

ذلك الفقد حفر فيَّ وفي العائلة كثيراً وما يزال، ولا أستطيع حتى اليوم النظر في عيني أختي التي فقدت الإبن والمُعيل تاركاً بعهدتها أطفالاً لم يتجاوز أكبرهم الحادية عشرة من العمر. تكثفت بعد ذلك المصاب زياراتي إلى الضاحية الجنوبية لبيروت لمواساة اختي والبقاء إلى جانبها.
في طريقي إلى منزل شقيقتي، قبل أيام قليلة، كان منظر الدمار وطغيان اللباس الأسود وصور الشهداء بأحجامها المختلفة هو الإطار العام الذي يرسم مشهد الضاحية التي تعرضت للكثير من الاعتداءات الاسرائيلية وتحديدا منذ أيلول/سبتمبر الفائت وحتى الإعلان عن وقف اطلاق النار في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي والذي لم تلتزم به إسرائيل لغاية تاريخه.
في البداية، كنت ألمح من خلال “الفان رقم 4″، وهو وسيلة النقل الأكثر شيوعاً لزيارة حي السلم، أعمال فتح الطرق الرئيسية والفرعية التي لم تستغرق أكثر من أيام، ثم تجمعات الأهالي ولجان الكشف لتسجيل نتائج تلك الحرب دماراً وأضراراً، ولم تطل الفترة حتى بادر الاهالي لاطلاق ورش اصلاح ما أمكن من بيوتهم المتضررة والعودة إليها.
شيئاً فشيئاً عادت الزحمة إلى الضاحية الجنوبية، وإن لم يعد كل أهلها إليها. إلا أن تلك الزحمة تضاعفت في أيام عاشوراء. إذ تحوّل قسمٌ من شوارع الضاحية إلى مضايف تُوزّع الكثير عن روح الإمام الحسين وصحبه ممن قضوا معه في كربلاء.
إلا أن عاشوراء هذه السنة تميّزت بمعانٍ كثيرة بعضها يُقال وبعضها الآخر يُعاشُ بصمت. فأصدقاء الشهداء وأقاربهم أكثروا من المضايف عن أرواح أهل البيت وقادتهم وشهدائهم الذين سقطوا على طريق القدس وفي مقدمتهم أمين عام حزب الله الشهيد السيد حسن نصرالله.
والملفت للانتباه، هو سخاء ما تُقدّمه تلك المضايف، فلم تعد تقتصرعلى ضيافة عاشوراء التقليدية وهي كناية عن الهريسة وكعك العباس والراحة والبسكوت والماء، بل أضيف اليها العصائر والشاي والقهوة وأحياناً النسكافيه والفاكهة والمناقيش وسندويشات الشاورما والحلوى على انواعها.
في العادة، كانت الضيافة توزع على المارة والمتجمعين عند تلك المضايف، إلا أن اللافت للانتباه هذه السنة تقديم الضيافة لركاب السيارات والفانات والباصات. أما في أوقات الزحمة فيصعد شباب المضايف ومن بينهم من تضرر نتيجة عملية تفجير “البيجر”، إلى وسائل النقل لتوزيعها على الركاب فرداً فرداً.
هذا المشهد يحمل في طيّاته الكثير من الدلالات:
-تأكيد على التمسك باحياء الذكرى التي ترسّخت وتمخضت أكثر هذه السنة بالدماء الذكية التي سقطت من المنتمين إلى تلك البيئة.
-القول إن هذه البيئة تتعافى برغم كل ما قدّمت من شهداء وإصابات وجراح ودمار وبرغم الفقدان الأكبر باستشهاد السيد نصرالله الذي كانت اطلالته بصورة عامة وفي عاشوراء بشكل خاص تعطي تلك البيئة الكثير من الدعم والثبات والقوة والشعور بالزهو والعنفوان والكرامة.
– إحياء عاشوراء بهذا الشكل في الضاحية، كما في الجنوب أيضاً، يؤكد أن تلك البيئة بحشودها ومضايفها ما زالت تعتد بكبريائها برغم كل التهويل الذي تتعرض له وبرغم ما أعقب وقف النار من خسارات معنوية وبشرية ومادية.
-لعل الدلالة التي لا يُمكن تجاهلها في ليالي عاشوراء وكرم مضايفها هو أن هذه البيئة ليست فقيرة، وقد تأكد ذلك خلال فترة التهجير نتيجة الاعتداءات الاسرائيلية على الجنوب والضاحية، وكيف انتعشت بيروت والمناطق التي لجأ إليها من تهجروا.
في المقابل، تعيش تلك البيئة حالياً هاجس إعادة الإعمار، والشروط والمطالب التي توضع لتحقيق ذلك سواء من الجهات المانحة أو من الجهات الضاغطة على الوضع اللبناني، عبر الدعوة إلى حصرية السلاح وبالتالي مطالبة المقاومة بالتخلي عن سلاحها والركون الى الوسائل الدبلوماسية لتأمين الحماية بديلاً من السلاح، وهو ما أظهرت التجارب عدم فعاليته كما يؤكدون.
وليس خافياً أن تلك البيئة، تعاني حالياً، قلقاً عاشته أغلب الطوائف اللبنانية في مراحل مختلفة، مع فارق أساسي هو أن إسرائيل كانت وما زالت تستهدف شباب هذه البيئة ومناطقها وأرزاق أهلها جنوباً وبقاعاً وضاحيةً، وقد انعكس هذا القلق في موقف حزب الله من الورقة التي يحاول الأميركيون ومن ورائهم إسرائيل فرضها على هذه البيئة.
لبنان كله في مأزق لا يمكن حله بالضغط على بعضنا البعض، بل بالضغط على اسرائيل، من خلال الدول الضامنة لاتفاق 27 تشرين الثاني/نوفمبر، لالزامها تنفيذ القرار 1701 الذي لم تنفذ منه شيئاً لغاية تاريخه.