تستطيع أن تحمل مسطرة وتقيس الهويات والوجوه. الأكيد أن غالبية المنتفضين هم أناس حرّكهم الوجع والألم. حتما نزل حزبيون ومن كل أحزاب لبنان، إما بغض نظرٍ، كما فعل، أقله، حزب الله والقوات اللبنانية، ولو بدرجات متفاوتة، وإما بقفز جمهور حزبي عن منطق أحزابه التي لم تعد قادرة على إقناع قواعدها وجمهورها.
لا قيادة للإنتفاضة، هذا صحيح. يطالب الجمهور بإسقاط النظام. شعار مستحيل، لكنه مفيد. حتما، هناك من يحمل المسطرة أيضا ويقيس حسابات الربح والخسارة. لنبدأ من أبرز ثلاث قوى في الداخل اللبناني..
ميشال عون وجبران باسيل والتيار الوطني الحر أكبر الخاسرين. سقطت نظرية العهد القوي والماروني القوي. إذا كان أقوى زعيم ماروني في تاريخ لبنان قد وصل إلى بعبدا، وبات محاصرا بالشارع، من يمكن أن يأتي من بعده، إلا القديسين؟ كل ما يحكى عن توريث لا قيمة له أمام شارع غاضب لا يمكن إحتواءه لا بالمسكنات ولا بالشعارات، لا بل إن نظرية “القوي” سترتد على صاحبها، لأن الناس تنتظر منه وهو القادر على الدفع وليس الآخرين.
القوات اللبنانية والكتائب والمردة، هم خاسرون ورابحون. رابحون بمجرد أن يكون العهد هو الخاسر الأول. لكن بالمفرق، قد تقيس كل قوة مسيحية حساباتها، إرتباطا بلعبة السلطة والمغانم. يستطيع الكتائبي أن يبرىء نفسه وكذلك القواتي ولكن الإثنان شركاء، في سلطة مهما تبدلت لافتاتها. مجلس النواب ممثل في الحكومة.. والحكومة ممثلة في مجلس النواب. إنتفت السياسة والمحاسبة والمراقبة وصرنا ندور في دوامة اللاسياسة في لبنان.
حزب الله أكبر الرابحين والخاسرين. حاول منذ سنة ونيف، وبكل الوسائل إقناع شركائه في السلطة بتعديل أو تغيير قياساتهم. المؤسف أن مستوى التفاعل وحتى طرح الأفكار، ولو إقتصر الأمر على إدارة الأزمة، كان متدنيا جدا، بالمقارنة مع هول المشهد الإقتصادي والمالي في لبنان، وهذا يحمل حزب الله مسؤولية أكبر من غيره، لأنه لطالما قدم نفسه، بوصفه الأحرص من غيره على الإستقرار، فهل كان بمقدوره أن يستبق اللحظة، بأداء ومقاربات مختلفين، وهل صحيح أنه لم يكن قادرا على القيام بأكثر مما فعل لأجل حماية البلد، بدءا من أقرب حليف وصديق إلى آخر حليف أو صديق في الجمهورية، ولماذا كان ينخفض سقفه، يوما بعد يوم، بذريعة ما تسمى “الخطوط الحمراء”؟
ثمة تبدل في الولاءات أساسه إجتماعي هذه المرة وعلى الجميع أن يقرأ الرسالة
لعل حزب الله، بهذا المعنى، الرابح الأول، إذا أحسن إستثمار اللحظة، بدءا من محاولة تحطيم مكتب رئيس كتلته النيابية في النبطية، عاصمة حزب الله السياسية في الجنوب وصولا إلى إستهداف وزراء الحزب ونوابه. لا أحد فوق رأسه خيمة في لبنان. لا هيبة لأحد على حساب البلد والناس، أياً كان هذا “الأحد”، قريباً أم بعيداً. إصطدمت كل محاولات حزب الله للحد من الفساد بجدران طائفية ومذهبية وحسابات حلفاء وخصوم يبحثون عن مكاسب سياسية أو إنتخابية، لذلك، صار النقاش قابلا للذهاب أبعد من ذلك بكثير. أبعد من الحكومة وسياساتها. هنا، يصبح المجال مفتوحا أمام من يريد أن يحلل ويجتهد، قليلا أو كثيرا.
أما حركة أمل، فإنها في قلب كل الحكومات وعلى رأس كل المجالس النيابية المتعاقبة منذ ثلاثة عقود من الزمن. التصرف على قاعدة أن البلد عبارة عن كتل طائفية ومذهبية يمكن إدارتها بـ”الريموت كونترول”، لم يعد دقيقا. ثمة هيكل قد يسقط على رؤوس الجميع، ولا أحد قادر على التحكم باللعبة. الجمهور الغاضب لن يميز ولن يقبل محاولة “إستثماره” طائفيا أو مذهبيا على قاعدة أن سم النظام الطائفي “منو وفي”. أي كلما كبر الخطر على النظام، كلما إستعان أركانه بالسم الطائفي حماية لهم وللنظام، وصولا إلى تأبيده. ثمة تبدل في الولاءات، أساسه إجتماعي هذه المرة، وعلى الجميع أن يقرأ هذه الرسالة جيدا، ولو أنها لا تشي بالثبات. المسألة عبارة عن تراكم، في كل الساحات، الطائفية والمذهبية والمناطقية والعشائرية….
أما سعد الحريري، فحكايته لا تشي إلا بالتراجيديا. لم يكن هذا الشاب يحلم في أسوأ أحلامه وكوابيسه، بأن يكون عبارة عن عمر كرامي الجديد. إبن رفيق الحريري يسقط هو وحكومته في الشارع. الإستقالة شبه الحتمية هي محاولة واضحة لإحتواء الغضب. لإخراج الناس من الشارع وهم يرفعون علامات النصر. سقطت الحكومة وسقطت معها كل إجراءاتها الضرائبية. سقط “سيدر” وسقط كل رهان فرنسي أو غربي على قدرة الحريري على تسويق نفسه وتسويق حكومته دوليا. لا الموازنة المقترحة للعام 2020 أحدثت صدمة إيجابية ولا الإرتجال الإقتصادي على طريقة وزير الجمهورية محمد شقير، ولا تجاهل مطلب الحد الأدنى فرنسيا بتشكيل هيئة ناظمة لقطاع الكهرباء.
طارت الحكومة، لكن هل يمكن القول أن ذلك كافيا لخروج الناس من الشارع؟
قد “يمون” حزب الله على حلقة معينة أبعد من جمهوره الحزبي، وقد يمون هذا الحزب أو ذاك على إخراج بعض الغاضبين من الساحات، لكن الجمهور اللبناني الأعم، الموجود في الشارع، لا يبدو أنه بمقدور أحد أن يمون عليه. هل يمكن أن تتطور الأمور أبعد من رأس الحكومة ومن رأس رئيسها الذي يدرك أنه لن يأتي رئيس حكومة إلى السراي الكبير غيره من الآن وحتى إشعار آخر؟ هل تحاصر الحشود القصر الجمهوري ومجلس النواب وماذا بعد؟
المعضلة الكبرى أن القدرة على الضبط أو التحكم بالشارع باتت شبه معدومة
حتما ليس بمقدور الناس الصمود في الشارع من دون أفق سياسي. لذلك، سنشهد فصولا من فصول إنتقال الصراع إلى مربع أهل السلطة أنفسهم. تقاذف المسؤوليات ومحاولة تحسين موازين القوى في أية تركيبة حكومية مقبلة. لكن يتكرر السؤال، هل يمكن أن يقبل الناس بإعادة إنتاج السلطة السياسية نفسها بتعديل بعض الوجوه والأسماء، أم أن ما كان يحصل في لبنان تاريخيا، على صعيد الصيغة، تبدلت قواعده، فصار يمكن لهذا الأمر أن يحصل “على الحامي” لكن ليس السياسي أو الأمني، بل الإقتصادي والمالي والإجتماعي؟
تطيير الحكومة وتطيير رأس هذا الموظف أو ذاك، في أي موقع كان، لن يكون كافيا، لكن المعضلة الكبرى أن القدرة على الضبط أو التحكم بالشارع باتت شبه معدومة. في المقابل، هل يستطيع الشارع أن يفرز قيادة تشكل صمام أمان لمنع أخذ البلد إلى الفوضى العارمة، خصوصا وأن بعض من في السلطة، قد يصل به الأمر، عند شعوره بتهديد مصالحه، إلى حد القول “عليّ وعلى أعدائي يا رب”؟
إنكسرت الحواجز. الهيبة باتت مفقودة. الثقة معدومة. توزيع الأعباء ممر إلزامي لأي خروج من الشارع. من يمكن أن يشكل قاسما مشتركا بين حزب الله والأميركيين؟
حتى الآن، لا أحد إلا الجيش اللبناني.
لننتظر وبعدها لكل حادث حديث.