أسئلة النّاقورة.. من سيمون كرم إلى هدنة ما بعد “اليونيفيل”!

هل تبدو قاعة النّاقورة اليوم صورةً مبسّطةً لما يمكن أنْ يحدث بعد خروج "اليونيفيل" النهائي من جنوب لبنان في نهاية العام 2026، أم أنّها مجرّد محطةٍ مؤقّتةٍ في مسارٍ طويلٍ يجمع بين التّهدئة والتّوتّر في الوقت نفسه؟ حين يجلس الممثّلون المدنيّون إلى جانب العسكريّين حول طاولة «الميكانيزم»، أليس في هذا المشهد إشارةٌ إلى انتقالٍ من منطق الدّوريّات العسكريّة إلى منطق إدارة الهدنة سياسياً؟ وهل يمكن لهذه القاعة الصّغيرة على شاطئ البحر الجميل أنْ تكون مكاناً تُزْرَعُ فيه بذور ترتيباتٍ أمنيّةٍ وسياسيّةٍ تفوق حجمها الجغرافيّ بكثير؟

إذا كانت قرارات التّمديد المتتالية لقوّة الأمم المتّحدة، وآخرها القرار الصّادر في آب/أغسطس 2025 الذي مدّد المهمّة حتى 31 كانون الأوّل/ديسمبر 2026، قد فتحت باب الأسئلة أكثر مما قدّمت أجوبة، أليس من الطبيعي التّفكير في بدائل؟ هذه البدائل قد تتراوح بين تعزيز انتشار الجيش اللّبنانيّ جنوب اللّيطاني ليصل إلى خمسة عشر ألفاً (من يدفع كلفة تطويع خمسة آلاف ضابط وعسكري لبناني)، وبين إرسال بعثات مراقبةٍ أوروبيّةٍ أخفّ عدداً وأوضح تفويضاً، وبين إنشاء آليات تحقّقٍ مشتركةٍ مدنيّةٍ – عسكريّة. فهل الهدف من هذه البدائل تقليص الحضور الدّولي الميدانيّ وزيادة حضور السياسة بمندرجاتها كافة على طاولة النّقاش، أم أنّ قلة الوجود العسكريّ قد تخلق فراغاً أمنيّاًّ تتكاثر فيه المخاطر، كما حذّرت تقارير مجلس الأمن من إمكان التصعيد في غياب آلياتٍ فاصلة؟

وعلى مسارٍ مواز، هل تبدو آلية «الميكانيزم» نفسها منصةَ اختبارٍ لمرحلةٍ جديدة، تُسْتَبْدَلُ فيها كثافة العربات المدرّعة بكثافة المحاضر الموثّقة بالأدلة؟ وإذا تراجع عدد دوريّات “القبعات الزرق” لمصلحة ترتيبات تحقّقٍ ومساءلةٍ أكثر دقّة، ألن يصبح توثيق كلّ خرق، وتحديد المسؤوليّة عنه، وإدارة التّصعيد عبر قنواتٍ ثابتة، هو جوهر العمل اليوميّ؟ أم أنّ الواقع الميدانيّ المتقلّب سيعيد النّقاش دائماً إلى حافّة انفلاتٍ لا تضبطه النّصوص ولا المحاضر، وبخاصةً مع الادعاءات الإسرائيليّة المتكرّرة حول إعادة التّسلّح؟

من هذه الزّاوية، كيف يُمكن قراءة تعيّين السّفير السّابق سيمون كرم ممثلاً مدنيّاً للدّولة اللّبنانيّة على هذه الطّاولة الحسّاسة، كما أعلنت رئاسة الجمهوريّة اللبنانية في 3 كانون الأوّل/ديسمبر 2025؟ هل يعني ذلك الاتّجاه نحو «مَدْنَنَةِ» (من مَدَنَ) واجهة الهدنة، أيْ إدخال العامل القانونيّ والديبلوماسيّ بقوّةٍ إلى قلب النّقاش الحدوديّ، أم أنّه مجرّد تعديلٍ بروتوكوليٍّ لا يُغيّر فعليّاً قواعد اللّعبة؟ وهل اختير كرم لأنّه يجمع بين خبرة القانون وخبرة الدّيبلوماسيّة أم لأنّ اللّحظة تحتاج وجهاً مدنيّاً يُطمئن الدّاخل والخارج معا، وفي الوقت نفسه يضبط سقف الخطاب مع الخارج، وبخاصةً أنّه كان سفيراً سابقاً في واشنطن؟

وإذا كان أيّ بديل عن “اليونيفيل” يحتاج إلى تعزيز حضور الدّولة بمؤسّساتها وأجهزتها الأمنية معاً، أليس وجود ممثّلٍ مدنيٍّ على الطاولة عاملاً يساعد على قيادة حوارٍ يربط بين انتشار الجيش على الأرض ومساءلة الخروق في الاجتماعات؟ وكيف يمكن تنظيم هذا المزج حتى لا تتحوّل الاجتماعات إلى منبرٍ لإصدار البيانات فقط، بل إلى أداةٍ دقيقةٍ لإدارة المخاطر تُقَاسُ فيها النّتائج بسرعة الاستجابة لا بضجيج العناوين؟ ثم أليس السّؤال الأعمق هو: من أين تبدأ السّيادة اليوم، من الخطّة العملانيّة أم من الفقرة القانونيّة، ولا سيما في ضوء الاعتماد على دعمٍ أميركيٍّ – فرنسيٍّ في عمليات التّحقّق؟

وعلى المستوى الدّوليّ، هل يستطيع الرّعاة الخارجيّون أنْ يوفّروا مظلّة تحقّقٍ فعّالةً من دون أنْ يُفهَمَ وجودهم كبديلٍ عن سيادة مؤسّسات الدّولة؟ وإذا تراجع حضور القوّات الأمميّة على الأرض، فهل تكفي الوساطة السّياسيّة، ووسائل الاستشعار، والطّائرات غير المأهولة، وأنظمة حفظ الأدلّة، لإرساء توازن ردعٍ هادئ؟ أم أنّ التّكنولوجيا، إذا لم تحظَ بقبولٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ، قد تتحوّل إلى عبءٍ جديدٍ يزيد من حساسيّة قضايا السّيادة والخصوصيّة والكرامة الوطنيّة، كما يظهر في النّقاشات حول آليات التّحقق المشتركة؟

ثمّ ماذا عن الدّاخل اللّبناني المتنوّع؟ ألن يثير إشراك مدنيّين في طاولةٍ كان يقودها العسكريّون تقليديّاً أسئلةً لدى فئاتٍ تخشى أنْ يقود ذلك تدريجيّاً إلى نوعٍ من التّطبيع المقنّع؟ أم أنّ وجود واجهةٍ مدنيّةٍ يمكن أنْ يحمي المؤسّسة العسكريّة من التّسييس، ويمنحها هامشاً مهنياًّ أوسع على الأرض؟ وهل يمكن أنْ يتحوّل هذا الجدل نفسه إلى فرصةٍ لوضع تعريفٍ أوضح للأدوار: أين تنتهي وظيفة السّلاح، وأين تبدأ وظيفة القانون الملزِم، وما هي الخطوط الحمراء التي يقرّ بها الجميع ولو بصمت؟

وعلى مستوى المجتمع في الجنوب، أليست عودة الأهالي إلى أعمالهم وحقولهم ومدارسهم امتحاناً يوميّاً لأيّ ترتيباتٍ أمنيّةٍ جديدة؟ إذا كانت قيمة البدائل تُقَاسُ بقدرتها على طمأنة النّاس، لا بعدد الفقرات في البيانات الرّسميّة، أفلا تستحقّ ملفات نزع الألغام، وحماية المزارعين، وضمان حركة سيّارات الإسعاف، وأنظمة الإنذار المبكّر، أنْ تُعَامَلَ كأولويّاتٍ لا كقضايا ثانويّة؟ وهل يمكن أنْ يفتح وجود ممثّلٍ مدنيٍّ لبنانيٍّ على الطّاولة الباب أمام مانحين ومؤسّساتٍ قادرةٍ على ربط الأمن بمصادر الرّزق، والهدنة بمقوّمات العيش الكريم، كما يحدث في مبادرات الإعمار الدّوليّة؟

وفي التّفاصيل الإجرائيّة، كيف سَتُدَارُ نقاط الالتباس على الخطّ الأزرق؟ هل يكون ذلك عبر بروتوكولات اتّصالٍ فوريّة، أم عبر خرائط محدَّثة، أم باستخدام كاميراتٍ مشتركةٍ تحت إشراف طرفٍ ثالث، كما هو الحال في «الخطّ السّاخن» الذي أُنْشِئَ بموجب وقف إطلاق النّار في تشرين الثّاني/نوفمبر 2024؟ وهل تكفي الخطوط السّاخنة والمهل الزّمنيّة المُلْزِمَةُ لمعالجة الحوادث، أم لا بدّ من آليّة تصعيدٍ تدريجيٍّ تحدّد درجات المسؤوليّة، وبنود التّعويض، وسبل ردع تكرار الخروقات؟ ثم ماذا عن الشفافية: هل تُنْشَرُ محاضر مختصرةٌ لطمأنة الرّأي العامّ، أم أنّ السّرية تبقى شرطاً لحماية قنوات التّواصل من ضغط الجمهور والسّياسة؟

إقرأ على موقع 180  من ابن عربي إلى ابن تيمية.. من يُرمّم السماء فوق دمشق؟

وعلى الصعيد الأوسع، هل الاتّجاه إلى بنيةٍ أمنيّة هجينة، تكون فيها الآليّة الثّلاثيّة ركناً لضبطٍ سياسيٍّ- تقنيّ، ويشكّل فيها الجيش العمود الفقريّ الميدانيّ، فيما يصبح المجتمع المحلّيّ شريكاً واضحاً في مراقبة سلامٍ هشّ؟ وهل سيكون تعيين سيمون كرم اختباراً عمليّاً لهذه البنية، بحيث تُقَاسُ النّتائج بصمت الحدود لا بضجيج المنابر، وبانتظام المواسم لا بصور الاجتماعات؟ أم أنّ الطريق سيبقى متعرّجاً، تتعاقب فيه فترات تهدئةٍ مع لحظات توتّرٍ لا تُروَّضُ إلا بحُسْنِ إدارة كلّ لحظة؟

وهل سيحول تعيين سيمون كرم دون تصعيد إسرائيل إعتداءاتها ضد لبنان بشكل شبه يومي، وهل تلقى لبنان ضمانات أميركية أم أن الحرب بشكلها الذي اعتدناه منذ نهاية حرب الـ66 يوماً ستستمر وربما أحياناً بوتيرة أكثر تصاعداً، وهل تملك السلطة السياسية اللبنانية تصوراً إلى أين يُمكن أن تذهب أبعد من تعيين ديبلوماسي سابق على رأس الوفد اللبناني في اجتماعات “الميكانيزم” أم أننا أمام واقع صعب سيجعلنا نُقدم التنازل تلو التنازل بينما يُوسع الإسرائيلي احتلاله وقضمه للأراضي اللبنانية ويرتفع عدّاد الشهداء والجرحى والأسرى والتدمير؟

أخيراً، إذا كان سؤال «ما بعد اليونيفيل» لا جواب واضحاً عليه، أفلا يكون الخيار الواقعيّ هو بناء جسرٍ من أسئلةٍ مُنَظَّمّة، بدلاً من السّعي إلى إعلان يقينٍ مبكّر؟ وهل تستطيع آليّة «الميكانيزم» أنْ تصبح هذا الجسر حين تستند إلى حضورٍ مدنيٍّ ذي طابعٍ سياديّ، وإلى مهنيّةٍ عسكريّةٍ منضبطة، وإلى رعايةٍ دوليّةٍ تحترم الحدود التي ترسمها الدّولة لا تلك التي تُفْرَضُ عليها؟ أم أنّ الطّريق إلى استقرارٍ يمكن قياسه سيبقى مفروشاً بعلامات استفهام، يُجَابُ عن بعضها في كلّ جلسةٍ بمقدار خطوةٍ آمنة، ويُتْرَكُ ما تبقّى منها إلى جلسةٍ أخرى في القاعة الزّرقاء؟

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مع القيصر في قصره.. و"قلبه"