تعيش المبادئ السياسية، التي نمت عبر تاريخ طويل من الصراع الأخلاقي والفلسفي، طورًا من السيولة المعيارية. السيادة، العدالة، الشرعية، وحقوق الإنسان تنتقل من حالة الثبات المفهومي إلى حالة التداول العملي، حيث تتشكّل دلالاتها عبر اللغة والخطاب والتحالفات.
تقدّم فلسفة الالتباس، كما بلورها توماس باور، مدخلًا كاشفًا لفهم هذا التحوّل. التعدّد يظهر بوصفه قدرة ثقافية على إنتاج المعنى، حين يُدار داخل أفق يعترف بتنوّع القراءات. هذا المنطق، عند إسقاطه على السياسة، يكشف انتقال الالتباس من قيمة معرفية إلى تقنية اشتغال. المفاهيم السياسية تحتفظ بأسمائها المهيبة، بينما تتغيّر وظائفها تبعًا للحظة السياسية. القيمة تستمر حضورًا رمزيًا، فيما يتبدّل مضمونها العملي مع تغيّر ميزان القوة.
الخطاب السياسي الراهن يعكس هذا الوضع بوضوح. السيادة تُقدَّم أحيانًا باعتبارها تعبيرًا عن الاستقلال المطلق، وتُعاد صياغتها أحيانًا أخرى ضمن شبكة التزامات عابرة للحدود. حقوق الإنسان تظهر كمرجعية أخلاقية كونية في خطاب، وتتحوّل إلى أداة ضغط انتقائي في خطاب موازٍ. هذا التنوّع في الاستعمال ينتج وفرة لغوية تقابلها هشاشة معيارية، حيث تحافظ المفاهيم على بريقها الاسمي، وتكتسب دلالات متعدّدة وفق موقع المتكلّم.
القانون الدولي يشكّل المسرح الأوضح لهذا الالتباس المعياري. هذا القانون نشأ كلغة مشتركة تهدف إلى تنظيم العنف وترشيد استعمال القوة، ويعيش اليوم حالة تأويل دائم. مفاهيم مثل التدخّل الإنساني، الدفاع الوقائي، وحماية المدنيين تتحرّك داخل فضاءات دلالية متنافسة. كل فاعل سياسي يعيد تشكيل المعنى بما يتناسب مع موقعه في البنية الدولية، فيتحوّل القانون إلى نصّ مفتوح، يخضع لقراءات متعدّدة، ويُنتج معناه عبر التفاوض.
تحليل مارتّي كوسكينيمي يضيء هذا المسار، حين يصف القانون الدولي بوصفه خطابًا يتأرجح بين المعيارية والواقعية، بين المثال الأخلاقي والحساب السياسي. هذا التأرجح يخلق التباسًا بنيويًا، يحمل إمكانية العدالة وإمكانية التوظيف معًا. السياسة تستعير لغة القانون، وتضخّ فيها شرعية رمزية، فتظهر الوقائع الميدانية مكسوّة بقاموس أخلاقي كثيف.
الإسقاطات السياسية الراهنة تؤكّد هذا الاتجاه. النزاعات المعاصرة تُدار عبر لغة قانونية متخمة بالمفاهيم القيمية، فيما يتحرّك القرار الفعلي داخل شبكات المصالح والتحالفات. النظام الدولي ينتج تفسيرات متعدّدة للمبدأ الواحد، ويترك مساحات واسعة للتأويل، فتغدو المبادئ جزءًا من اقتصاد الخطاب أكثر من كونها قواعد موجِّهة للفعل.
ضمن هذا السياق، تبرز الحاجة إلى استعادة الالتباس المنتج، ذلك الالتباس الذي يمنح التعدّد طاقة تنظيمية، ويؤسّس لمسؤولية تأويلية. السياسة، حين تستعيد وعيها بطبيعة مفاهيمها السائلة، تستطيع تحويل التنوّع إلى أفق تفاهم، والقانون إلى نصّ متجدّد يحتفظ بوظيفته المعيارية. عندها تستعيد المبادئ دورها كبوصلة دلالية، ويغدو الاختلاف مجالًا لإنتاج معنى مشترك داخل عالم تتشكّل مساراته عبر اللغة والقوة معًا.
