أنطوان سلامه عن كتابه “الموارنة والشيعة في لبنان”: طائفتان قادرتان على الوقوف

"الموارنة والشيعة في لبنان.. التلاقي والتصادم". عنوان كتاب المؤلف أنطوان سلامه الصادر عن "دار هاشيت - نوفل" في بيروت. صبّ الكاتب على صفحاته الـ 464 تاريخاً من مصائر طائفتين تحت سقف جغرافي تفيّأوا تحته وتميزوا بدينامية إيجابية ولّادة. تاريخٌ من صفحات لم تزل قيد الكتابة والتأسيس وترسيم الهويات. عن الكتاب هذا الحوار مع مؤلفه الأستاذ أنطوان سلامه:

منى سكرية: بذل الأستاذ أنطوان جهداً بحثياً على مدى ثلاث سنوات، فاغتنى بفيض من المعلومات والأخبار والحكايات. لماذا اخترت حصراً الكتابة عن هاتين الطائفتين في الاجتماع اللبناني؟

أنطوان سلامه: لديّ نظرة إلى تاريخ لبنان وتكوّنه، ولا أفصل لبنان عن مجموعاته الطائفية. وقد لاحظت من خلال قراءاتي التاريخية، التي بدأت تقريباً عام 1984، أن التركيز كان دائماً على الصراع الدرزي-الماروني، فيما لاحظت وجود صراع آخر بين الموارنة والشيعة. أولاً لأن الطائفتين قديمتان في وجودهما الجغرافي، ولأنني كنت أسمع همساً بأن هذه المنطقة أو تلك كانت لأبناء الطائفة الشيعية، إضافة إلى ما كنت أسمعه من عتب من النخب الشيعية على تهميش الموارنة لهم، وهذا – برأيي – غير صحيح.

صراع المقاطعجية

– لندخل إلى مضمون الكتاب. أنت تذكر أن الموارنة أتوا إلى لبنان نتيجة اضطهاد مسيحي لهم، وأن الشيعة أتوا إلى جبل عامل نتيجة اضطهاد إسلامي لهم. بمعنى أن المكوّنين تعرضا لاضطهاد من ضمن “بيوتهم”. لماذا تأجّجت الصراعات بينهم كما تذكر؟ 

هناك مفارقة في تاريخ لبنان: حتى في عزّ المواجهات، تستمر خطوط اللقاء، ويستمر خط التعايش بين الناس وكذلك خط التحارب. وهذا يتوضح حتى في الحرب الأهلية. طبعاً هناك أسباب مذهبية وعصبية ضمن الدين الواحد، وهناك العوامل الاقتصادية، وهي أكثر من كونها سياسية. وهنا برز التناحر الماروني-الشيعي على جباية الضرائب.

– تذكر في كتابك أنه حتى إنشاء المتصرفية كان الشيعة والموارنة يتناحرون على جباية الضرائب لدى السلطنة العثمانية وعلى نفوذ ضيّق المساحة. سؤالي: هل علينا أن نطلق على هذا التناحر السمة الدينية، في حين أنه لم يكن من أجل مشروع سياسي أو وطني، ولا من أجل نظرة مستقبلية لأماكن اختلاطهم؟

كان صراعاً بين إقطاعيين، أو “المقاطعجية” عند الموارنة وعند الشيعة. خصوصاً أن المقاطعجية الحمادية (آل حمادة) كانوا تاريخياً جباة الضرائب من مناطق مارونية في شمال لبنان (من جهة بشري)، ما أدى إلى احتكاك بينهم. وهذا الاحتكاك حصل أيضاً بين الفلاحين الموارنة وإقطاعهم في ثورة الفلاحين. لذلك أشدد على أن الخلاف كان بخلفية سياسية-إقطاعية، ولم يكن له أي طابع ديني. مثلاً في ذلك الصراع لم يحاول الموارنة تنصير الشيعة ولا الشيعة أسلمة الموارنة.

– أقصد بسؤالي: لماذا لا يتم حصر هذا الصراع ضمن طابعه الاجتماعي-الزعاماتي-المقاطعجي؟

حاولتُ مقاربة وضع هاتين الطائفتين الأقدم والأكثر عراقة في تاريخ لبنان.

– أليس الدروز قبلهم؟

كلا، الشيعة قبل الموارنة بكثير. بدأوا بالقدوم إلى لبنان قبل الفتح الإسلامي ومع الفتح الإسلامي، وقبل الدروز. حاولت أن أقول – بشكل غير مباشر – لكل المؤرخين المغالين طائفياً وقومياً، وتحديداً القوميين اللبنانيين من فخر الدين وصولاً إلى الآن، إن فخر الدين في النهاية كان جابياً للضرائب، وحصل على هذه المهمة من السلطنة العثمانية بالمزاد، ومثله آل حمادة وآل حبيش وآل الخازن وكل الإقطاع. هذا ما حاولت إبرازه من دون إطلاق صفات أو تقييم. فالخلفية دائماً هي السلطنة العثمانية بتركيبتها الإدارية التي أعطت هذا الإقطاع صفة الحاكم.
وبالنسبة لمؤرخين آخرين – ولن أذكر أسماء – لم يحكم الشيعة لبنان كما يحاول بعضهم القول، لأن مفهوم الاستقلالية السياسية والسيادة لم يكن معروفاً خارج السلطنة العثمانية. كانوا مجرد جباة ضرائب.
المشكلة أن الموارنة والشيعة يشتركون في مبدأ المغالاة، أي المبالغة كثيراً في تقديم صورة مضخمة للطائفة. أشير هنا إلى أن الموارنة في فترة من التاريخ كانوا يعتبرون أنفسهم “أمة”، ولكن إذا شرحنا معنى الأمة نجد أنه لا ينطبق عليهم. ومثلهم الشيعة الذين لم يكونوا حكّاماً للبنان؛ إضافة إلى أن فخر الدين والدروز والجميع كانوا تحت سلطة العثمانيين والمماليك، ولم يكونوا حكّاماً فعليين.

رهائن السلطنة والخارج

– يصف المؤرخ الدكتور مسعود ضاهر هؤلاء المقاطعجية بأنهم كانوا “رهائن” السلطة العثمانية. هل ترى- كباحث في التاريخ- أن هذه السمة ما تزال تلازم التكوين الطائفي للنظام في لبنان، بما يكرس صفة “رهائن الخارج”؟

يمكننا القول إن لبنان بمثابة “ساحة”، وهذا مصطلح شائع. ودائماً هو عرضة لتدخلات خارجية. وللأسف نرى هذا في مسار تاريخ الطوائف التي يتكوّن منها النظام. فميول الموارنة تتجه نحو الغرب والفاتيكان، وميول الشيعة نحو الشرق من النجف إلى قم؛ لكن يمكنني القول إن التركيبة الإدارية في الفترة العثمانية ساهمت في تأسيس النعرات الطائفية بشكل منظم وممنهج. الإدارة أفرزت جباة الضرائب وكانت بيد الإقطاع، وهذا الإقطاع تمادى.

– بدليل ما تذكره عن انتفاضة الفلاحين الموارنة على مقاطعجيتهم، ومثله عند الآخرين؟

جباة الضرائب كانوا متشددين في جبايتها لزيادة أرباحهم.

– فكانوا قساة وظالمين؟

نعم، مسألة عرض وطلب.

تختصر في كتابك خيارات الموارنة والشيعة بأن الموارنة اتجهوا بخيار “جيو-سياسي”، والشيعة بخيار “جيو-تاريخي”. كيف ذلك؟

إقرأ على موقع 180  إبتسامة الرئيس المكلف.. وحماقاتنا 

من خلال قراءاتي لتاريخ الموارنة والشيعة لاحظت أموراً مشتركة، منها ميزة الدينامية الإيجابية. فبعد الضربات القاسية تاريخياً- كضربة المماليك للشيعة وكانت كبيرة- عادوا بقواهم الذاتية ومن دون أي تدخل خارجي. ولا ننسى أننا نتحدث عن جبل عامل: جبل العلماء والمفكرين والخطباء والشعراء.

كان لهم تأثيرهم في “تشييع” الصفويين في إيران ونشر الفكر الشيعي هناك؟

صحيح. وحتى “ولاية الفقيه” قال بها الشهيد الأول الجزيني. ثم جاءت الضربة الثانية الكبيرة على يد جمال باشا السفاح الذي أحرقهم وأحرق قراهم، لكنهم عادوا بقواهم الذاتية، ومن خلال نخبهم الدينية والزمنية. وكذلك الأمر في فترة الانتداب الفرنسي عندما شنّ الجنرال غورو حملة كبيرة على جبل عامل، إلى أن عاد الشيعة ودخلوا في مشروع لبنان الكبير.
لن أتحدث عن الفترة الحديثة لأن لديّ مخاوف من ألّا يستطيع الشيعة بقواهم الذاتية أن يكونوا فاعلين كما في السابق.
وعلى صعيد الموارنة هناك شيء مشترك: فقد تعرضوا لمقتلة في فترتي المماليك والعثمانيين لكنهم بقوا قادرين على الوقوف.
هنا أطرح سؤالاً على الموارنة والشيعة: أرى أن الموارنة يعيشون حالياً “نكسة”، والشيعة يعيشون “نكبة”. وأطالبهم بقراءة هذا الكتاب وأن يخجلوا من أحوالهم. فالنهضة المارونية في اللغة العربية – في مصر والشرق – وكذلك ما فعله شيعة جبل عامل من نهضة، كلها تدعو للسؤال: أين كنّا وأين صرنا؟
يؤلمني كثيراً أن يكون الماضي أفضل من الحاضر.

أهلُ جبالٍ.. ومراعٍ

أوردتَ الكثير من التوثيق عن تصادم المكوّنين الماروني والشيعي حيثما تواجدا، وعن تلاقيهما أيضاً. إذ تذكر أنه خلال فتنة 1860 أغاث شيعة جبل عامل المسيحيين جراء ما ارتكبه الدروز بحقهم. وتذكر أن الطرفين استنجدا بقوى خارجية، وأن الجميع- مع الدروز- رفضوا تسليم السلاح لإبراهيم باشا حين طالبهم به. ألا تلاحظ عدم موضوعية بعض المؤرخين في كتابة تاريخ البلد؟

هناك واقع اجتماعي مشترك: الموارنة والشيعة أهل جبال وأهل مراعي. وبالتالي فإن النزعة التحزبية الطائفية قوية لديهم كانتماء. وهناك بنية عسكرية مشتركة في المجتمع، وهذا ما يقلقني من الطرفين لأنهما يمتلكان السلاح والتركيبة العسكرية الجاهزة.
تقاتلوا سابقاً على امتلاك الأرض، وهذا يرتبط بالهوية: الهوية الطائفية للموارنة والهوية الطائفية للشيعة. والإقطاع كان المشكلة. هناك أشياء مشتركة، ولكن هناك حواجز نفسية أيضاً. ومع ذلك لم يصل الصراع بينهما إلى أقصى العنف الدموي كما حصل بين الموارنة والدروز.

لفت انتباهي قولك إنك تتألم لأن الماضي أفضل من الحاضر. كما أوردت أنه في بيان ثورة الفلاحين على الموارنة المقاطعجية دعوا إلى “عدم الاستحقار بالمخاطبات”، أي المطالبة بالاحترام المتبادل؟

من أسباب وضع هذا الكتاب وتركيزي على هاتين الطائفتين هو خطاب الكراهية الذي نسمعه على وسائل التواصل الاجتماعي. أردت أن أوجّه رسالة لهذا الجيل بأن يقرأ تاريخه جيداً. المشترك بين الموارنة والشيعة حالياً- وربما عند طائفة أكثر من أخرى- هو إلغاء البعد الثالث، وهذا أمر غير صحي.

ليس بوسعنا ألا نرى حال الطائفة الشيعية من زاوية واحدة. فجبل عامل وأهله كابدوا مصير فلسطين ونكبتها، وعانوا الاحتلال الإسرائيلي، وكانوا وقود الحرب الأهلية اللبنانية…

الطائفة الشيعية تتميز بديناميتها. بين العامين 1920 و1943 حصل حراك (شيعي) كبير، وأنا أسميه “الحيرة” قبل أن يتخذوا قرار الانضمام إلى لبنان. لاحظي معي مسألة مهمة: عندما يكون الحراك طبيعياً داخل الطائفة يعطي نتائج إيجابية. وبالعكس، عندما يكون هناك قمع يعطي نتائج سلبية. الدليل عام 1920 عندما تلقّى الشيعة ضربة قاسية من الانتداب الفرنسي، لكنهم استوعبوها، وأعادوا حساباتهم، ودخلوا في بناء لبنان الكبير. لذلك أدعو الشيعة إلى العودة لقواهم الذاتية والخروج من الحالة الحالية.

– وهذا شرطه إبعاد الخطر الإسرائيلي؟

بالنسبة لي، أصررت على تناول نقطة حساسة عند الموارنة هي فترة الميليشيا في المنطقة الشرقية وتعاملها مع إسرائيل. وأحببت القول إنه حتى عام 1936 لم يستحوذ خطر المشروع الصهيوني على الوعي العربي واللبناني. لقد تعاملت عدة طوائف لبنانية مع الوكالة اليهودية؛ أما اليوم فأؤكد أن القاسم المشترك بين الموارنة والشيعة هو الوعي بالمخاطر الإسرائيلية، إنما الخلاف هو حول وسائل المواجهة. وهنا أؤكد على ضرورة الحوار الجدي البعيد عن الأضواء بين هاتين المجموعتين وبين كل المجموعات اللبنانية. رأيي أن قيام إسرائيل كان “الزلزال” الذي انعكس على لبنان أولاً.

(*) للمؤلف كتاب عن طانيوس شاهين وكتاب آخر بعنوان “الكاريكاتور الدنماركي من كوبنهاغن إلى الأشرفية”، وكتابات متفرقة منها كتاب عن تاريخ بلدته ذوق مكايل عنوانه “أزمنة الحضور في تاريخ لبنان”.

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  7 أكتوبر يُنتج تحولات إقليمية كبرى.. فلسطين تبتعد وإسرائيل منبوذة