خطة إنقاذ السودان… هل تكفي الأشهر التسعة حكومة حمدوك؟

يأمل الشعب السوداني في التخلص من آثار حكم عمر البشير، الذي بدا وكأنه قدم من العصور الوسطى لإعادة السودان إلى عصور الظلام، فالتضخم في عهده ضرب البلاد بعنف، والفساد دمر بنيتها التحتية، لتصبح دولة بالاسم، فيما باتت في الواقع مجرد حطام دولة محكومة بعصابة لا تفكر إلا في تحقيق أكبر نسبة ربح ممكنة من دماء الشعب.

يعلق السودانيون آمالهم في رقبة رئيس وزراء الثورة عبد الله حمدوك الذي أدى اليمين الدستورية ليقود الفترة الانتقالية المقدرة بثلاث سنوات، للتخلص من تركة البشير سواء بالفقر المدقع أو التضخم وانهيار العملة السودانية، بالإضافة إلى الغياب التام للسلع والخدمات.
لكن السؤال: هل يمكن للسودانيين تحمل المزيد من الضغوط أملاً في الوصول إلى الإصلاح الاقتصادي المنشود، بدءاً من تحمل تحرير أسعار المحروقات الذي كان يدعم سنوياً بقيمة 2.250 مليار دولار والسلع الاستراتيجية وعلى رأسها القمح المدعوم بقيمة 365 مليون دولار؟
المثير في المعادلة الاقتصادية المختلة في “سودان البشير” أن سعر ليتر البنزين كان أحياناً يعادل حوالي 13 سنتاً أميركياً، وهو الأرخص في العالم على الإطلاق، إلا أن الناس كانوا يعانون من تدبير تكلفته، حيث أن الدعم الكبير كان يذهب إلى الأثرياء ورجال النظام وأتباعهم.
البنك المركزي السوداني، الذي لم يعلن تحديثاً للبيانات والأرقام منذ عام تقريباً، كشف عن أن نمو المعروض النقدي ارتفع من مستوى 14.3% في نيسان/أبريل عام 2016 إلى نسبة 88.3% في نيسان/أبريل عام 2018، قبل أن يتراجع مجدداً إلى 76% في آب/أغسطس 2018.
الكوميديا السوداء في السودان بلغت ذروتها في مطلع عام 2018، حين أعلنت الحكومة أنها توقفت عن طباعة النقد، لأن مطبعة الأوراق النقدية الوحيدة في البلاد تعطلت فقررت التوجه إلى مطابع الأوراق النقدية في الخارج.
وأدى ارتفاع التضخم إلى قيام ملايين العملاء بسحب أرصدتهم كاملة ليقفز التضخم إلى نحو 70%، وتراكمت ديون السودان الخارجية لتصل إلى 50 مليار دولار.
ظاهرياً، وعلى الرغم من إعلان الحكومة السودانية عام 2017 عن تراجع نسب الفقر إلى 28% مقارنة بـ36.1% عام 2016، إلا أن الأرقام لم تعلن بشفافية المعايير التي استندت إليها حيث أن الفقر المدقع كان يضرب البلاد بشدة ويصل إلى ضعف الأرقام المعلنة على الأقل.
القشة التي قصمت ظهر نظام البشير خلال السنوات الأخيرة جاءت بسبب انخفاض أسعار النفط، ما أدى إلى انخفاض معدل المساعدات الخليجية، وهو ما كان بمثابة رصاصة الرحمة على النظام، لأنه حتى في ظل المساعدات لم يستطع إصلاح اقتصاد البلاد المنهار.
الأزمات الاقتصادية والقمع السياسي أشعلا فتيل الثورة السودانية في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، حيث قام الناس للمطالبة بإنهاء حكم البشير ونظامه الذي شكل خليطاً ما بين الفاشية العسكرية والدينية. وقاد دفة الثورة تجمع المهنيين السودانيين وقوى إعلان الحرية والتغيير، وذلك تحت وطأة الاستبداد السياسي والتدهور الاقتصادي اللذين دفعا غالبية الشعب السوداني للخروج إلى الشارع.
رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي جاء في أجواء عصيبة، قال في تصريحات صحفية لطمأنه الشارع مؤخراً، إنه لا توجد مخاوف من طلبات صندوق النقد الدولي الخاصة بتنفيذ إصلاحات اقتصادية في البلاد، وبخاصة في ما يخص رفع الدعم واتباع نهج الخصخصة للمؤسسات الحكومية، مضيفاً أن “لا أحد يدرك مشاكلنا أكثر منا، وسنعمل مع صندوق النقد الدولي على الخروج بوصفة تتوافق مع رؤيتنا”.
وكان صندوق النقد الدولي دعا السودان عام 2017 إلى تحرير أسعار صرف العملة المحلية بالكامل خلال عام، وقد استجابت الحكومة السودانية لذلك، بالاضافة إلى إلغاء دعم الكهرباء والقمح خلال الفترة الممتدة بين 2019- 2021، لكن الإطاحة بحكم البشير ونظامه حالت دون ذلك.
ويعاني السودان من خلل رهيب في ميزان المدفوعات حيث أن وارداته تبلغ 9 مليارات دولار بينما  لا تتخطى صادراته 5 مليارات دولار، وهو ما يستهدف حمدوك خفضه بالتعاون مع البنك الدولي عن طريق خطة إصلاح صارمة تتسم بالجرأة ومدفوعة بثقة الناس في خبراته الواسعة.
ولكن أكبر العقبات تكمن في عدم وجود قواعد بيانات حكومية مكتملة أو دراسة للفئات المستحقة للدعم، وهي أولى الخطوات الخاصة بالإصلاح، خصوصاً أن هذه الفئات ستحتاج إلى مساعدة مالية فور رفع الدعم، بما لا يتجاوز في أقصى تقدير 100 مليون دولار شهرياً في مقابل توفير المليارات التي لم تذهب يوماً إلى مستحقيها.
يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الرمادي لـ”180” إنه لا يتوقع أن تتضمن خطة الإصلاح الاقتصادي المعلنة من جانب حكومة حمدوك إجراءات تقشفية قاسية، موضحاً أنه لن يكون هناك رفع للدعم، ولكن ستحدث إعادة هيكلة، بدلاً من دعم السلع للجميع، وطرحها في السوق ليحصل عليها الأغنياء والأجانب واللاجئون بجانب الفقراء.
ويشير إلى أن المشكلة تكمن في أن بعض السلع يتم تهريبها إلى الدول المجاورة التي تعاني من أوضاع صعبة، حيث يتم تهريب القمح والسكر والبنزين وغيرها من السلع الاستراتيجية، لذا وجدت الحكومة أن توجه الدعم للأسر السودانية الفقيرة عن طريق بطاقات ذكية.
وتعد نسبة البطالة في البلاد التي تبلغ حوالي 19% عائقاً كبيراً أمام خطة رفع الدعم عن السلع، بالإضافة إلى التدني الشديد في أجور العاملين في الدولة.
ويعاني الجنيه السوداني من الهبوط المستمر أمام الدولار حيث يصل سعره في السوق السوداء إلى 69 جنيها للبيع و70 جنيهاً للشراء.
ومن المتوقع أن تشمل خطة حمدوك إلغاء الإعفاءات الضريبية، وتخفيض الإنفاق الحكومي، وتقليص معدلات الاستيراد وبخاصة للجهات الحكومية، وإطلاق بورصة لتداول الذهب والعملات.
وتسبب انفصال جنوب السودان عام 2011 بخسارة السودان 75% من إنتاج النفط، وهو ما أثر بشدة على الاقتصاد السوداني الذي كان يتغذى في عصر البشير على الإعانات والديون.
وكان السودان يعاني على مدار العقود الثلاثة الماضية من ويلات الحروب والاقتتال الأهلي ومطالب الانفصال، وهو ما جعل الاقتصاد بمثابة “اقتصاد حرب” بسبب الكوارث التي أودت بحياة مئات الآلاف من السودانيين في حرب دارفور، وتسبب بأزمة لاجئين حادة.
ويطالب الخبراء المتخصصون في الزراعة بإلغاء قانون 2011 لتنظيمات المنتجين والعودة إلى القوانين التي تسمح بتكوين اتحادات المزارعين وحل مجالس إدارات المؤسسات الزراعية، وإصلاح نظم الري وصيانته وتطويره، ووضع خطة زمنية محددة لتنفيذ هذه الاصلاحات.
وبحسب الرمادي فإن معدلات التضخم في السودان وصلت إلى 120% في بعض الأحيان وفقا لبعض الدراسات الأجنبية، وهو ما يجعل الإجراءات التقشفية خطيرة وغير مجدية، لأن المواطن لن يستطيع التحمل، وقد يخرج إلى الشارع مجدداً، مشدداً على أنه يجب تفادي المغامرة عن طريق تحويل دعم السلع إلى دعم مباشر.
ويؤكد الرمادي أن السودان يمتلك من الإمكانيات الزراعية والثروة الحيوانية والثروة النفطية ومن الخبرات والكوادر ما يكفي لينهض بقارة كاملة وليس بلد، لافتاً إلى أن ما حدث في السودان طوال العقود الماضية كان تحطيماً ممنهجاً للاقتصاد السوداني.
ويعاني السودان من أزمات كبيرة على مستوى الصناعة التي كانت مزدهرة في ثمانينيات القرن الماضي. وعلى سبيل المثال، فإن أحد أقدم الصناعات السودانية، وهي صناعة الزيوت، كانت تبلغ طاقتها الإنتاجية 600 ألف طن، لكن الإنتاج لم يزيد خلال السنوات الماضية عن 33%، حتى أن السودان بات يستورد بقية احتياجاته من هذه السلعة.
ويرى الرمادي أن السودان دولة تم إفقارها عمداً، وضرب مثالاً بإنتاج البلاد من الذهب الذي يقدر بحوالي من 200- 250 طن سنويا، بقيمة  8-10 مليارات دولار سنوياً، ما يمكن أن يغنيه عن أية قروض أو مساعدات، ولكن ذلك لم يحدث لأن البلاد كانت مشرعة أمام فساد  شخصيات نافذة في النظام السابق، كانوا يهربون الذهب  إر الخارج.
مثال آخر يقدمه الرمادي حين يقول إنه من المحزن والعجيب أن بورصة الصمغ العربي ليست في الخرطوم وانما في أديس أبابا، على الرغم من أن السودان ينتج 80% من هذه المادة على مستوى العالم، في حين أن أثيوبيا لا يوجد لديها صمغ عربي بالأساس.
بحسب وزير المال السوداني إبراهيم البدوي، فإن مدة خطة الإنقاذ الاقتصادية تسعة أشهر، وهي تتضمن ترشيد الإنفاق، ومعالجة التضخم، مع استمرار دعم أسعار الخبز والبنزين حتى منتصف العام 2020، في ظل مساعي الحكومة لاقتراض ملياري دولار من البنك الدولي.
وفيما يتعلق بالإنفاق الحكومي المترهل، يقول الرمادي إن ثمة حاجة إلى السيطرة على هذه المشكلة، سواء في الحكومة المركزية، أو في الولايات الثمانية عشر، لأن “هذا هو بيت الداء” مع الاشارة إلى أن تضخيم عدد أعضاء مجالس الولايات كان يهدف إلى شراء ولاءهم، وهو ما أسهم في زيادة الإنفاق الحكومي.
ويحتاج السودان طبقاً لتقديرات حمدوك إلى ثمانية مليارات دولار من المساعدات الأجنبية خلال العامين المقبلين، بجانب إعادة جدولة الديون، لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الغائب.
ويبدو أن محاور خطة إنقاذ حمدوك ستسعى إلى محاربة الفساد، وتخفيض الإنفاق الحكومي، والسيطرة على التضخم، بجانب الإصلاح الضريبي والجمركي وتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح.
ويصف حمدوك خطته بأنها تستهدف “العبور بالبلاد إلى بر الأمان” عن طريق إصلاح تشوهات الاقتصاد السوداني الذي يوشك على الانهيار، واستبداله باقتصاد وطني يعتمد على الإنتاج لا الإعانات والديون، وهو ما يستوجب رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وقال حمدوك في كلمة للشعب السوداني أنه لا يحمل عصا موسى لكنه سوف يتبع نهجاً براغماتياً في الانقاذ الاقتصادي عن طريق الحرب على الفساد والبدء فوراً في الإصلاحات.
ويمتلك حمدوك خبرة تمتد على مدار ثلاثة عقود في مجالات التنمية في أفريقيا، وبالتحديد في نظم الحكم والتحليل المؤسساتي وإدارة الموارد وإصلاح القطاع العام، وهو ما يتوافق مع دراسته للماجستير والدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة مانشستر في بريطانيا. وبعد مسيرة ناجحة في السودان امتدت بين عامي 1981 و1987 في وزارتي المالية والزراعة، انتقل إلى جنوب أفريقيا وزيمبابوي كمستشار لمنظمة العمل الدولية، كما ترأس اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة في أفريقيا منذ عام 2001، ثم شغل منصب المدير الإقليمي لاتحاد أفريقيا والشرق الأوسط.
ومن الجدير ذكره أن حمدوك رفض عرضاً من الرئيس المخلوع عمر البشير لتولي وزارة المال،  رافضاً العمل مع النظام الديكتاتوري، ليعود رئيساً للوزراء في أول حكومة بعد الإطاحة بالبشير وفي جعبته خطة طموحة لإنقاذ البلاد خلال تسعة أشهر فقط، ستشهد التحدي المفصلي، ليس لشخصه فحسب، بل للسودان ككل.

إقرأ على موقع 180  السد العالي والسد الآخر.. خطران لا يمكن تجاهلهما

 

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  هل رسّمت لجنة 2009 الخط 23 وفق الترسيم الإسرائيلي؟