تشير الوقائع إلى أنه من غير المرجح أن يكون هناك نصر مُرضٍ للجميع، على الأقل ليس في الوقت الحالي. لقد واجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقاومة شديدة غير متوقعة من الأوكرانيين، وعقوبات قاسية من غرب موحد أيضاً بشكل غير متوقع، ومع ذلك لا شيء يشير إلى أنه على وشك التراجع. على العكس، هو ماضٍ في التصعيد. ومع تزايد عدد القتلى وحجم الدمار وخطر اتساع نطاق الصراع، يجب على الغرب التحرك بسرعة لوقف الحرب. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال مشاركة دبلوماسية فعَّالة تُنتج تسوية سياسية مُستدامة، وبالطبع مواجهة بعض التحديات.
التحدي الأول والأكثر إلحاحاً هو التوسط لوقف إطلاق النار وتقديم المساعدة الإنسانية للاجئين، داخل أوكرانيا وخارجها. يليه التفاوض على وقف الحرب. وقف إطلاق النار سيهيء الظروف المناسبة لمزيد من الدبلوماسية المثمرة، على أن تستمر المحادثات الجارية الآن بين الأوكرانيين والروس، حتى لو بدت أهدافها بعيدة المنال. ففي كل الأحوال، الجيش الروسي سيحتل أراضٍ أوكرانية شاسعة (في الشمال، والشمال شرق، والشرق الأوكراني)؛ بما في ذلك الممر البري الذي يربط شبه جزيرة القُرم بروسيا؛ وطبعاً سيحتفظ بالقُرم. وسوف تحتاج أوكرانيا والغرب إلى تحديد التنازلات التي يمكنهم تقديمها لحث بوتين على وقف حربه وسحب قواته. صحيح أن تجريد أوكرانيا من السلاح، وجعلها في دائرة النفوذ الروسي؛ كما تطالب موسكو؛ أمرٌ غير مقبول. وبخلاف ذلك، هناك القليل مما يمكن فعله الآن، مثل أنه يتعين على كييف وشركائها أن يفكروا في مدى استعدادهم للتنازل.
كل الخيارات نفدت
للتوصل إلى إتفاق نهائي، من المرجح أن تكون هناك حاجة إلى إستبعاد محاولة ضم كييف لحلف “الناتو”، وكذلك وقف توسع “الحلف” في الفضاء السوفياتي السابق. سيتعين على روسيا القبول بحق “أوكرانيا المحايدة” الاحتفاظ بروابط أمنية وثيقة مع الغرب. يجب أن يضمن “الإتفاق” المرتقب بأن تساهم روسيا في تكاليف إعادة إعمار أوكرانيا، وإجراء استفتاءات لتسوية المستقبل السياسي لجمهوريات القُرم ودونباس. بالمقابل، يتعين على الغرب توضيح إجراءاته لرفع العقوبات عن روسيا. بالطبع، لن يكون أي طرف راضياً عن جميع جوانب التسوية النهائية. ولكن من دون تنازلات صعبة، قد لا تنتهي الحرب.
صحيح أن بوتين هو من بدأ هذه الحرب، لكن الإطاحة به لن تنهيها بالضرورة.. ولا عزاء للعقوبات
لا توجد طريق واضحة لتحقيق “نصر” مُبكر وحاسم على روسيا. لقد رفضت الولايات المتحدة وحلفاؤها إمكانية التدخل العسكري المباشر للدفاع عن أوكرانيا؛ لتلافي خطر اندلاع حرب نووية؛ وقبلوا بمد كييف بالأسلحة بهدف إلحاق أكبر خسائر ممكنة بالجيش الروسي. ولكن يبدو أن بوتين مستعد لقبول أي نوع من التكلفة إذا كان هذا هو ما يلزم لإخضاع الجيش الأوكراني.
صحيح أن بوتين هو من بدأ هذه الحرب، لكن الإطاحة به لن تنهيها بالضرورة. ومن غير المرجح حدوث انتفاضة شعبية تطيح به. حتى في حالة حدوث إنقلاب في الكرملين، فقد يكون الزعيم الجديد أكثر استعداداً للتفاوض وإجراء محادثات لوقف الحرب، ولكنه لن يكون أبداً مهتماً بالإستسلام، نظراً للمخاطر التي قد يجنيها على نفسه وعلى إمكانية بقائه في السلطة. كما أنه ليس هناك من سبب وجيه يدعو إلى الإعتقاد بأن محاولة تغيير النظام من الخارج ستؤدي إلى نتيجة إيجابية. ومن يدافع عن هذا الطريق يفترض أحد سيناريوهين: ظهور مُستبد جديد مستعد لإنهاء الحرب دون انتصار، أو إندلاع احتجاجات جماهيرية تؤدي في النهاية إلى روسيا ديموقراطية. لكن أولئك يتجاهلون ماذا يمكن أن تكون نتيجة هكذا سيناريوهات، وماذا يعني أن تزعزع الاضطرابات السياسية والعنف استقرار قوة نووية عُظمى مثل روسيا. هكذا نتيجة لا يجب إستبعادها.
وبالمثل، فإن العقوبات القاسية لن تُنهي الحرب في أي وقت قريب. يُظهر السجل التاريخي أن العقوبات تستغرق وقتاً طويلاً للتأثير على الدولة المُستهدفة؛ إذا كان لها تأثير أصلاً؛ وكوريا الشمالية خير مثال. القادة الذين يعتقدون أن أفعالهم ضرورية لتحقيق الأمن القومي، كما يفعل بوتين اليوم، أثبتوا في كثير من الأحيان استعدادهم لدفع أثمان اقتصادية باهظة.
لن يكون أي طرف راضياً عن جميع شروط التسوية النهائية، ولكن من دون تنازلات صعبة قد لا تنتهي الحرب
في الوقت نفسه، لا تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الإنتظار لمعرفة المدة التي يمكن أن يتحمل فيها الكرملين تكاليف حربه. إنهم يقتربون بسرعة من الحد الأقصى للعقوبات التي يمكنهم فرضها والتي سيعانون من تداعياتها عاجلاً أم آجلاً. فأسعار الغاز آخذة في الارتفاع، وكذلك تكلفة القمح (روسيا وأوكرانيا مصدران رئيسيان). ومن المتوقع أن تزداد مشكلة التضخم سوءاً، وتنخفض معدلات النمو الاقتصادي، ما يُعرض العالم لخطر ركود اقتصادي كبير على غرار ما حدث في فترة السبعينيات من القرن الماضي. أضف إلى ذلك أن الحرب زادت من تفاقم اضطراب سلاسل التوريد الذي بدأ مع جائحة كورونا، فشركات الشحن البري والبحري والجوي اليوم تواجه تحديات كبيرة بسبب ارتفاع تكاليف التأمين، والإضطرار لإستخدام طرق أطول بعد رفض روسيا منح حق التحليق في أجوائها لـ36 دولة.
إن إطالة أمد العملية العسكرية الروسية سيؤدي إلى مقتل المزيد من الأبرياء وإلحاق المزيد من الأضرار الاقتصادية التي قد يستغرق إصلاحها سنوات، وربما عقوداً. كما أن هناك خطر توسع الحرب خارج أوكرانيا، وبالتالي ستنجر الولايات المتحدة وحلفائها في “الناتو” إلى مواجهة مسلحة مع روسيا. وقد أعلنت موسكو بالفعل أن أية قوافل تحمل أسلحة غربية إلى أوكرانيا “هي أهداف مشروعة”، وكثَّفت غاراتها وهجماتها على مواقع قريبة من الحدود الأوكرانية-البولندية. إن المطالبة بإنشاء منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا، أو تشديد العقوبات بهدف إسقاط النظام في موسكو تنطوي على مخاطر وعواقب وخيمة من دون أن يكون هناك أي أمل في أن تحقق النتائج المرجوة.
حان وقت التفاوض
صحيح أن أوكرانيا وداعميها الغربيين ليسوا في وضع يسمح لهم بهزيمة روسيا في أي جدول زمني معقول، لكن لديهم ما يكفي من النفوذ لكي يضغطوا من أجل تفعيل دور المفاوضات. والواقع أن المقاومة الشديدة من جانب الجيش الأوكراني والقوات غير النظامية التي تقاتل في صفوفه تضاعف الخسائر الروسية، وهذا قد يجعل بوتين يقبل بتسوية سياسية، لا سيما مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في روسيا وزيادة سخط النُخب والشارع. كذلك هو الحال بالنسبة لقادة أوكرانيا. إن نقطة التحول لكلا الطرفين هو الالتزام بإتفاق ينهي الحرب قد يكون على بُعد أسابيع فقط.
وهذا يعني أن الوقت قد حان لرسم الخطوط العريضة لحل دبلوماسي. وبالطبع، المفاوضات لن تقتصر على كييف وموسكو، لأن أي حل للأزمة سوف يحتاج لمعالجة ليس فقط التوجه الجغرافي السياسي لأوكرانيا بل وأيضاً مخاوف موسكو بشأن البنية الأمنية في أوروبا كلها. وهنا، لن يقبل بوتين أي محاور آخر غير واشنطن؛ الدولة الأخرى الوحيدة التي لديها القوة العسكرية الكافية لتغيير ميزان القوى في القارة.
حان وقت رسم الخطوط العريضة لحل دبلوماسي.. ونقطة التحول لطرفي الصراع قد تكون على بُعد أسابيع فقط
ستكون مسألة توسع “الناتو” شرقاً، على رأس أولويات المفاوضات المرتقبة؛ وهي المسألة التي رفضت واشنطن وحلفاؤها حتى الآن بشكل قاطع مناقشتها. كذلك، من الصعب أن نتخيل أن بوتين سيتخلى عن مطلبه بمنع إنضمام أوكرانيا لـ”الناتو” قبل أن يسحب قواته. قبل الحرب، كانت عضوية “الناتو” غير قابلة للتفاوض بالنسبة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. لكن تصريحاته الأخيرة أعادت خيار “الحياد” إلى الطاولة. في الوقت نفسه، قد تضطر واشنطن وحلفاؤها أن يقرروا ما إذا كانوا على استعداد لإغلاق باب “الناتو” أمام الدول السوفيتية السابقة الأخرى التي تسعى إلى الإنضمام.
تنازلات صعبة من الجميع
التحدي التالي هو إيجاد ترتيب يمكن بموجبه لـ”أوكرانيا المحايدة” أن تطمئن على أمنها. بعد الغزو الروسي، سيكون من الصعب جداً على القادة الأوكرانيين أن يقبلوا بشروط إتفاق مشابهة لتلك الواردة في “إتفاقية بودابست” لعام 1994 (ضمانات أمنية مقابل تخلي كييف عن الترسانة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي). سوف تسعى كييف بلا شك للحصول على أسلحة وتدريبات عسكرية من واشنطن وأعضاء “الناتو” الآخرين، وستطلب مساعدتهم في تحديث أنظمتها الدفاعية، وضمان أن يكون لديها القدرة على الدفاع عن النفس.
روسيا لن تكون مرتاحة لهكذا نتيجة بالتأكيد، لكنها قد تقبلها إذا وافقت أوكرانيا على عدم السماح لقوات “الناتو” القتالية أو أسلحته أو قواعده بالتواجد على أراضيها. في المقابل، قد تسعى أوكرانيا إلى فرض قيود على الإنتشار العسكري الروسي في المناطق المتاخمة لحدودها.
يجب أن تضمن التسوية أيضاً تخلي روسيا عن الأراضي التي احتلتها منذ بدء العملية العسكرية في 24 شباط/فبراير، ووضع إجراء لتحديد الوضع المستقبلي لشبه جزيرة القرم وجمهوريتي دونباس، وذلك بإجراء استفتاءات حرة وعادلة تحت مراقبة دولية. ومن المرجح أن يؤكد الإستفتاء إنتماء شبه جزيرة القُرم لروسيا، وأن تقبل أوكرانيا بذلك كحقيقة دون الاعتراف بها رسمياً. لكن لا يمكن التيقن من نتيجة الإستفتاء في دونباس، لذلك يجب أن تُصر كييف على إجراء الاستفتاءات في جميع أنحاء المقاطعتين.
التسوية التي تحافظ على أوكرانيا مستقلة، مع ما يكفي من وسائل للدفاع عن نفسها، يجب أن تعتبر نجاحاً كبيراً
أخيراً، يجب أن تضمن التسوية إعادة إعمار المناطق الأوكرانية التي مزقتها الحرب. لن يرغب الروس في تحمل كل العبء لوحدهم، لكن على موسكو أن تغطي الجزء الأكبر، على أن تتحمل واشنطن والأوروبيون والمؤسسات المالية الدولية الباقي.
إن إقناع موسكو بالتعهد بالتزام مالي كبير؛ أو تقديم أي من التنازلات الصعبة الموضحة هنا؛ سوف يتطلب من واشنطن وحلفائها تقديم خطة لرفع العقوبات. بدون هذا الإلتزام، لن يكون لدى موسكو حافز للموافقة على أي تسوية.
النصر لم يحن بعد
شروط أي إتفاق نهائي ستحددها تطورات الوضع الميداني لحظة بدء التفاوض. ستؤثر المواقف في ساحة المعركة والظروف الاقتصادية والسياسية داخل روسيا وأوكرانيا ودول الغرب على وتيرة المحادثات ونتائجها. وقد تكون روسيا وأوكرانيا على إستعداد لتقديم التنازلات اللازمة فقط بعد أن تستنتجا أن تكاليف استمرار القتال تفوق التضحيات التي تتطلبها التسوية الدبلوماسية. وقد يدفع الغرب بقوة للتوصل إلى تسوية فقط عندما يدرك أن العقوبات المفروضة على روسيا تتطلب منه تحمل عواقب اقتصادية قاسية. لم يصل أي طرف إلى هذه المرحلة حتى الآن، ولكن نظراً لوحشية الصراع الدائر حالياً، والخسائر المتزايدة من الجانبين، والظروف الاجتماعية والاقتصادية الهشة في الغرب، فإن وقت التسوية قد يكون أقرب مما كان متوقعاً.
سوف يتعين على التسوية (المرتقبة) أن تُوازن بين مصالح جميع أطراف النزاع. في الإطار المقترح هنا، لن يحقق أي طرف أهدافه النهائية، لكن كل طرف سيحصل على شيء يحتاج إليه بشكل عاجل؛ هذه هي النتيجة الحتمية لأي مفاوضات لإنهاء حرب مروعة. لن يبدو الأمر وكأنه “النصر” الذي يتوق إليه كثيرون في الغرب وأوكرانيا. ومع ذلك، فإن التسوية التي تحافظ على أوكرانيا مستقلة، مع ما يكفي من وسائل للدفاع عن نفسها، يجب أن تعتبر نجاحاً كبيراً. يجدر بنا أن نتذكر أن الغرب ربح الحرب الباردة ليس بضربة واحدة ولكن من خلال سلسلة من الخطوات؛ بما في ذلك تقديم تنازلات عند الضرورة والقبول بحلول وسط مع موسكو من أجل تجنب الحرب. وكانت النتيجة تراكماً مطراداً للمزايا على مدى 40 عاماً. وهذا هو النهج الذي يجب أن يتبناه الغرب اليوم.
(*) النص بالإنكليزية على موقع “الفورين افيرز“، إعداد توماس غراهام، عضو في مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، عمل كمدير أول لروسيا في مجلس الأمن القومي بين عامي 2004 و2007. وراجان مينون، مدير برنامج الإستراتيجية الكبرى في أولويات الدفاع وباحث في معهد “سالتزمان” لدراسات الحرب والسلام في جامعة كولومبيا.