جاء الإعلان المصري، قبل أيام، عن وصول مفاوضات سد النهضة إلى طريق مسدود، ليؤذن ببدء مرحلة جديدة في الصراع المصري-الإثيوبي حول حقوق مياه النيل، حيث يمكن ترجمة اللهجة المصرية الحادة في الرد على التعنت الإثيوبي بأنها جرس إنذار قوي يقترب من “إعلان حرب”.
لم يعد خافياً أن السد الإثيوبي يهدد حصة مصر في المياه، حيث يوفر لها نهر النيل حوالي 90% من المياه العذبة، ويشكل خطراً داهماً على البلاد وشعبها، مع استمرار الخلاف الشاسع بشأن التدفق السنوي للحصة المصرية من المياه، وكيفية إدارة عملية التدفق أثناء فترات الجفاف وملء الخزان.
الاجتماع الأخير بين الجانبين في مطلع تشرين الأول/أكتوبر الحالي، والذي جاء بعد توقف المفاوضات لمدة عام، انتهى كما بدأ، حيث لم تتمكن مصر واثيوبيا من الوصول إلى أية نقاط اتفاق، خاصة أن الاجتماع لم يتطرق إلى الجوانب الفنية محل الخلاف، بل اقتصر على مناقشة الجوانب الإجرائية، وهو ما دفع وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى أن يبعث برسالة للقيادة المصرية تفيد بأن هناك مماطلة ومراوغة من الجانب الإثيوبي.
وتصطدم مصر بالطموحات الإثيوبية في أن تصبح أديس أبابا أكبر مصدر للكهرباء في أفريقيا عن طريق توليد الطاقة من خلال سد النهضة الذي تبلغ كلفته اربعة مليارات دولار، والذي من المتوقع تشغيله بالكامل عام 2022، لينتج 6450 ميغاوات، على أن يبدأ بالإنتاج التجريبي بحلول العام المقبل لإنتاج 750 ميغاوات، ليكون بذلك أكبر سد كهرومائي في أفريقيا، والسابع على مستوى العالم.
هل ورط السيسي مصر؟
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ارتكب خطأ استراتيجياً فادحاً بتجاهل التقارير التي رفعتها له أجهزة المخابرات والأمن القومي وقيادات وزارتي الدفاع والخارجية، والتي طالبته بعدم توقيع الاتفاقية مع اثيوبيا، لأنها ستضعف الموقف المصري بشدة.
رد السيسي بأنّه واثق من قدرته على تغيير الموقف الإثيوبي الحكومي والشعبي، من دون أن يوضح كيفية القيام بذلك.
وعلى ما يبدو، فإن إصرار وغضب العديد من المسؤولين مثل خالد فوزي مدير المخابرات العامة المصرية السابق، وفايزة أبو النجا مستشارة الأمن القومي السابقة، ومحمد التهامي مدير المخابرات الحربية السابق، دفع بالسيسي إلى استبعادهم جميعاً من مواقعهم واستبدالهم بمسؤولين آخرين.
ليست هذه المرة الأولى التي تثير فيها إثيوبيا حفيظة مصر بشأن سد النهضة، ففي العام 2008 بدأت التحركات الإثيوبية في هذا الاتجاه، ليشكل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك خلية أزمة لدراسة الملف، ومنع إنشاء السد بأية طريقة. وقد استعانت اللجنة الحكومية التي شكلها مبارك بخبراء دوليين في العام 2010، ليتم وضع خريطة طريق شاملة لحل الأزمة، لكن “ثورة 25 يناير” التي أطاحت بمبارك ونظامه أدت إلى عرقلة تنفيذ هذه الخطة.
خلال السنوات الأخيرة من حكمه، ظل مبارك يتبع نهجاً صارماً في ما يخص قضايا الأمن القومي، إذ دائماً ما كان يشاع أنه هدد إثيوبيا بأنه سيضرب السد بالطائرات إذا ما أصرت أديس أبابا على استكماله.
هذه الشائعات تحولت إلى حقائق على لسان مدير إدارة الشؤون المعنوية الأسبق في الجيش المصري، اللواء سمير فرج، الذي كشف في لقاء متلفز، عن أن مبارك هدد بالفعل رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق ميليس زيناوي بأنه في حال إصراره على استكمال بناء سد النهضة فسيأمر بعمل عسكري فوراً.
وتمتلك مصر العديد من الصفحات المثيرة في التعامل مع إثيوبيا، حيث شهدت أديس ابابا محاولة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، في 26 حزيران 1995 فور وصوله إلى العاصمة الاثيوبية للمشاركة في القمة الأفريقية.
ما هي نقاط الخلاف الأساسية؟
في 31 تموز الماضي، رفضت إثيوبيا اقتراحاً مصرياً يتعلق بملء وتشغيل سد النهضة من دون أيّ نقاش، كما امتنعت عن حضور الاجتماعي السداسي لوزراء المياه والخارجية، طارحة العودة إلى مناقشة اقتراح لها يعود للعام 2018.
ثمة نقطة اتفاق اساسية بين الجانبين بشأن المرحلة الأولى لملء السد، والتي تستغرق عامين، يصل خلالها مستوى المياه فيه إلى 595 متراً، لتصبح بذلك توربينات الطاقة الكهرومائية جاهزة للعمل، لكن الخلاف نشب بسبب نقطة تفصيلية، إذ تخشى مصر من أنه في حال تزامنت المرحلة الأولى مع الجفاف الشديد للنيل الأزرق في إثيوبيا – مثلما حدث عامي 1979 و1980 – فإنّ الأمر سيضرّ بأمنها المائي، ولذلك طالبت بتمديد فترة العامين للحفاظ على منسوب المياه في السد العالي عند مستوى 165 متراً.
وفي حال عدم مراعاة الملاحظات المصرية الجوهرية سيتسبب سد النهضة بخطر كبير على مصر، لا تقتصر تداعياته على الشق المائي، إذ ثمة تقديرات بأن الخسائر قد تشمل أكثر من مليون وظيفة، وحوالي ملياري دولار من الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن خسارة كهرباء بقيمة 300 مليون دولار.
ثمة نقطة أخرى للخلاف، وهي تتعلق بما بعد المرحلة الأولى من ملء السد، حيث تقترح مصر تدفق ما لا يقل على 40 مليار متر مكعب من مياهه سنوياً، بينما تصر إثيوبيا على 35 مليار متر مكعب فقط، وتؤكد استحالة تنفيذ المقترح المصري.
إسرائيل على خط الأزمة
تفيد تقارير صحافية إسرائيلية بأن هناك حالة متصاعدة من التوتر بين القاهرة وتل أبيب بعد دخول الأولى على خط الأزمة مع اديس ابابا، ودعمها لإثيوبيا عن طريق نشر منظومةSpyder-MR للصواريخ المتطورة حول سد النهضة، وهو النظام الوحيد في العالم القادر على إطلاق نوعين مختلفين من الصواريخ من قاذفة واحدة بمدى يتراوح بين خمسة و50 كيلومتراً.
وبحسب وسائل إعلام إسرائيلية، فإنّ السيسي حاول بكل الطرق إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدم نشر الصواريخ، إلا أن تل أبيب رفضت كافة المحاولات، لا بل أن ثمة تقديرات تفيد بأنها ستكون المستفيد الأول من مياه إثيوبيا التي تستعد لشراء حصة منها.
تصعيد واستفزاز
كل هذه الأسباب رفعت منسوب التوتر خلال الأيام الماضية، حيث أكد السيسي أن لا تفريط في حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، مشدداً على أن مصر لن تقبل بسياسة الأمر الواقع وستحمي مصالحها.
وفيما طالب الجانب المصري بتدخل طرف رابع دولي في المفاوضات، بادر رئيس الوزراء الإثيوبي إلى إطلاق سلسلة تغريدات عبر حسابه الرسمي على “تويتر”، أكد خلالها أن حكومته تسعى لنجاح الحوار الثلاثي (المصري-الاثيوبي-السوداني)، مشدداً على ضرورة استمراره.
ومن جانبه، أكد وزير الموارد المائية الإثيوبي سيليشي بيكيلي، حرص بلاده على استمرار التفاوض بين الدول الثلاثة حول الجوانب الفنية لسد النهضة، والنظر إلى الجوانب الإيجابية من إنشاء السد، وهو إنتاج طاقة كهربائية تساعد على دعم جهود التنمية ومحاربة الفقر.
ونفى الوزير الاثيوبي وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، مؤكداً أن كل دولة تقدمت بمقترح يعكس وجهة نظرها، وستتم دراستها ومناقشتها من دون إلغاء أو تجاهل للاتفاقيات والتفاهمات السابقة، وبخاصة إعلان المبادئ الذي تم التوصل إليه في الخرطوم قبل أربع سنوات، مشيراً في المقابل إلى رفض بلاده دخول طرف رابع في المفاوضات.
ولكن الرفض الإثيوبي لدخول طرف رابع في المفاوضات يتعارض مع المادة العاشرة من اتفاق المبادئ الذي تم توقيعه في الخرطوم في شهر آذار من عام 2015، والذي يسمح بطلب الوساطة الدولية من أجل تسوية النزاع.
تتهم مصر إثيوبيا بوضع العراقيل أمام الاتفاق لفرض الأمر الواقع بتشغيل سد النهضة، وتلمّح دوائر النظام المصري إلى امكانية استخدام الخيار العسكري.
وفي بيان رسمي اتهمت وزارة الخارجية الإثيوبية مصر باعتماد “تكتيكات تخريبية” مشددة على أن أديس أبابا لا تعترف بأية معاهدات سابقة لتخصيص المياه، وهو ما يتناقض مع تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي ووزير الموارد المائية، ما يوضح النية الإثيوبية في التلاعب بالمفاوضات من أجل تمديدها وصولاً إلى فرض الأمر الواقع.
وتضمنت الاتفاقية الموقعة عام 2015 إقراراً من مصر بحق إثيوبيا في بناء السد، مع تكليف مكتب استشاري فرنسي بتنفيذ الدراسات الفنية بالتعاون مع مكتب هولندي طلبت الحكومة المصرية منه المشاركة في هذه المهمة، ولكن إثيوبيا تراجعت ورفضت مشاركة المكتب الهولندي.
الاستفزازات الإثيوبية لا تتوقف، وآخرها من فك أحمد نجاش، المدير التنفيذي للمكتب الفني الإقليمي لشرق النيل، الذي وصف الاقتراح المصري بالمضحك، مشيراً إلى أن مصر تتعامل وكأنها صاحبة سد النهضة. واعتبر أن القاهرة تمتلك فقط حق التعليق على الاقتراح الإثيوبي وليس العكس، واصفاً الاقتراح المصري بأنه يمس سيادة البلاد.
هل هي الحرب؟
تنذر التصريحات الأخيرة بأنّ ثمة أزمة دبلوماسية على الأبواب قد تدفع القاهرة إلى سحب سفيرها من أديس أبابا، بالإضافة إلى تقديم شكوى في مجلس الأمن، إذا ما رفضت إثيوبيا دخول طرف رابع في المفاوضات.
وفي حال إصرار إثيوبيا على موقفها فلن تجد مصر بداً من اللجوء إلى القوة، وهو الخيار الذي أصبحت الدوائر المقربة من النظام المصري تطالب به علناً.
يقول الأستاذ في الموارد المائية في جامعة القاهرة، الخبير الدولي، د. نادر نور الدين لموقع “180” إن إثيوبيا لديها اعتقاد خاطئ بأنها تمتلك السيادة المطلقة على النيل الأزرق، متجاهلة اتفاقية الأمم المتحدة حول الأنهار الدولية العابرة للحدود التي أقرت في العام 1997، وباتت ملزمة لكل الدول منذ العام 2007.
ويمنع القانون الدولي بناء سدود عملاقة من دول المنابع حتى لا تتسبب في ضرر لدول المصب، وهو ما ضربت به أثيوبيا عرض الحائط.
ويضيف نور الدين أن “إثيوبيا لم تدرس الأمر من الناحية البيئية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الهيدرولوجية، ولكنها راوغت من خلال استبعادها المكتب الاستشاري الهولندي حتى لا يكون شاهداً على الأضرار المتوقعة لمصر”.
ويشير نور الدين إلى أنّ إثيوبيا “أفرغت مبادئ اتفاق الخرطوم من مضمونه، وتجاهلت البنود التي تشدد على أنه يجب أولاً، قبل استكمال السد، الاتفاق على نظام ملء الخزان، بالإضافة إلى وجود مكتب استشاري محايد للتحكيم بين الأطراف الثلاثة”، لافتاً إلى أن “اثيوبيا، التي رفضت وساطة البنك الدولي، رفضت أيضاً استمرار عمل اللجنة الدولية الأولى، ما يثبت يوماً بعد يوم سوء نيتها”.
ويحذر نور الدين من أن “التعنت الإثيوبي والإصرار على الخروقات التي ترتكبها والمخالفة للقوانين والأعراف الدولية من شأنها إشعال أول حرب مياه في العالم”.