعدات اقتصادية كبيرة في أعقاب الانقلاب.
وفي سوريا، أظهرت الإمارات مساندتها للرئيس السوري بشار الأسد من خلال دعم التدخل العسكري الروسي في عام 2015، والمشاركة مع موسكو في “عمليات مكافحة الإرهاب”، وإعادة فتح سفارتها في دمشق في عام 2019، وحث جامعة الدول العربية والمجتمع الدولي لإحتضان الأسد بعدما أثنت عليه ووصفت قيادته بـ”الحكيمة”.
أما في ليبيا، فقد قدمت أبو ظبي دعماً اقتصادياً وعسكرياً مُكثفاً للجنرال خليفة حفتر، حيث نفذت غارات جوية وضربات بطائرات من دون طيار، بالإضافة إلى تزويد حفتر بالأسلحة في انتهاك واضح لقرار الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة. كما تم اتهام الإماراتيين باستخدام المرتزقة السودانيين لدعم قوات حفتر، وبتمويل مرتزقة مجموعة “فاغنر” الروسية الذين يقاتلون إلى جانب قوات حفتر، فضلاً عن الانخراط في جرائم حرب مزعومة في ليبيا.
كانت الإمارات طرفاً مباشراً في الحرب الدائرة في اليمن، ولعبت دوراً رئيسياً في خلق وإدامة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم التي أودت حتى الآن بحياة أكثر من 230 ألف شخص وجعلت ملايين الأشخاص على شفا المجاعة. لقد تورطت الإمارات في جرائم حرب وتعذيب وتجنيد أطفال ووجهت حملات اغتيال باستخدام جنود أميركيين سابقين كمرتزقة. كما أفادت تقارير عن أنه قد تم نقل أسلحة أميركية تمتلكها الإمارات إلى مقاتلين مرتبطين بتنظيم “القاعدة” وميليشيات سلفية متشددة أخرى. وبرغم إدعائها بأنها انسحبت من الحرب في اليمن في عام 2019، لا تزال أبو ظبي تقدم الأسلحة والدعم الجوي للميليشيات المحلية التي تواصل الانتهاكات على أنواعها، وتواصل احتلال أجزاء من اليمن بشكل غير قانوني.
ومؤخراً، أعربت الإمارات عن دعمها للانقلاب الأخير في تونس، ويُفترض أن أبوظبي راضية عن الانقلاب في السودان نظراً لعلاقاتها القوية مع الجيش هناك.
“دور سيء” داخل أميركا أيضاً
تعمل الإجراءات الإقليمية والدولية لدولة الإمارات أيضاً على الإضرار بسمعة الولايات المتحدة عالمياً، وتجعل الوعد الذي تقدم به جو بايدن باتباع سياسة خارجية أميركية تُركز على حقوق الإنسان يبدو وكأنه نفاقٌ إلى حد ما.
بالإضافة إلى سجلها السيء في مجال حقوق الإنسان في الداخل، ومساهمتها في افتعال أزمات إنسانية في المنطقة، فقد برَّرت الإمارات اضطهاد الصين لسكانها من المسلمين “الإيغور”، لا بل دعمت هذا الإضطهاد. وفي حين أدانت إدارة بايدن ما أسمته “إبادة جماعية” لمجتمع “الإيغور” من قبل الصين، عمدت أبو ظبي إلى اعتقال وترحيل “الإيغوريين” المنفيين وإعادتهم إلى بلادهم بناء على طلب بكين. كذلك أفادت تقارير صدرت في آب/ أغسطس أن الإمارات تستضيف مراكز احتجاز سرّية تديرها الصين في دبي وتُستخدم لاستهداف واحتجاز وترحيل “الإيغور”.
لكن، ليست المصالح الخارجية لأميركا هي وحدها التي قوّضتها الإمارات. فقد سعت أبو ظبي أيضاً إلى التدخل المباشر في السياسة الداخلية للولايات المتحدة؛ فيما ينبغي اعتباره هجوماً مباشراً على الديموقراطية الأميركية.
ففي وقت سابق من هذا العام، تم توجيه الاتهام إلى توماس باراك، رئيس اللجنة الانتخابية الافتتاحية لدونالد ترامب، بمحاولة التأثير على مواقف السياسة الخارجية لإدارة ترامب. يزعم المدعون العامون الأميركيون أن باراك؛ وبتوجيه من مسؤولين إماراتيين من أعلى المستويات – بينهم الشيخ محمد بن زايد – دفع من أجل أن يشغل المرشحون المفضلون لدى الإمارات مناصب وزارية هامة في الإدارة الجديدة، بما في ذلك منصب وزير الخارجية ووزير الدفاع ومدير وكالة المخابرات المركزية.
أضف إلى ذلك، أنه في أيلول/سبتمبر، اعترف ثلاثة عملاء سابقين في المخابرات الأميركية بالعمل كجواسيس إلكترونيين لصالح الإمارات، وعملوا على اختراق شبكات كمبيوتر مختلفة داخل الولايات المتحدة. فلطالما اعتمدت الإمارات على عُملاء استخبارات غربيين سابقين لمراقبة دبلوماسيي الأمم المتحدة وموظفي” الفيفا” ونُشطاء حقوق الإنسان وصحافيين ومعارضين سياسيين وحتى مواطنين أميركيين عاديين.
كما أن “تقرير مولر”؛ الذي يحقق في حقيقة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016؛ يتحدث عن تورط مسؤولين إماراتيين. كان أحد الأفراد على وجه الخصوص محور التركيز الرئيسي للتقرير: جورج نادر، مبعوث محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، الذي كانت له اتصالات رفيعة المستوى مع مسؤولين أميركيين وروس.
تُسلط إحدى الحوادث على وجه الخصوص الضوء على المدى الذي سعى فيه نادر للتسلل إلى الدائرة المقربة من ترامب. قبل وقت قصير من انتخابات عام 2016، اجتمع ثلاثة أفراد في برج ترامب للقاء دونالد ترامب جونيور، الابن الأكبر لترامب. الثلاثة هم: جورج نادر وجويل زامل (أسترالي إسرائيلي متخصص في التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي)؛ وإريك برنس (الرئيس السابق لشركة “بلاك ووتر” المتخصصة بتقدم خدمات أمنية وعسكرية للحكومات والأفراد عبر العالم). وبحسب ما ورد “أخبر نادر دونالد ترامب جونيور أن الأمراء الذين قادوا المملكة العربية السعودية والإمارات كانوا حريصين على مساعدة والده في الفوز بالانتخابات كرئيس”، وعرض الزامل خدمات شركته “المتخصصة في جمع المعلومات وتشكيل الرأي عبر وسائل التواصل الاجتماعي”.
تضمنت الخطة استخدام الآلاف من حسابات الوسائط الاجتماعية المزيفة للترويج لترشيح ترامب على منصات التواصل الاجتماعي. فقد وجه “فيسبوك” و”تويتر” إتهاماتهما للإمارات عدة مرات بالضلوع في حملات تضليل معقدة. المبعوث المذكور أعلاه، نادر، تم اتهامه لاحقاً بتحويل الأموال بشكل غير قانوني إلى حملة المرشحة الرئاسية آنذاك هيلاري كلينتون لعام 2016.
لقد حان الوقت لواشنطن لإنهاء صلاحية الشيك المفتوح لـ “Little Sparta” الذي تمنحه للإمارات، والإعتراف رسمياً بالدور السيء الذي تلعبه الأخيرة في زعزعة استقرار الشرق الأوسط، وتقويض التقدم الديموقراطي في المنطقة، وتدخلها بشكل غير قانوني في السياسة الداخلية للولايات المتحدة.
والطريقة الأكثر إلحاحاً للقيام بذلك هي وقف صفقات الأسلحة الأميركية إلى الإمارات، والتي تُستخدم لإطالة أمد الصراعات الإقليمية، وارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان، وتعزيز السياسات التي ليست في مصلحة الولايات المتحدة.
وبرغم أن مثل هذه الإجراءات قد تُعرض مستقبل القاعدة الجوية الأميركية في منطقة “الظفرة” للخطر، لكنها فرصة لإعادة النظر في الوجود العسكري الأميركي الواسع النطاق في المنطقة، والذي كان بحد ذاته عاملاً مزعزعاً للاستقرار، إذا ما أرادت واشنطن حقاً أن تكون المنطقة أكثر إستقراراً.
يجب أن تكون إعادة تقييم علاقة الولايات المتحدة مع الإمارات بمثابة حافز لإعادة فحص أكثر جوهرية لإستراتيجية واشنطن الأوسع نطاقاً في الشرق الأوسط مدعومة بأسطورة معيبة عن الاستقرار الاستبدادي.
– النص مُترجم عن “الفورين بوليسي”
(*) متخصص في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط والإسلام السياسي.
(**) أسبرطة، أو أسبارتا مدينة يونانية قديمة اشتهرت بمجتمعها العسكري الذي ينشأ أبناءه على القتال بصفة أساسية.