“ميليشيا أبو شباب”.. “إسرائيل” تُفبرك نموذجًا لحديًّا في رفح!ّ

شكَّل سؤال الحكم (اليوم التالي) في قطاع غزة إحدى أبرز المعضلات أمام الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما بعد أن طرح بنيامين نتنياهو محدداته الرئيسية للنظام المنشود في القطاع: نظام محلي لا يُعادِي "إسرائيل"؛ لا يرتبط بأية بنية وطنية فلسطينية، لا من "حماس" ولا من "فتح"، مع رفض سياسي إسرائيلي لعودة السلطة الفلسطينية في رام الله لتولِّي المسؤولية، برغم التقديرات المختلفة للأجهزة الأمنية الإسرائيلية.

دفعت هذه المواصفاتُ المؤسسة الأمنية وجيش الاحتلال منذ الشهور الأولى لحرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من سنة ونصف السنة إلى خوض رحلة بحث عن بديل محلي “متعاون”، وبدعم مباشر من جهات إقليمية ودولية، وجرت محاولات متكررة للاستثمار في نماذج يُعتقد أنها قابلة لتكون نواة حكم بديل. إلا أن جميع هذه المحاولات ارتطمت بجدار الرفض الشعبي، أو سقطت بسبب صلابة البنية الوطنية والمجتمعية في قطاع غزة.

إما بديلنا.. أو الفوضى!

منذ ديسمبر/كانون الأول 2023، طلب نتنياهو من المسؤولين الأمنيين فحص إمكانية الاعتماد على قوى محلية لإدارة القطاع بعد الحرب، وهو ما كشفته صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، التي نقلت أنه طلب تعزيز مكانة عشائر مسلحة وجهات محلية للسيطرة على أجزاء من غزة.

إلا أنه عاد في يونيو/حزيران 2024 ليُقر صراحة بفشل هذه الخطة، قائلاً في مقابلة تلفزيونية: “نريد إنشاء إدارة مدنية بالتعاون مع فلسطينيين محليين؛ خطتنا لمنح عائلات وعشائر فلسطينية في غزة السيطرة على القطاع فشلت، والآن نعمل على خطة أخرى لن أكشف عنها”.

على الأرض، رصد أهالي قطاع غزة هذه المحاولات، وسجَّلوا مواقف مشرفة للمجتمع المحلي، وخصوصًا من قبل العشائر، والمجتمع المدني، ورجال الأعمال، الذين أفشلوا المسارات المفروضة، ورفضوا الانخراط في الهندسة الإسرائيلية. وقد وثقت العديد من التقارير الصحفية – وبينها العديد مما أعده كاتب هذه المقالة – هذه المواقف وقرأت دلالاتها.

بموازاة هذه الإخفاقات، وضمن مسارات بديلة لتحقيق الأهداف نفسها، صعَّدت سلطات الاحتلال من استهدافها للأجهزة الأمنية والشرطية في غزة، تلاه استهداف موسَّع للجان الحماية الشعبية التي شكَّلتها القوى الوطنية والعشائر لحماية قوافل المساعدات ومنع نهبها.

وفي الوقت نفسه، برزت إلى السطح مجموعات النهب والبلطجة، كأذرع غير رسمية تتحرك بانسجام مع الضربات الإسرائيلية.

ويُشير هذا المشهد بوضوح إلى أن الاحتلال يضع المجتمع الغزي أمام كماشة قاسية: إما القبول بمسارات الهندسة القسرية التي تفرضها الحرب، وإما السقوط في دوامة الفوضى المنفلتة التي تقودها مجموعات من المجرمين والعملاء، وبعض الفارين من السجون بعد تدمير البنى الأمنية والمؤسساتية.

وتنبثق هذه المقاربة من فرضية مركزية: إذا فشل مشروع بناء نظام بديل فلا ينبغي أن تكون النتيجة القبول بالنظام القائم، بل مواصلة مسار التدمير الكامل –ليس فقط للبشر والحجر، بل لروح المجتمع وتماسكه، وهويته الوطنية، وذلك عبر إنتاج نموذج أشبه بـ”الصوملة”، تتحكم فيه مجموعات مسلحة منفلتة، تقاتل من أجل الغذاء والمساعدات والنفوذ، وتفتك بالنسيج المجتمعي.

وفي المحصلة، لا يهدف هذا النموذج إلى أي شكل من أشكال “إدارة” القطاع، بل إلى تكريس كونه منطقة منكوبة بالكامل، غير قابلة للعودة إلى الحياة الطبيعية، كمدخل فعلي لاستكمال مشروع التهجير القسري وفرض حل نهائي بالقوة على غزة وسكانها.

من الفوضى إلى الوكالة

يعرف سكان المناطق الشرقية في مدينة رفح جيدًا العصابة التي تمارس البلطجة على المساعدات الإنسانية، فهذه المجموعة ليست جديدة على المجتمع المحلي، بل ارتبط اسمها طويلًا بملفات جنائية معروفة تعود إلى ما قبل اندلاع الحرب الحالية.

كانت الوجهة الدائمة لكثير من عناصرها سجون الأجهزة الأمنية بغزة، نتيجة تورطهم في قضايا تهريب وسرقة واعتداءات متكررة، قبل أن تجد هذه العصابة طريقها إلى واجهة المشهد مجددًا تحت غطاء مختلف تمامًا.

تتصدَّر الصورة شخصية “ياسر أبو شباب”، الذي عُرف بعدائه لحركة “حماس”، وقد اعتُقل سابقًا من قبل أجهزتها الأمنية بتهم تهريب الممنوعات وارتكاب جرائم جنائية، إلا أنه خرج من السجن في الأيام الأولى لحرب الإبادة بعد تدمير المقار الأمنية إثر القصف الإسرائيلي. وقد استغل هذا الفراغ الأمني والفوضى ليشكِّل ميليشيا مسلحة قوامها نحو مِائة عنصر، معظمهم من أصحاب السوابق والخارجين من السجون إضافةً إلى ذوي الارتباطات الداعشية، وتحركت هذه الميليشيا لاحقًا بتواطؤ مفضوح مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، تحت غطاء “تأمين المساعدات”.

ووفقًا لتحقيق نشرته صحيفة “واشنطن بوست” نقلًا عن مسؤولين في منظمات الإغاثة وشركات النقل، فإن جماعة “أبو شباب” متورطة بعمليات اختطاف وقتل لسائقي شاحنات مساعدات قرب معبر “كرم أبو سالم”. وذكرت الصحيفة أن هذه العصابات باتت العائق الأكبر أمام تدفق المساعدات إلى جنوبي القطاع، في ظل رفض متكرر من حكومة الاحتلال السماح لأية جهة أمنية فلسطينية بمرافقة القوافل أو ضبط الفوضى على الأرض.

وتنقل مذكرة داخلية للأمم المتحدة تأكيدات بأن هذه العصابات تحظى بتسهيلات، إن لم يكن بحماية مباشرة من جيش الاحتلال، مشيرة إلى أن “أبو شباب” أنشأ ما يشبه “قاعدة عسكرية” داخل مناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وأن قوات الاحتلال تواجدت أكثر من مرة على مقربة من مواقع النهب والسرقة دون أن تتدخل، ما يؤكد وجود غطاء ميداني مباشر لتحركات هذه الجماعة.

محاولة فرض وكلاء محليين بالقوة أو الإغراء ليست مجرد خطأ تكتيكي، بل إنها تعبير عن مأزق بنيوي في عقل الاحتلال، فهو لا يستطيع التعامل مع المجتمعات بوصفها كيانات ذات إرادة، بل يراها دائمًا مشاريع تفتيت قابلة للهندسة. لكن غزة، كما جنوبي لبنان، تُثبت أن المجتمعات المقاومة تُفشل دائمًا هذه المشاريع، لا بسلاحها فحسب، بل بصلابتها الاجتماعية ورفضها الفطري لكل ما هو مفروض من الخارج، أيًّا كان شكله أو اسمه أو لغته

صحيح أن الاحتلال يستثمر في الفوضى داخل غزة ويغذي مظاهر الانفلات، لكن أهدافه تتجاوز الفوضى المجردة نحو تحطيم البنية الوطنية والاجتماعية في القطاع، وخلق تشكيلات هامشية بديلة تعيد تعريف العلاقة مع الاحتلال على أسس “التعامل الطبيعي”.

هذه الاستراتيجية، حسبما تكشفه تسريبات عبرية، تقوم على كسر الحاجز النفسي الذي يفصل الفلسطيني عن العدو، إذ ترى المنظومة الأمنية الإسرائيلية أن هذا الحاجز – وليس المقاومة المسلحة وحدها – هو العائق الأخطر أمام تمرير مخططاتها.

إعادة تدوير “أبو شباب”!

في هذا الإطار، جرى تدوير العصابة المسلحة بقيادة “أبو شباب” لتلعب دورًا محوريًّا في الخطة الأميركية الإسرائيلية لتوزيع المساعدات التي تجري باسم “مؤسسة غزة الإنسانية”، وتحمل أهدافًا أمنية واستعمارية، على رأسها إعادة هندسة الواقع السكاني في جنوبي القطاع، وتحويل المساعدات إلى أداة ضغط وتمهيد لخطة التهجير.

تتحكم جماعة “أبو شباب” حاليًّا في الطرق المؤدية إلى شرقي رفح، وتُسوِّق لنفسها كـ”قوة محلية ضامنة”، بينما تُظهر المشاهد الميدانية عناصرها مسلحين برشاشات، يفرضون وصايتهم على عمليات التوزيع، متحدثين بلغة إعلامية منسقة ومنتجة بعناية، تتطابق مع الرواية الإسرائيلية الموجهة للجمهور العربي.

إقرأ على موقع 180  "التغريبة الجنوبية" في قرى لبنان الحدودية 

الرفض الشعبي المتصاعد للنموذج الذي حاول “أبو شباب” تقديمه أكد نباهة المجتمع في قطاع غزة لما أكده تقرير “يديعوت أحرونوت” الذي كشف عن خطة سرية أعدَّها جهاز “الشاباك” لتسليح ميليشيا محلية في رفح، وتمت بموافقة مباشرة من نتنياهو، ونُقلت بموجبها مئات البنادق من “إسرائيل” إلى هذه الجماعة. وقد أشار التقرير إلى علاقات اقتصادية وثيقة بين هذه المجموعة وتنظيم “داعش” في سيناء، على الرغم من عدم وجود ارتباط تنظيمي مباشر.

تسريبات الخطة التي انتشرت عبر الإعلام الإسرائيلي كان مصدرها الرئيسي وزير الحرب السابق أفيغدور ليبرمان، الذي كشف أن “إسرائيل” نقلت بنادق هجومية إلى ميليشيات إجرامية في غزة، وقال إن ذلك جرى بأوامر من نتنياهو، دون عرضه على المجلس الوزاري. ليبرمان وصف هذه الجماعات بأنها “تعادل تنظيم داعش”، وحذر من انعكاسات هذه السياسة على الأمن الإسرائيلي.

لكن نتنياهو لم ينكر، بل رد عبر مقطع مصور قال فيه: “ما هو السيء في أن نفعل ذلك؟ نحن نُفعِّل قوى تعارض “حماس”، وهذا قد ينقذ حياة جنودنا”. وهو اعتراف واضح بدعم مباشر لمليشيا محلية، لا لتقويض المقاومة فحسب، بل لإعادة بناء قوة أمنية بديلة على الأرض، تكرارًا لتجارب سابقة في العراق وجنوب لبنان.

ومن الجدير الإشارة إلى أن هذا الإعلان لم يكن مفاجئًا لأهالي رفح الذين يدركون تمامًا أن ما يجري على الأرض هو محاولة لإنتاج نموذج عميل في غزة، عبر استثمار عناصر هامشية وفوضوية، ومنحها غطاءً ميدانيًّا وسياسيًّا لتلعب دور واجهة محلية لتطبيع الاحتلال، وتفكيك التماسك الوطني في قطاعٍ لم ينكسر على الرغم من كل المجازر.

استحضار متكرر لتجارب فاشلة

تحاول “إسرائيل” إعادة إنتاج نمط استعماري تقليدي قائم على إنشاء قوى محلية موالية داخل المناطق التي تحتلها أو تسعى إلى إعادة هندستها أمنيًّا واجتماعيًّا. في جنوبي لبنان، ظهر هذا النمط بوضوح عبر تجربة “جيش لبنان الجنوبي” بقيادة انطوان لحد، والذي تأسس بدعم مباشر من الاحتلال، وقبله ميليشيا سعد حداد التي حاولت إقامة “دولة لبنان الحر” في سبعينيات القرن الماضي.

واليوم، تُعيد “تل أبيب” استحضار الفكرة ذاتها في قطاع غزة، من خلال مجموعات محلية مثل “أبو شباب”، والتي يجري تسويقها على أنها قوى شعبية تنسق المساعدات أو تؤمن مناطق انتشار الجيش الإسرائيلي.

لكن هذه التجارب، على اختلاف السياقات، تتقاطع في بنية واحدة: استغلال الانقسامات المحلية، والفراغ الأمني، ومخلفات الأزمات، بهدف خلق واجهات محلية تخدم أهداف الاحتلال الاستراتيجية دون تحمل كلفة الاحتلال المباشر.

هذه السياسة ليست جديدة، بل لها امتدادات استعمارية واضحة. ففي نيجيريا في خلال العهد البريطاني، أنشأت الإدارة الاستعمارية ما يُعرف بـ”قوات الهوسا”، وهي تشكيلات محلية مُجندة من أبناء بعض القبائل، كُلفت بفرض النظام الاستعماري وقمع أي تمرد.

تكررت التجربة ذاتها في الهند، حين استخدمت بريطانيا جنودًا هنودًا عُرفوا باسم “السباي”، خُدعوا بخطابات النظام، لكنهم انقلبوا عليه لاحقًا في تمرد 1857 الشهير، وفي تلك الحالات كلها، اعتمدت القوى الاستعمارية على وكلاء محليين، وظَّفتهم لفرض السيطرة، مقابل امتيازات محدودة، لكنها فشلت في بناء شرعية حقيقية لهم داخل مجتمعاتهم.

في الحالة اللبنانية، لم تنجح “إسرائيل” في ترسيخ شرعية لـ”جيش لحد”، على الرغم من سنوات من الدعم والتسويق له كـ”حامٍ للجنوب”. فمع تصاعد المقاومة، وجد “جيش لحد” نفسه معزولًا اجتماعيًّا، فانهار فور انسحاب الاحتلال في العام 2000.

وفي غزة، يواجه نموذج “أبو شباب” المصير ذاته، فالمجتمع ينبذ هذه المجموعات بصفتها أدواتٍ عميلة، وتحوُّل الإعلام الرقمي إلى ساحة مفتوحة لفضح ممارساتها، من التواطؤ مع الاحتلال، إلى سرقة المساعدات ومحاولات بث الفوضى.

مأزق بنيوي.. وفشل حتمي

من منظور علم الاجتماع السياسي، تسعى “إسرائيل” إلى تشكيل هويات فرعية مفصولة عن الهوية الوطنية الجامعة، كما حاولت سابقًا في لبنان من خلال الترويج لهوية “جنوبية” مقابل الهوية اللبنانية، وتحاول اليوم الإيحاء بوجود قوى “قبلية” أو “مجتمعية” مستقلة عن التكوين الفلسطيني الجامع.

لكن هذه الاستراتيجية تنتج غالبًا نتائج عكسية، إذ تعزِّز الهويةَ الجماعيةَ الرافضةَ وتُقوي الارتباطَ بالمقاومة، خاصةً في ظل الأزمات الكبرى مثل الاحتلال والحصار والحروب، كما تُظهر نظريات إميل دوركهايم حول التضامن الاجتماعي في أوقات التهديدات الوجودية.

من جانب آخر، فقد أضاف الإعلام الرقمي متغيرًا جديدًا لهذا النمط التاريخي، وبينما كانت بريطانيا تعتمد على الصحف الاستعمارية لتبرير استخدام “السباي”، وكانت “إسرائيل” في الثمانينيات تُروِّج لـ”جيش لحد” عبر وسائل تقليدية محدودة، فإن معركة اليوم تجري على العلن. إذ تنشر “تل أبيب” عبر منصات تُشغلها مقاطع مصوَّرة تُظهر مجموعات “أبو شباب” وهي توزِّع المساعدات أو تنظم نقاط التفتيش، لكن سرعان ما تُقابل هذه المقاطع بمنشورات مضادة من الأهالي والناشطين، تكشف الخلفيات الحقيقية لتلك الجماعات، وتُعيد تشكيل الرأي العام ضدها بسرعة وفعالية.

في النتيجة، تفشل هذه النماذج في تحقيق أي استقرار استراتيجي، لأنها تقوم على أسس واهية وتفتقر إلى العمق المجتمعي. فالشرعية لا تُصنّع بالدعاية أو السلاح، بل تحتاج إلى قبول مجتمعي، وارتباط عضوي بالناس وهمومهم، وهو ما تفتقده هذه المشاريع الممولة من الاحتلال. وتجربة “جيش لحد” خير دليل على أن الولاء المدفوع لا يصمد طويلًا في وجه الولاء الوطني المتجذر.

إن محاولة فرض وكلاء محليين بالقوة أو الإغراء ليست مجرد خطأ تكتيكي، بل إنها تعبير عن مأزق بنيوي في عقل الاحتلال، فهو لا يستطيع التعامل مع المجتمعات بوصفها كيانات ذات إرادة، بل يراها دائمًا مشاريع تفتيت قابلة للهندسة. لكن غزة، كما جنوبي لبنان، تُثبت أن المجتمعات المقاومة تُفشل دائمًا هذه المشاريع، لا بسلاحها فحسب، بل بصلابتها الاجتماعية ورفضها الفطري لكل ما هو مفروض من الخارج، أيًّا كان شكله أو اسمه أو لغته.

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الطناني

كاتب فلسطيني مقيم في غزة

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  المصالحة الفلسطينية أولوية.. ومدخلها مؤتمر وطني تجديدي