أنطوان شلحت يُشرّح “دولة هرتزل”: النكبة قائمة.. ومتجددة

لطالما تعودنا على الكاتب والباحث الفلسطيني أنطوان شلحت، يُبادر مجتهداً في رصد الدراسات والمقالات الإسرائيلية ولا سيما تلك التي تندرج في خانة محاولة تفسير الصيرورة الحالية لدولة الاحتلال. مقالات نشرها منفردة، ثم جمعها في كتاب بعنوان "الدولة اليهودية ونُذُر النكبة الجديدة – فصول في المستجد الإسرائيلي".

عالجت دراسات ومقالات د. أنطوان شلحت ثلاثة فصول – عناوين: في غايات “الدولة اليهودية” منذ هرتزل، تلاشي “اليسار الصهيوني”، تصاعد التهديد بنكبة جديدة. وقد أرفق كل فصل منها بتقديم خاص، مما أسبغ حيوية على النقاش حول المشروع الصهيوني تأسيسًا وتطورًا وتأثيرًا، وبخاصة أن الكنيست الإسرائيلي سنّ في 19 تموز/يوليو 2018 قانون القومية الإسرائيلي بصورة نهائية، والذي يعرّف إسرائيل بأنها “الوطن القومي للشعب اليهودي الذي يمارس فيه حقوقه الطبيعية والثقافية والدينية والتاريخية لتقرير المصير”. وهذا ما أعلنه بنيامين نتنياهو عبر المصادقة على هذا القانون، قائلًا: “بعد 122 عامًا من نشر هرتزل رؤيته، تحدّد في القانون مبدأ أساس لوجود إسرائيل، وهو كونها الدولة القومية للشعب اليهودي، حسب ما كان مؤسس الصهيونية يريد فعلًا”.

ضبط الثقافة الإسرائيلية

في الفصل الأول بعنوان هرتزل، الصهيونية والدولة اليهودية، ويضم مقالتين:

المقالة الأولى، بقلم يورام حازوني، بعنوان هرتزل أراد دولة يهودية لا دولة اليهود، يُحاجج كاتبها بأن مؤسس الحركة الصهيونية هرتزل أراد تأسيس دولة يهودية، لا دولة اليهود، ردًا على من أراد استخدام المصطلح الآخر كمصطلح حيادي، كنوع من ذرّ الرماد في العيون. أرادها دولة يهودية بدستورها وأهدافها. وهذا ما فهمه ديفيد بن غوريون والتيار المركزي في الحركة الصهيونية، كما تجسّد في “وثيقة استقلال دولة إسرائيل”، إذ كانت منسجمة بصورة تامة مع رؤية مؤسس الصهيونية. وللتوضيح أكثر، فإن هرتزل كان يرفض صراحة دولة المواطنين التي تحدث عنها جان جاك روسو، وما يُطلق عليها اليوم دولة جميع مواطنيها.

المقالة الثانية، بقلم الأستاذة الجامعية الإسرائيلية عينات رامون، بعنوان الصهيونية ليست منفصلة عن اليهودية، وإنما منضفرة فيها، فتتطرق إلى موقف هرتزل من اليهودية، وتؤكد على تطابق فكرة هرتزل والفكر الصهيوني، على اختلاف مشاربه وأجياله، في هذا التبني. وقد اتسم هذا الفكر، سواء كان دينيًا أو اشتراكيًا، بالتعصب الأيديولوجي والعداء تجاه المجموعات اليهودية المختلفة عنه. فالصهيونية، تقول، إن ما يوحّد اليهود العلمانيين والإصلاحيين والحريديين (المتشددين دينيًا) من المذاهب الأخرى أكثر بكثير مما يفرقهم.

وتختصرهذه المقالة ليس محاججة رامون بل وزميلها يورام حازوني حول ربط الصهيونية باليهودية عند هرتزل. إذ تنقل مّا قاله هرتزل في مقالته بعنوان الشمعدان لمناسبة عيد الأنوار اليهودي “حانوكا” عام 1897، وفيه يُشبّه نفسه بأنه “خادم معبد يستحث ويستنهض الشعب اليهودي بأسباطه المتعددة”. هذه المقالة كتبها بعد أربعة أشهر من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، سويسرا، في العام 1897. والجدير ذكره أن هرتزل يقول في كتاب مذكراته: “لقد أسّستُ هنا، في بازل، الدولة اليهودية.. وإن لم تحدث خلال خمس سنوات فستحدث خلال خمسين سنة”. ولم يكن هرتزل مستعدًا لتقبل اليهود الذين تنصّروا، واعتبرهم خونة ليس للدين اليهودي فحسب، بل أيضًا للشعب اليهودي، وكان يتحدث عنهم بعدائية ظاهرة بوصفهم خانوا معتقدات آبائهم.

وخلصت رامون في مقالتها إلى أن هؤلاء المبشرين بالصهيونية قد اعتمدوا القومية كبديل عن الإصلاح، وتبنّوا العودة إلى التقاليد الموروثة في الفكر القومي، كما اعتمدوا التحالف مع اليهودية الأرثوذكسية.

هذا ما يشير إليه شلحت من ملاحظة ترتبط بالمقالتين المذكورتين، عن سعي اليمين الإسرائيلي الجديد وقواه المتنوعة لتكريس هيمنته في العقد الأخير من خلال الإجراءات الرامية إلى ضبط الثقافة السياسية للمجتمع الإسرائيلي، بصفتها ثقافة استيطانية مرتبطة بالدوافع المَسيانية، إلى جانب محاولات ترسيخ نظرته الإيديولوجية حيال الصهيونية، وقمع أي مظهر مناهض أو حتى مغاير لهذه النظرة. ويرى أن حقوقيين وأكاديميين وخبراء تربية من الصف الأول على استعداد لتجيير أفكار هرتزل وتصوراته كما يفسرونها، وذلك من أجل إحداث تغيير في الطابع القومي لدولة إسرائيل.

اليمين الشعبوي

الفصل الثاني من الكتاب بعنوان اليسار الإسرائيلي و(عملية السلام): من السلام الآن إلى السلام لاحقًا إلى لا سلام أبدًا، مع تقديم لأنطوان شلحت بعنوان يمين ويسار في إسرائيل: هل ما زال ثمة فرق“؟، مكثفًا استنتاجاته في قراءته لدراسة تحليلية صدرت عن “مولاد – مركز تجديد الديموقراطية في إسرائيل”، حاولت أن تجيب على سؤال: كيف تنازل اليسار (المقصود اليسار الصهيوني) عن الجدل السياسي-الأمني، ومهّد الطريق أمام صعود الشعبوية في إسرائيل؟

الدراسة المذكورة حرّرها يونتان ليفي (طالب دكتوراه في مركز الدراسات الأوروبية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية) وش.ي. أغمون (طالب دكتوراه في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد). ويعتقد كاتبا الدراسة، في أهم خلاصة توصّلا إليها، أن ثمة آلية ثابتة في الحلبة السياسية الإسرائيلية خلال العقد الأخير، فحواها أن معسكر اليمين يحدد تخوم السياسة، ومعسكر الوسط – اليسار يسير وراءه. وبرأيهما، لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن الاتجاه الحالي سيتغير في المستقبل، طالما أنه لا يوجد معسكر سياسي يجرؤ على الوقوف في وجه الانجراف العنصري والقومي، وعلى القول بقامة منتصبة: “حتى هنا”. ويعتقد الكاتبان أن هذه الآلية ناجمة عن تحوّلين حدثا في المؤسسة السياسية في إسرائيل خلال الأعوام العشرين الأخيرة:
الأول؛ تراجع معسكر الوسط – اليسار عن الجدل السياسي والأمني وتبنّيه رؤية اليمين، ولا سيما حيال ما تسمى بـ”عملية السلام”.
الثاني؛ صعود اليمين الشعبوي النيوليبرالي الذي يسعى إلى تفكيك المؤسسات الديموقراطية في إسرائيل، ويميز بين إسرائيليين “حقيقيين” – مؤيدي اليمين، وإسرائيليين “غير حقيقيين” – مؤيدي اليسار. ويكمن ادعاؤهما الرئيس في أن نجاح اليمين الشعبوي في إسرائيل مرتبط بشكل وثيق بتخلي اليسار عن المعركة السياسية-الأمنية.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل تُفجّر يحيى عيّاش هاتفياً.. "فُتحت أبواب الجحيم" (85)

ويعرض الكاتبان لتشكل ثلاثة نماذج (أو تيارات) من الحركات السياسية الإسرائيلية هي الآتية:

النموذج الأول؛ “حركة السلام الآن، التي بلغت ذروتها لدى انتخاب إسحاق رابين رئيسًا للحكومة الإسرائيلية عام 1992، وبدأت بالانحسار لدى اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000.
النموذج الثاني؛ السلام لاحقًا، وترسّخ مع قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق أرييل شارون بخطة الانفصال عن قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية، وانتهى لدى صعود نتنياهو إلى سدة الحكم عام 2009.
النموذج الثالث؛ لا سلام أبدًا، وبدأ في العام 2009 وما زال الإطار الفكري المسيطر في السياسة الإسرائيلية حتى يومنا هذا.

وهذا الاستسلام من جانب اليسار لم يؤدّ فقط إلى انهياره انتخابيًا، وإنما أعاد رسم حدود السياسة الإسرائيلية والفرضيات الأساسية للنموذج المسيطر، التي تبناها معسكر الوسط – اليسار تدريجيًا، والتي كانت في أساس الفكر اليميني طوال عشرات السنوات:

  1. السلام غير قابل للتحقيق.
  2. لا يوجد شريك فلسطيني للسلام.
  3. المستوطنات ضرورة لأمن إسرائيل.
  4. إخلاء المستوطنات غير ممكن من الناحية العملية بسبب تزايد عدد المستوطنين في الضفة الغربية.
  5. يجب الرد على العنف بعنف أشد منه.
  6. طريقة العمل الماثلة أمام إسرائيل في المدى البعيد ليست الحل السياسي، وإنما “إدارة الصراع”.

وهكذا يرى الكاتبان أنه مع نتنياهو، تحوّل طرح رابين في العام 1992 إلى ما قاله نتنياهو في العام 2015: “يسألونني إذا كنا سنعيش على أسنة الحراب إلى الأبد؟ الجواب: نعم”. وهكذا يؤكد شلحت، بناءً على الدراسة التحليلية، أنه من الناحية العملية لم يعد هناك اليوم في المشهد السياسي الإسرائيلي شيء اسمه “يسار”.

النكبة مجدداً.. لا انكارها!

يمثل الفصل الثالث من الكتاب بعنوان من الإنكار إلى التهديد بنكبة جديدة (عن مستجدات مقاربة النكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيلي) خلاصة الفكر الصهيوني وخطره القائم والمتجدد. ويقدم له شلحت بمقاربة إسرائيل وسياسة النكبة، ويقول إن النكبة الفلسطينية عادت في الفترة القليلة الماضية إلى جدول الأعمال في إسرائيل على خلفية عدة أحداث مرتبطة بها، منها مثلًا إحياء ذكرى النكبة في بعض الجامعات الإسرائيلية مثل جامعة تل أبيب وجامعة بن غوريون في بئر السبع، بالرغم من وجود قانون إسرائيلي يمنع إحياءها.

بموازاة ذلك، استمرت أيضًا عمليات الكشف عن وثائق من الأرشيف الإسرائيلي تتطرق إلى ما ارتُكب من مجازر وآثام خلال النكبة، بما جعل هذا الماضي الإسرائيلي المظلم يلقي بظلاله على الحاضر. ويتوقف أنطوان شلحت أيضًا عند ما حصل في العام 2021 في المدن التي تُعرف باسم “المدن المختلطة” داخل أراضي 48، وهي بالأساس مدن اللد والرملة ويافا وعكا وحيفا، إذ كشفت هذه الهبّة عن بنية عنصرية لدى قطاعات كبيرة في المجتمع اليهودي لم تُسلّم، ويبدو أنها لن تُسلّم، بفكرة أن العرب الفلسطينيين في إسرائيل لهم انتماء وطني، وأنهم جزء من الشعب الفلسطيني وقضيته التي بلغت ذروتها في أحداث النكبة.

وفي هذا السياق، يكتفي شلحت بالإشارة إلى استنتاجين متصلين:
الأول، أن العقيدة الصهيونية لم تُلطّخ تحت وطأة الاحتلال في العام 1967 فقط، بل وُلدت ملطخة في الأصل، وأن احتلال ذلك العام هو استمرار مباشر للنكبة الفلسطينية في العام 1948.
الثاني، أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الكولونيالية والأبارتايد هي النضال ضد إسرائيل وضد الصهيونية، وليس التحالف معهما من أجل “تخفيف حدة” تطرفهما أو “صوغ” طابعهما. وينطوي هذا الاستنتاج على رسالة موجهة بالأساس إلى من يصفون أنفسهم بأنهم “يسار صهيوني”، فحواها أن لفظتي اليسار والصهيونية متناقضتان جوهريًا.

يوضح أنطوان شلحت أن اختياره لمجموعة ترجمات يقدمها إلى القارئ العربي في هذا الفصل مرتبط بتعامل إسرائيل مع النكبة الفلسطينية، ولعل أبرزها الدوافع العامة والخاصة التي تقف وراء استمرار إنكار هذه النكبة. كما يوضح أن الأمر الأكثر جدة هو ما استجد في مواقف اليمين الإسرائيلي، الذي تراكمت إشارات قوية تشي بأنه انتقل من إنكار النكبة إلى الإقرار بها وبفظائعها، والتلويح علنًا بالاستعداد لتكرارها.. وحرب الإبادة في غزة خير شاهد على هذا الإقرار بارتكاب النكبة مجددًا، وكذلك التهديد بضم الضفة الغربية.

ويتضمن الكتاب في صفحاته الأخيرة ملحقًا يوضح كيف أن بن غوريون وقف وراء بحث كان ينبغي أن يثبت أن الفلسطينيين “هربوا في العام 1948”.

(*) كتاب “الدولة اليهودية ونُذُر النكبة الجديدة – فصول في المستجد الإسرائيلي”؛ صادر عن المكتبة الأهلية في عمّان، الأردن (254 صفحة).

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  بايدن يتخلص من نتنياهو أم يغرق في "حروب أبدية"؟