اللاوعي الجمعي.. وعُصاب الحاضر اللبناني

يتكلّم فرويد عن أهمية اللاوعي في تفسير العصاب او الاضطراب اليومي الذي يكابده الفرد في محاولة التوافق النفسي والاجتماعي مع ما تمليه عليه الأنا الأعلى وما يطلبه الـ "هو" من نزعات وأهواء يحاول كبحها من خلال كبتها في لاوعيه او تنفيذها برضا "الأنا" أي الوسيط الواقعي.

هذا الصراع النفسي الذي يعيشه كلُّ فردٍ فينا حسب فرويد، هو ببساطة صراعٌ بين النَزَعات الحيوانية لدى الانسان وبين القِيم المِثالية التي تربى وشبَّ عليها، وبالتالي، فإن عدم اشباع النزعات الحيوانية يخلق لدى الفرد توتراً يحاول التخلُّص منه من خلال كبته في اللاوعي، وهذا اللاوعي سرعان ما يخرج مكبوتاته بأشكل ومظاهر مختلفة عما هي عليه في الحقيقة، من هنا بدأ فرويد بتفسير الاضطرابات النفسية بطريقة التداعي الحر، اي كلام المريض عن كل ما يجول في خاطره مهما كان تافهاً لينتقي منه رموزاً ويربطها بسياقاتها الطفولية ويفهم سبب عصابه.. وبالتالي علاجه من خلال اخراج المكبوتات إلى الوعي.

هذه الطريقة العلاجية يمكن اعتمادها بشكل أوسع، فكما يحتاج الفرد الى المساعدة لاستعادة توازنه الداخلي، واستقراره النفسي، فإنّ المجتمعات المضطربة وبلدنا لبنان منها، بحاجة إلى مثل هذا التداعي علّنا نجدُ تفسيراً لاضطرابنا الجماعي يحيلنا إلى وسائل علاجية تخفف من وطأة المعاناة التي نرزح تحتها.

لا يمكن دراسة المجتمعات بدون الركون الى عالم النفس السويسري كارل يونغ الذي ارتدّ عن معلمه فرويد، وأعطى الأهمية الأولى في مدرسته التحليلية إلى اللاوعي الجماعي بما يحمله من تجارب البشرية المتوارثة عبر الأجيال والرموز المشتركة لدى كل الحضارات والثقافات، هذه الرموز التي تعكس اساطير وروايات تعيد انتاجها الحضارات المختلفة – باعتبارها الثقافة الخاصة بها ـ وما هي الاّ اساطير وروايات انسانية تعيد تكرار نفسها باساليب وطرق مختلفة، ومنها يستطيع الباحثون فهم سياق السلوك العام لهذه المجتمعات من خلال تفسير أبرز ما تحمله من رموز في لاوعيها الجمعي، حيث لا تدرك المجتمعات الخلل والتشوهات الموجودة في سلوكها العام، كما لا يدرك الفرد مظاهر العصاب في سلوكه اليومي.

وعندما حاولت البحث عن المشتركات الموجودة اليوم لدى اللبنانيين من خلال اسئلة عفوية طرحتها على بعض الطلاب الجامعيين، كانت الاجابات متباينة بشكل كبير جداً، تباين الابيض للاسود، وظهر انقسام واضح في كيفية معالجة القضايا الاساسية في لبنان، بدءاً من المشاركة بالانتفاضة الشعبية للمطالبة بنظام مدني مروراً بمسؤولية السياسيين عن الانهيار الحاصل وصولاً إلى الحلول المتوقعة للخروج من الأزمة.

أهمية الأسئلة لم تكن إلا تطبيقاً لمبدأ التداعي الحُر حسب فرويد ومحاولة تفسير مظاهر العصاب التي يعاني منها الشعب اللبناني  وابرزها: الشعور بالقلق والخوف من الآخر، النفاق والازداوجية السلوكية، المداهنة والغش ومحاباة السياسيين والمسؤولين في السلطة، الضعف والعجز عن ابتكار الحلول الفردية والجمعية، اللاواقعية في تقييم الأمور والانفعالية في التعبير عن الأزمات، النرجسية والتعصب ضد الاخر المختلف، الوهم الثقافي والمعرفي والوهن في ادارة الذات وعدم الرغبة في التعاون، عدم الشعور بالانتماء الوطني، والشعور بالمظلومية والرغبة في استغلال الضعيف وغيرها من التصرفات العدوانية او التدميرية.

ليس السلوك الجمعي اللبناني الا انعكاساً لفقدان الثقة الداخلية لدى الجماعات، اي داخل افرادها أنفسهم وفقدان الثقة بينها وبين الجماعات الأخرى، وفقدان الثقة مع النظام العام والمجتمع بكل اركانه وشرائحه ومؤسساته وانظمته، وهذا الاحباط أنتج غياباً شبه تام لقومية لبنانية تجمع اللبنانيين تحت خصائص وسمات مشتركة تدفعهم للعمل معاً من اجل تحقيقها

ومن خلال الاجابات، برزت عدة نقاط لها دور اساسي في عدم وجود مرتكزات مشتركة لدى الشريحة الأكثر شباباً من الطلاب اللبنانيين.

أولاً؛ التجربة مع الاحتلال التي عاشها معظم جنوب لبنان لمدة 22 عاما، وهي تجربة أثقلت ذاكرة الجنوبيين بصور الدماء والموت والدمار وخلقت لديهم مناعة نفسية تقلّل من تعاطفهم مع الجرائم الأخرى انطلاقا من المعاناة التي عاشوها في الوقت الذي كانت فيه بعض المناطق اللبنانية تشهد مناخات عدم اكتراث لمعاناة الجنوبيين. هذه المعاناة انعكست لدى معظم الجمهور الجنوبي تمسكّا بسلاح المقاومة بوصفه “المخلّص” من الاحتلال والوسيلة التي أعادت اليهم شعورهم بالحرية والعزة والكرامة؛ وفي المقابل، عدم الثقة بقدرات دولتهم ومؤسساتها العسكرية والأمنية على حماية حدودهم وأرضهم وكرامتهم وأرزاقهم.

هذا الموقف يعكسه جيل لم يعش من الصراع اللبناني الاسرائيلي الا حرب 2006 وبالتالي فان ارتكازه لبناء هذا الموقف كان من خلال الاحاديث المتوارثة عن الأباء والأجداد مِمَن عايشوا حقبة ممتدة من مطلع سبعينيات القرن الماضي حتى التحرير عام 2000، وهذا ما يفعله اللاوعي الجمعي الذي يتسم بانعزاله في الزمن الماضي فقط وعدم مواكبة التغيرات الحاضرة التي تحصل وبناء التصورات والأحكام الراهنة من خلال الروايات عن الأحداث التي حصلت في فترات سابقة.

في مقابل هذه التجربة، كانت شريحة أخرى من الشباب اللبناني لا تعرف عن جنوب لبنان سوى انه منطقة يسيطر عليها حزب الله وترفض وجود سلاح خارج سلطة الدولة اللبنانية وتعتبر حزب الله احتلالا ووصاية ايرانية على البلد تهدد وجوده الكياني فيحاول بشتى الوسائل الانتصار في معركة الوجود “أكون أو لا أكون”، “غالب أو مغلوب” بغض النظر عن صوابية مشروعه او حقيقة مشروع الآخر.

إقرأ على موقع 180  الظاهر والكامن في خطاب "عدم الاختلاف الايديولوجي" مع اسرائيل!

ثانياً؛ كانت الاجابات سلبية  حول امكانية الوصول إلى العدالة والكشف عن المتورطين في انفجار مرفأ بيروت والسبب يعود إلى ما يسمعونه من  تجارب الحرب الاهلية التي عاشها اهلهم  طيلة خمسة عشر عاما وانتهت بلا مصالحة ولا إعتراف ولا مصافحة ولا غفران وبالتالي بقيت ذاكرة الناس مثقلة بالجراح الفردية (تهجير، قتل، خطف، ترويع إلخ..) وكل مشاهد الحرب الأهلية، لكأن السلطات المتعاقبة أرادت جعل هذه الذاكرة شذرات متطايرة كسبا للوقت وتفاديا للمحاسبة، وهذا ما يظهره اللاوعي الجمعي بشكله الانفعالي الاكثر جلاء حيث يتعطل التفكير الباحث عن الوسائل المتاحة لايجاد الحلول او التغيير، إذ لم تطرح اجابات الطلاب اي فكرة جديدة عن الانتخابات كوسيلة للتغيير.

ثالثاً؛ من الاسئلة حول ما اذا كان التعايش المشترك بين اللبنانيين هو تعايش حقيقي ام متوهم؟ كانت الاجابات ان التعايش المشترك هو ذريعة سياسية لاستغلال السلطة الحاكمة للفروقات الموجودة بين الأديان والمذاهب وبين الثقافات والايديولوجيات، استغلال يسبّبُ الخوف من الآخر ويساهم في تقوقع الجماعات وانكفائها داخل بوتقاتها الجغرافية وترك المناطق المختلطة من دون سلطات ناظمة لأمور الناس، ما يؤدي الى اشكالات فردية تعيد التذكير باختلاف الهويات وضرورة بناء الحدود الرمزية بين المواطنين ارتكازا على الهويات الدينية، وهذه السياسة عملت على تعميق الهُوة بين الـ”نحن” والـ”هم” وأصبح  الـ”نحن” مُقدساً والـ”هم” مُدنّساً، انطلاقاً من لاوعي خاص لكل جماعة يبرّر كل ما يصدر منها من سلوكيات غير سوية لا تعرف قيماً ولا ضوابط ولا يمكن التنبؤ بها وهذا ما يريده النظام الحاكم المستفيد من هذه التصرفات لما تتركه من خوف وجودي لدى افراد كل جماعة وتزيد من سيطرته وسطوته عليها.

بإختصار، ليس السلوك الجمعي اللبناني الا انعكاساً لفقدان الثقة الداخلية لدى الجماعات، اي داخل افرادها أنفسهم وفقدان الثقة بينها وبين الجماعات الأخرى، وفقدان الثقة مع النظام العام والمجتمع بكل اركانه وشرائحه ومؤسساته وانظمته، وهذا الاحباط أنتج غياباً شبه تام لقومية لبنانية تجمع اللبنانيين تحت خصائص وسمات مشتركة تدفعهم للعمل معاً من اجل تحقيقها وتحقيق حياة كريمة لجميع أبناء هذا الوطن.

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  تزايد حالات الانتحار لبنانياً.. هرباً من الواقع!