الدوبامين هنا يتحوّل من وسيط بيولوجي إلى بنية ثقافية. الإفراز المتكرر المرتبط بالمنصات الرقمية، والألعاب، والتفاعل السريع، يعيد برمجة علاقة الإنسان بالجهد. الجهد يصير عبئاً حسياً، والصبر مهارة نادرة، والتعلّم العميق مساراً يتطلب طاقة نفسية عالية. في هذا السياق، تتراجع المهارات الحرفية المتراكمة، ويصعد الميل إلى الحلول الجاهزة، والأدوات الذكية، والوسائط التي تختصر الزمن الذهني.
المخرج الاستراتيجي للبشرية يكمن في إعادة تهذيب العلاقة مع الدوبامين، عبر ثقافة إنتاج ترى في اللذة محفزاً، وفي الجهد استثماراً، وفي التعلم مساراً دائماً. الاقتصاد القادم يقوم على إنسان مرن، واعٍ بإيقاعه الداخلي، قادر على العمل مع الآلة، وعلى تحويل الراحة إلى إعادة شحن، والمهارة إلى رأس مال حي
اقتصادياً، ينعكس هذا التحوّل في سوق عمل متقلب، سريع التبدل، قائم على مشاريع قصيرة الأمد، وتعاقدات مرنة، ومسارات غير خطية. مفهوم المهنة المستقرة يذوب لصالح مفهوم “الحزمة المهارية”، حيث ينتقل الفرد بين أدوار متعددة، ويعيد تعريف ذاته المهنية بشكل متكرر. الإنتاجية ترتبط بالقدرة على التكيّف أكثر من الارتباط بالتخصص الصلب. القيمة الاقتصادية تنتقل من تراكم الخبرة الزمنية إلى سرعة التعلم وإعادة التموضع.
في هذا المشهد، تفقد الشهادة الجامعية صورتها الكلاسيكية كجواز عبور مضمون. الجامعة تتحوّل إلى فضاء إعداد ذهني ومنهجي، يدرّب على التفكير النقدي، وبناء الأسئلة، وفهم البنى، أكثر من كونها مصنعاً مباشراً للوظائف. كثير من الجامعيين يتجهون إلى مسارات عمل لا تتطابق حرفياً مع اختصاصاتهم، ويستثمرون مهاراتهم التحليلية واللغوية والتنظيمية في مجالات هجينة. التعليم العالي يصبح مرحلة تأسيسية، وسوق العمل يتكفّل بالبناء التطبيقي عبر التدريب المستمر.
الدول، أمام هذا التحوّل، تتجه إلى إعادة هندسة سياساتها الاقتصادية. الاستثمار في ورش مكثفة، وبرامج إعادة التأهيل، ومنصات التعلم السريع، يصير أداة استراتيجية لإدارة رأس المال البشري. الاقتصاد الحديث يحتاج عمالة قادرة على إعادة التشكّل، لا عمالة جامدة. لذلك، تظهر نماذج تشريعية تشجّع العمل المرن، وتنظّم الوقت، وتربط الأجر بالقيمة المضافة، وتبني شبكات أمان اجتماعي تحمي فترات الانتقال المهني.
في الخلفية، يفرض الذكاء الاصطناعي حضوره كعامل إعادة توزيع جذري. كثير من المهن تشهد إعادة تعريف من الداخل. مهام متكررة تنتقل إلى الخوارزميات، وأدوار تحليلية تتشاركها الأنظمة الذكية مع البشر. مجالات الطب، والهندسة، والقانون، تشهد دخول أدوات تشخيص، وتصميم، واتخاذ قرار تعتمد على نماذج حسابية متقدمة. الجراح، والمهندس، والطبيب، يتحوّلون إلى مشغّلين للذكاء، ومراقبين للعمليات، ومفسّرين للنتائج، مع بقاء البعد الإنساني مركزياً في الحكم الأخلاقي والتواصل.
هذا التحوّل يطرح سؤالاً وجودياً حول مستقبل العمل ذاته. العمل يتجه ليصير فعلاً معرفياً وتنظيمياً أكثر من كونه جهداً عضلياً أو تكرارياً. القيمة تنتقل من التنفيذ إلى الإشراف، ومن الحفظ إلى التركيب، ومن الامتثال إلى الابتكار. جيل Z، رغم نزوعه إلى الراحة، يمتلك حساسية عالية تجاه المعنى، والعدالة، والتوازن بين الحياة والعمل. هذه الحساسية تشكّل فرصة اقتصادية حين تُدار بذكاء، وتتحوّل إلى طاقة إنتاجية قائمة على الإبداع، والتصميم، والتفكير العابر للتخصصات.
المخرج الاستراتيجي للبشرية يكمن في إعادة تهذيب العلاقة مع الدوبامين، عبر ثقافة إنتاج ترى في اللذة محفزاً، وفي الجهد استثماراً، وفي التعلم مساراً دائماً. الاقتصاد القادم يقوم على إنسان مرن، واعٍ بإيقاعه الداخلي، قادر على العمل مع الآلة، وعلى تحويل الراحة إلى إعادة شحن، والمهارة إلى رأس مال حي. في هذا الأفق، يعاد تعريف النجاح، ويعاد تشكيل معنى العمل، وتولد أخلاقيات جديدة للإنتاج في زمن التحوّلات الكبرى.
