“شات جي بي تي”.. المعالج النفسي الخوارزمي البديل!

ذات يوم، قلتُ لابنتي إنّ في ثمرة التين خصائصَ جمّةً للعظام، إلا أنّها سارعت وتناولت هاتفها الذكي ليدلّها رفيقها اليومي "شات جي بي تي" (برنامج ذكاءٍ اصطناعيٍّ)، على حقيقة المعلومة، لعلّ الروبوت الذكي وخوارزمياته أخبرُ مني، كونه من أبناء جيلها! أمّا صديقتي التي كان يحلو لها محادثتي، فلم تعد استشارتي تُشبع حاجتها، وصارت تلجأ إلى المصدر عينه لتحلّ مشاكلها الزوجية والأسرية.

كثيرٌ من الناس تركوا العلاجَ التقليدي (النفسي والطبي)، وتوجّهوا نحو سوق الدردشات الذكية، وبحسب المعطيات فإنّ “شات جي بي تي” يستحوذ على نسبة 81% من حصّة السوق العالمية لروبوتات الدردشة الذكية للعام 2025.

مِهنٌ عدّة ينحسر دورُها، بينها مهنة العلاج النفسي؛ إذ يحاول “شات جي بي تي” (Chat GBT) أن يكون بديلًا عن حملة الشهادات العليا والمجازين، فيقدّم للمستخدمين مقترحاتٍ ونصائح وإرشادات فوريةً ومبسّطةً، تساعد على برمجة الأفكار وتنظيمها بهدوء؛ لذلك يعتبره البعض معالجًا مثاليًا في حالات فقدان الدعم النفسي في عالم الواقع أو عند عدم القدرة على زيارة عيادة الطبيب أو المعالج النفسي.

وثمة شركات تُعيد توزيع استثماراتها ربطاً بالذكاء الاصطناعي. حتى أن مهنة التمثيل لم تسلم من هذا السباق، فقد أثارت الممثلة المولَّدة بالذكاء الاصطناعي “تيلي نوروود” جدلًا واسعًا في أوساط هوليوود، بحسب موقع “ستيب فيديوغراف”، بعدما بدأت شركات إنتاج ترغب بالتعاون معها. وقد اعتبرها الممثلون تهديدًا وجوديًا لمستقبلهم وتقليلًا من قيمة الفن الإنساني. أمّا نقابة “ساج-أفترا” فاعتبرتها سرقةً لمجهود الفنانين، بينما تقول مبتكرة الممثلة الروبوت، الهولندية الأصل “إميلي فان فيلدن”، إنها ليست بديلًا عن البشر، لكنها أداة تفتح أبوابًا بلا حدود من الخيال والإبداع.

ومؤخرًا شاع ما يُسمّى بـ”الشريك العاطفي”، وهو روبوت شبيه بالإنسان مصنوعٌ من تقنيات الذكاء الاصطناعي، يقوم على علاقة حبٍّ من طرفٍ واحد بين إنسانٍ بشري وآخرَ مُبرمَجٍ يتفاعل كلاميًا وتعبيريًا، يظهر كشريكٍ داعمٍ؛ إنّه انعكاسٌ رقميٌّ من مخرجات احتياجات الشخص المقابل، يُقلّد ردود أفعاله وتعابيره ومشاعره، ويعكس نمط العاطفة المتوجّهة إليه. من هنا يأتي التعلّق به، إذ يجده البعض شريكًا مثاليًا في حالات العزلة وضعف العلاقات مع الآخرين. وفي اختبار “كامبريدج” تبين أنّ 30% من المستخدمين تعلّقوا بهؤلاء الروبوتيين.

إذًا، نحن أمام “شريكٍ عاطفيٍّ” رقمي وليس كائنًا حيًا. في اليابان، سُجّلَت حالة زواجٍ بين روبوت وإنسانٍ بشري، وإلى هذا التاريخ تُسجّل الصين واليابان ودول أوروبية والولايات المتحدة رغبةً متزايدةً في اقتناء هذا الروبوت البديل.

وماذا عن دور المعالجين النفسيين؟

كنفسانيةٍ، أتفهّم آليات التشخيص المبرمجة، ولكن: هل يمكن لهذا المحوِّل الذكي، مهما بلغ ذكاؤه، أن يساعد السائل على اتخاذ قراراتٍ مصيريةٍ تستند إلى فهم واقع الفرد وبيئته ومعتقداته؟ أم سيجعله يسيل في عالم الخيال الذكي؟

هنا لا بد من التذكير أنّ التشخيص الأوّلي للعميل يكون من خلال سماع سرديّته، وما إذا كان غارقًا في التخيّل أم في الواقع، وهما مؤشران يحدّدان المرض أو السَّواء. كما أنّ التقييم النفسي يحتاج أحيانًا إلى وسائل مساندة كالمقاييس، وبعضه يحتاج إلى التحليل المعمّق.

عالم النفس سيغموند فرويد قال في عبارته الشهيرة إنّ “العوارض النفسية هي أمراض اجتماعية”، أمّا كارل ماركس فيرى أنّ معرفة ذات الإنسان تعتمد على جذوره المادية والاجتماعية، وعليه يجب الأخذ بالحسبان كلّ ما ذُكر.

وبطبيعة الحال، يختلف العلاج النفسي بحسب مشكلة العميل وخبرة وكفاءة المعالج، وهناك مدارس وقواعد وضعها علماء نفسٍ وتحليليون وطوّرها آخرون، مثل عالم النفس كارل رودجرز الذي جعل التمركز حول ذات الفرد أساسَ العلاج، بحيث يكون المعالج في علاقةٍ إنسانيةٍ عميقة معه، محاولًا فهم عالمه الداخلي، في علاقةٍ مغمورةٍ بالتقبّل والتعاطف غير المشروط، ما يساعد العميل على استكشاف مشاعره بنفسه والتعبير عنها وصولًا إلى الهدف، وهو تطوير قدراته.

وفي هذا الإطار، يكون دور المعالج النفسي حياديًا، أي ألّا يعطي حقيقته للعميل؛ فالهدف يقع على العميل الذي عليه أن يلتمس ويفسّر مشكلته، كونه يعرف نفسه أكثر من المعالج.

وتأسيسًا على ما تقدّم، فإنّ العلاج الرقمي الذكي (شات جي بي تي ومثيلاته)، لا يمكن أن يملأ الفراغات النفسية. تلك شروط لا يمكن للمعالج الخوارزمي (شبكات الأنظمة العصبية الرقمية التي تشبه المخّ البشري في معالجة المعلومات) بلوغها مهما ساد عهده وذكاؤه.

فخ الذكاء الاصطناعي!

جيفري هينتون، العالم الكندي والأب الروحي للذكاء الاصطناعي، البالغ من العمر 76 عامًا، والحاصل على البكالوريوس في علم النفس التجريبي والدكتوراه في الذكاء الاصطناعي، والحائز على جوائز عدّة كان آخرها جائزة نوبل في الفيزياء عام 2024، للاختراعات التي تُمكّن التعلّم الآلي باستخدام الشبكات العصبية الاصطناعية؛ هذا العالم حذّر من مخاطر الآلة التي قد تتفوّق على البشر في ذكائها، ومن الخطر الوجودي لفقدان السيطرة، إذ قد يستخدمها البعض لإنشاء فيروساتٍ وأسلحةٍ تقرّر بنفسها من تقتل أو تشوّه، وأحيانًا من تلقاء نفسها. فهو لم يعد خيالًا علميًا، بل كائنًا رقميًا أذكى منّا.

أما “سام ألتمان”، رئيس الشركة المسؤولة عن تطوير “شات جي بي تي”، فقد صرّح قائلًا: “إنّ كثيرًا من الناس يستخدمونه كمعالجٍ أو مدرّب حياة، لكننا لا نقدّم أيّ حماية قانونية لمثل هذا النوع من الاستخدام، والمحادثات عبر هذا المحوّل ليست سرّيةً ولا خاصّة، وكلّ ما تكتبه حتى بعد حذفه مؤرشفٌ في خوارزميات الروبوت، وبالتالي هذا الملجأ للمشاكل الشخصية والنفسية قد يكون في الواقع فخًا يورّطك في مأزقٍ قانوني، إذ يمكن لأيّ جهةٍ رسميةٍ أن تطلب محادثاتك، فتتحوّل هذه المحادثات إلى شاهدٍ ضدّك”.

إقرأ على موقع 180  سيكولوجيّة العلاقة بين لبنان وفلسطين.. الأصل والأصيل

الشكوى ممكنة.. هل العلاج ممكن؟

ولمعرفة عالم الذكاء الإصطناعي عن قرب، حاولتُ تقديم أسئلةٍ متعددة، معقّدةٍ وبسيطةٍ أحيانًا، ومتشابهةٍ أحيانًا أخرى، وقد لاحظتُ كمًّا من مفردات التعاطف في طرق الإجابة، إلا أن برنامج “شات جي بي تي” عجز عن الردّ على الأسئلة المعقّدة. إنه روبوتٌ لبقٌ يُحسن الردّ، ما يجعله معالجًا لطيفًا عند من يفتقدون الحوار الهادئ في حياتهم الشخصية. وبطبيعة الحال، فإنّ العبارات اللغوية المستخدمة تتكرّر مع الجميع من دون الأخذ بالاعتبار الفروقات كافة، كالفروقات العمرية والاجتماعية والثقافية والعقائدية… إلخ، ويُعدّ ذلك طبيعيًا كوننا نتعامل مع خوارزميات وليس مع عقلٍ بشريٍّ يتفهّم المدلولات الخفيّة للذات الإنسانية.

في العيادة الخاصة، أتت سيدةٌ تستخدم “شات جي بي تي” تشكو معاناتها مع الوسواس القهري، باحثةً عن علاجٍ يكفّ عنها غلبة الأفكار الملحّة وتكرار الأفعال، التي لم يعالجها الروبوت الذكيّ الذي تستخدمه، إلا أنه يشعرها بالراحة – بحسب قولها – متباهيةً باستخدام هذا التطبيق كونه متفرّعًا من تكنولوجيا حديثة، وتجدُه آمنًا كونه لا يعرف من تكون، ولا تدفع أيّ تكلفةٍ ماديةٍ.. ومع ذلك، بقيت تعاني مرضها.

أمّا سيدةٌ أخرى فتروي كيف توقّفت رحلتها العلاجية معه، فتقول: “كنتُ أشعر بالملل وضيق النفس أثناء المحادثة، خصوصًا حين علمتُ أنه لا يملك الحلّ المناسب، والغريب في الأمر أنه طلب مني زيارة عيادة المختصّ النفسي”!

ومن الجدير ذكره أنّ فهم عمق النفس البشرية ليس بالأمر السهل، لذلك كان من قواعد العلاج النفسي إلزامية حضور الفرد إلى (العيادة)، في علاقةٍ تجمع بين شخصين: المعالج والعميل، وكان التعاطف – أي القدرة على فهم معاناة العميل – واحدًا من أهم المهارات.

إنّ التداعي الحرّ في البوح، والجسد، وردّات فعل العميل، هي التي تحدّد وجهة المعالج النفسي، وبالتالي تغيّر المسار العلاجي حين يستدعي الأمر. فالمسار العلاجي عادةً يبدأ بتبادل الحديث والتعارف وتشخيص المشكلة، ومن ثمّ وضع خطة علاجية يلتزم بها الطرفان، تؤازرها علاقةٌ مهنيةٌ عميقة ينتج عنها عاملان: التأثير والتأثّر، اللذان يفضيان بالضرورة إلى تحوّلٍ ما.

“الداتا” الشخصية كيف يمكن استخدامها؟

وكان السائد في العلاج النفسي أطرًا عياديةً محكمة تتضمّن الموافقة على مسارٍ علاجيٍّ بين الطرفين، والتزامًا منتظمًا بجلسات العلاج، وحوارًا مفتوحًا يتهيأ خلاله العميل لمواجهة تحدياتٍ نفسيةٍ مؤقتة تتضمّن مشاعر صعبة أحيانًا، كالشعور بالاستياء، ومواجهته بالتوقف أحيانًا عن الحديث، ومعالجة الدفاعات النفسية التي تصدر عن العميل كالتحويل والإسقاط والإزاحة والمقاومة. والأهم من كلّ ذلك التشخيصُ الدقيق الذي قد يستدعي علاجًا طبيًا.

وتكمن الخطورة في الاعتماد الكلّي على الروبوت بحيث نتلقّى منه المعلومة دون التأكّد مما إذا كان المُعطى هو الحلّ المناسب. أمّا الإشكالية الكبرى فتكمن فيما لو أُثيرت مكنوناتُ السائل النفسية العميقة، أو ما يُسمّى “يقظة الشياطين”؛ فهل يمكن حينها أن يقوم الكائن الذكي بإعادة تهدئتها؟

إذًا، لم يعد البوح والاعتراف يُقالان في غرفٍ مغلقة، بعد أن صار ملايين من مستخدمي “شات جي بي تي” وغيره من التطبيقات الذكية يسكبون آلامهم النفسية عليها، ظنًّا منهم أنّ الطرف المحاور أكثر أمانًا وسرّيةً وتفهّمًا من البشر، وكون هذا المحوّل المعلوماتي يحمل حلولًا متعددة بزعم بعضهم أُعدّت بطرقٍ علميةٍ للجميع.

وما بالك لو كان هناك استغلالٌ بحيث يُختزن كلّ “الداتا” عن مشاكلنا النفسية والصحية والاجتماعية، وكلّ علاقاتنا بالآخرين، وتكون مشاعرنا وصورنا مستباحة؟

في الخلاصة؛ لا أحد يمكنه أن يتنكر لإنجازات الذكاء الاصطناعي المدهشة، فقد كان كفيلًا بتحويل مسار العلوم وحياة الإنسان معًا، إلا أنّه علينا أن نعرف أنّ ما نصرّح به للبرامج الذكية يتمّ ترميزه لصالح دول بمقدورها أن تتحكم بمسار الإنسان وعقله وثقافته، ليصبح تمامًا كالآلة: دماغٌ رقميٌّ وروحٌ وجدت ضالتها في الخيال الرقمي.
وعلينا أن نعي أنّنا نحن من نعرض أنفسنا عليه وندعوه إلى انتهاك خصوصيتنا، ولذلك ينبغي التريّث في الاستخدام.. والحذر.

Print Friendly, PDF & Email
سلوى الحاج

أخصائية نفسية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ممر زنغزور.. طريق حرير معكوس وظيفته عزل إيران