طفولتي.. وعلاقتي بالريف المصري

كتبت عن عادات وممارسات عفا عليها زمن من أزمنتي العديدة، عدت أقرأ ما كتبت لأكتشف أنني أهملت، عن غير قصد، عادات وممارسات أخرى عفت عليها نفس الأزمنة وربما أزمنة أخرى. أكتب هنا عن بعض ما أهملت وهو كثير.

نعيش هذه الأيام في مصر حالة انتخابات نيابية. لا أمارسها شخصياً وبلغني أن لا أحد من عائلتي الممتدة يمارسها أو يتفاعل معها ولو بالانفعال أو للتسلية. يسعدني القول ولعله التصريح بأن الأمر اختلف جداً في زمن مضى. كنت تلميذاً في مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية عندما جرت آخر انتخابات برلمانية في مصر. أذكر جيداً المرشح المحترم عن الحي ببذلته كاملة وربطة عنق وطربوش يمتطي بردعة فوق ظهر حمار وأطفال الحي وبعض شبابه من حوله وخلفه وأمامه يمشون وهم يهتفون باسمه، أقصد اسم النائب المحترم.

كان الهتاف على امتداد الحي واتساعه واحد لا يتغير ويتبادله فريقان، فريق يسأل “تنتخبوا مين” وفريق يجيب “فلان بيه”. تعليمات أمي كانت تقضي بأن أتخلف عن المسيرة قبل وصولها إلى نهايتها برغم علمها، أو ربما لعلمها، بأن أرغفة محشوة بالخبز “المسقى” واللحم المسلوق وأخرى بالخبز نفسه ولكن المسقى بشوربة الفول والغاطس في كم كبير من الفول النابت، تنتظرنا في نهاية المسيرة عند جامع الحي في شارع يقع على بعد شارعين من بيتنا.

***

على ما أذكر لم تخل عائلة في ذلك الزمن من علاقة بالريف، قوية كانت العلاقة أو ظرفية. أنا شخصيا تعرفت على ريف مصر بفضل ثلاثة مصادر. كنت طفلاً أسمع خالاتي في اجتماعاتهن الأسبوعية في بيت جدتي يتحدثن عن مشكلات مع فلاحين يستأجرون أراضي يمتلكنها في قرية أو أخرى.

عرفت أن هذه القرى قريبة وسبب اهتمامي بها أن قطار الأسكندرية كان يمر عليها ولا يتوقف عندها. كانت هواية أعتز بها وأنا تلميذ عاشق للجغرافيا أن أحفظ عن ظهر قلب أسماء جميع المحطات التي يتوقف عندها القطار أو يمر عليها مسرعاً ولكن معلناً هذا المرور بصفارته الغليظة والقوية. أعلم جيداً أن لا أحد من أهلي زار الريف أو أقام فيه وإن كان لخالاتي أرض فيه يشرف عليها ويحل مشكلاتها العالم الأزهري المتزوج من إحدى الخالات. لن أخفي أنني بتطلعات طفل كثيراً ما كنت أزعم أن لنا مع الريف علاقات وأرض وأقارب. كان الريف عزوة يستحق الانتماء لها.

***

كانت الشغالات العاملات في بيوتنا المصدر الثاني لعلاقتي بريف مصر. كنت أنتظر بلهفة الزيارة الشهرية، أو كل شهرين، التي تقوم بها أمهات الشغالات العاملات في بيوت عائلتنا الصغيرة. تأتي الواحدة منهن بملابسها السوداء أو القاتمة وعلى رأسها “قفة” تتسع لعدد من أرطال الزبدة البلدية وفطيرتين مشلتتين وبطة مذبوحة ومسلوخة ورطلين أرز ورغيفين أو أكثر من الخبز الفلاحي وقوالب جبنة قريش وعينات من حاصلات زراعية.

تأتي الأخرى “أم فاطمة” بدون قفة على رأسها أو بين يديها ولكن بثروة هائلة من الحواديت. تجلس في ركن الغرفة والأطفال، وأنا وسطهم، في نصف دائرة من حولها، تحكي من رصيد لا يفنى من الحواديت عن أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة، وعن جلالة ملك مصر الذي خرج ليمشي بجانب النيل مع حاشيته فوقع نظره على أم فاطمة وهي تغسل قدميها وساقيها فظهر قميصها ذو “الكورنيشه”، فأعجب الملك به حتى أنه أصدر أوامره للحاشية بتسمية الشارع بالكورنيش. تقسم لنا أن القصة حقيقية مثل كل قصصها وكانت جميعها على هذا المنوال.

***

مصدر آخر لعلاقتي بريف مصر كان أصدقاء المدرسة وأصدقاء والدي. إذ بحكم الدراسة في بيئة مختلطة اجتماعياً تكوّنت لي صداقات حميمة مع تلاميذ من أصول أرستقراطية ومن عائلات تمتلك أراضي. كذلك كانت لوالدي صداقات ودوائر علاقات قوية مع قيادات حزبية وأثرياء معروفين أظن أنها تكونت نتيجة لنشاطه الحزبي والاجتماعي. أذكر أنني قضيت نهايات أسبوع عديدة في “عزب” يملكها أهل لزملاء من التلاميذ وأصدقاء لأبي. أذكر الولائم الفاخرة حيث كان يجتمع عليها باشوات ورجال من الإدارة العليا بينما تختص بإطعامنا نحن الأطفال على موائد أصغر حجماً وليست أقل وفرة وتنوعاً، أقول تختص بإطعامنا فلاحات من نوع مختلف وملابس مختلفة.

اكتشفت في سن مبكرة بين اكتشافات أخرى عديدة أن فلاحات “الدوار” يختلفن في كل شيء عن فلاحات “الغيط”. أتذكر ملابسهن زاهية الألوان وشعورهن المكشوفة. كن مكلفات بالاطمئنان قبل وصولنا على أن الغرف التي ننام فيها خالية من الناموس، حتى مع وجود الناموسية. كن مكلفات أيضاً بالبقاء معنا حتى ننام مزودين بحواديت ودردشات أغلبها عن غراميات “الشاطر حسن” ومغامراته. حواديت ودردشات تبقى معي أختار من بينها ما يسليني في وحدتي في غرفة غريبة و”دوار” أشد غربة وأصوات الضفادع والصراصير الليلية لا تفارق حتى الفجر.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إنهاء حرب غزة بفرض.. وقف النار
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عاداتُ وممارساتُ عفا عليها زمني