أطلق حزب الله على خطاب أمينه العام السيد حسن نصرالله، اليوم (الجمعة) توصيف “حد السيف”. مضمونه الأساس “تطميني”، أولا، للشعب اللبناني، وخصوصا الحراك الشعبي، وثانيا، لجمهوره وبيئته الحاضنة، وثالثا، لحلفائه وخصوصا رئيس الجمهورية ميشال عون.
لماذا كان تطمينياً؟
من السطور الأولى للخطاب السياسي الذي هنّأ اللبنانيين بتجنب الفوضى والصدام الكبير والإحتراب الداخلي، إلى السطور الأخيرة بالدعوة، وهذه مبادرة بحد ذاتها، إلى الحوار والتواصل بين جميع المكونات السياسية في لبنان وكذلك الممثلين الصادقين للحراك… وصولا إلى رسم معادلة سياسية جديدة قال فيها للمرة الأولى بالفم الملآن “لسنا مع القطيعة”، وهي معادلة يجب أن تتيح تعايشا سياسيا بين جميع المكونات في ما تبقى من سنوات العهد العوني، ولو إقتضى الأمر وضع معركة رئاسة الجمهورية جانباً، بدل إستخدامها من هذا الطرف أم ذاك، بدليل ما أصاب المؤسسة العسكرية من تهشيم وجروح في الأسبوعين الأخيرين.
يأتي ذلك في خضم ورشة مشاورات مفتوحة بدأها حزب الله مع عدد من الحلفاء وأولهم الرئيس ميشال عون وثانيهم الرئيس نبيه بري وثالثهم معظم مكونات فريق 8 آذار، بالإضافة إلى لقاءات متفرقة أجراها مع بعض مكونات الحراك الشعبي، ومعظمهم إما من المستقلين أو من قوى اليسار اللبناني كالحزب الشيوعي اللبناني وأسامة سعد، بالإضافة إلى لقاءات مع وجوه وشخصيات مسيحية مستقلة، ولكنها حريصة على أن يتفهم حزب الله موقفها من الحراك وخاصة في الساحة المسيحية.
وقد إستمع حزب الله خلال هذه الإجتماعات إلى هواجس الآخرين، كما طرح ملاحظاته بشفافية، وكان لا بد من أن يترجم التفهم المتبادل في طبيعة نبرة الخطاب، وهذا ما بيّنته كلمات نصرالله بتفاعلها الإيجابي مع مجموعة كبيرة من الملاحظات التي تناولت بالدرجة الأولى مضمون خطابه الثاني في الخامس والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر الماضي.
ما هي طبيعة الهواجس أو الملاحظات التي طرحت وألمح إليها نصرالله في خطابه اليوم؟
أولا، كان حزب الله ومنذ اليوم الأول للحراك (برغم تأكيد أمينه العام في اليوم الثالث أن الحراك عفوي وصادق ولا علاقة له بالسفارات)، على قناعة تامة بأن هناك من يريد أخذ التحرك الشعبي إلى سياقات مختلفة، وجاءت المعلومات التي قدمتها بعض مجموعات الحراك وأجهزة أمنية رسمية وحزبية لتؤكدها: “هناك من كان يدفع في ساحات معينة بإتجاه رسم خطوط تماس، بعنوان حماية الحراك الشعبي وعدم التعرض لمجموعاته، وعقدت إجتماعات لهذه الغاية وتم رسم خطط وتوزيع أدوار، وليس خافيا أن أسلحة فردية وزعت في مناطق لبنانية محددة وبوظيفة محددة”.
ثانيا، توقف نصرالله في خطابه عند ظاهرة كيل الشتائم، وليس خافياً على بعض أهل الحراك، أن أكبر ضرر أصاب هذه الإنتفاضة الشعبية محاولة البعض توظيفها بإتجاه سياسي معين، فصار هؤلاء، عفوا أم قصدا، أول من أساء للحراك وحال دون توسيع دائرة المشاركة فيه، بإصراره على التسميات المحددة سياسياً، بدل البقاء ضمن مربع الغموض الإيجابي “كلن يعني كلن”. لذلك، كانت وظيفة الخطاب الثاني لنصرالله “منع إنجراف جمهور المقاومة إلى الساحات بعدما وجد نفسه متماهيا مع شعاراتها بإستثناء التصويب على قيادة الحزب نفسه”.
بالعكس، جاء الخطاب الثالث مطمئنا ومحاولا عكس مناخ نفسي وسياسي إيجابي، سواء على صعيد الشارع أو سياسيا
ثالثا، يدرك حزب الله أن ليس كل وسائل الإعلام وتحديدا التلفزيونية كانت تتصرف وفق أجندة سياسية. الأكيد أن الحماسة لم تستثن مؤسسة إعلامية في لبنان (مرئية وإذاعية ومطبوعة وإلكترونية) ولا العاملين فيها وهم جزء لا يتجزأ من هذا الشعب اللبناني الغاضب على طبقته السياسية، لذلك، كان واضحا أن الحزب يقصد مؤسسات محددة “كانت تسدد بالسياسة بدل المكسورات التي سددت لها عشية الحراك”، حسب إعتقاد الحزب، وذلك إستنادا إلى إفادات بعض من يعملون في هذه المؤسسات نفسها.
رابعاً، صحيح أن السيد نصرالله ركز في خطابه على الإيجابيات وحاول قدر الإمكان تفادي السلبيات، ولكن ظاهرة نزول بعض المجموعات الغوغائية إلى ساحتي رياض الصلح والشهداء والتصرف بطريقة غير حضارية مع المعتصمين، هي ظاهرة مدانة بكل المعايير، كما الشتائم الشخصية، ولذلك، كان على حزب الله أن يدينها لأنها جزء من الأضرار المعنوية التي أصابت الحزب وأمينه العام، بدليل أن بعض من هاجموا الساحات والمتظاهرين كانوا يهتفون بإسم نصرالله وحزب الله.
خامسا، في السياسة، هناك إنطباع سائد بأن حزب الله تلقى صفعة قوية جدا، بإعلان الحريري إستقالته، برغم نصائح وتحذيرات حزب الله له، وبالتالي، خرج الحزب خاسرا بالنقاط، إذ أنه لم يستطع حماية الحكومة من جهة وأخرج نفسه وجمهوره من الحراك من جهة ثانية. هذه النقطة تحديدا، أثارها الأميركيون في اليومين الماضيين مع شخصيات لبنانية عدة، وتحديدا من زاوية الخشية من من ردة فعل حزب الله السلبية على الإستقالة، لتأكيد المحاذير التي طرحها نصرالله في خطابه الثاني، أي محاولة حفظ ماء وجهه، عبر تخويف الناس. بالعكس، جاء الخطاب الثالث مطمئنا ومحاولا عكس مناخ نفسي وسياسي إيجابي، سواء على صعيد الشارع أو سياسيا.
سادسا، حاذر الخطاب الدخول في متاهة التسمية (هوية الرئيس المكلف) وتحديد هوية الحكومة (سياسية أم تكنوقراط أم مزيجا من الإثنتين) ولا أسماء الوزراء أو ما يمكن أن يتضمنه بيانها الوزاري وأولوياتها. وضع حزب الله نفسه في زاوية الغموض البناء. مرحلة يفترض أن تستمر من الآن وحتى موعد الإستشارات النيابية الملزمة، الأسبوع المقبل، وعندها سيخرج رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد من القصر الجمهوري لكي يعلن إسم مرشح الحزب لرئاسة الحكومة، مع تحديد دقيق لهوية الحكومة وأولوياتها.
سابعاً، لن يفصح أي طرف من الأطراف عن أوراقه منذ الآن. صحيح أن كتلة المستقبل وكتلة الوسط برئاسة نجيب ميقاتي وكتلة القوات وكتلة الحزب التقدمي الإشتراكي ستسمي سعد الحريري، ولكن هذه المساحة غير كافية حتى الآن، لذلك، يراهن الحريري على مشاوراته المفتوحة مع الجميع وخصوصا مع الرئيس نبيه بري، عبر المعاون السياسي للأخير الوزير علي حسن خليل من أجل الوصول إلى قواسم مشتركة تتيح حسم التسمية وعناصر أخرى.
ثامنا، من الواضح أن القرعة السياسية سترسو على سعد الحريري في نهاية المطاف، لأسباب متصلة أولا بمعادلة الإستقرار التي يرفض حزب الله المس بها، بصورة قاطعة، وثانيا، بمعادلة القوي ضمن طائفته، وهي تقود تلقائيا إلى أن الحريري ما زال الأقوى في بيئته وبالتالي، لا عودة إلى مرحلة تسمية الوكيل في غياب الأصيل، وهي مرحلة إن دلت علي شيء إنما على قدرة الحريري على الإستثمار في الشارع (المعارضة) بحجة أنها ليست حكومته بل “حكومة حزب الله” كما حصل مع حكومة تمام سلام التي كان أكثر من “يمون” على قرارتها الحريري نفسه ومعاونه السياسي السابق نادر الحريري.
تاسعا، ليس خافيا على أحد موقف حزب الله. بعد الطائف، إنتقل مركز الثقل السياسي في السلطة من رئاسة الجمهورية إلى السلطة التنفيذية مجتمعة (مجلس الوزراء)، ولذلك، لا مفر من تشكيل حكومة سياسية أولا، مطعمة بوجوه من التكنوقراط ثانيا، لا بل يمكن تسمية وزراء سياسيين وهم من أهل الإختصاص وثمة أسماء كثيرة تصب في هذه الخانة.
سأله الراعي ما هو المقصود من ذلك، فأجابه عودة “الا يكون فيها حزب الله”
عاشرا، إذا كان رئيس الجمهورية قد “أخذ وقته” في موضوع الإستشارات النيابية الملزمة، فإن حزب الله دعا إلى التسريع، وذلك من موقع الحرص على عدم إستخدام الشارع مجددا للمطالبة بتسريع ولادة الحكومة، لا بل أكثر من ذلك، ثمة وقائع بيّنت أن الحريري يستطيع أكثر من غيره إستخدام بعض ساحات الحراك (البقاع وبيروت وطرابلس وعكار وإقليم الخروب) وأيضا الواقع الإقتصادي والمالي المأزوم للضغط على الآخرين لتسميته أولا، وللمجيء بحكومة بالصورة التي يشتهيها ثانيا، أي أن تكون حكومة تكنوقراط بلا وجوه حزبية، وهذه النقطة المركزية التي لا يمكن أن يتساهل فيها حزب الله، لأنه يعلم سلفا أن الإستقالة الحريرية، وقبلها إستقالة وزراء القوات اللبنانية، لا تصب إلا في خانة واحدة: المطلوب إبعاد حزب الله عن أية تركيبة حكومية جديدة.
عندما زار راعي أبرشية بيروت للروم الأرثوذكس المطران إلياس عودة بكركي قبل أسبوعين وإجتمع بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، طالبه بتضمين بيان المطارنة الموارنة بجملة تدعو إلى تأليف حكومة تكنوقراط. سأله الراعي ما هو المقصود من ذلك، فأجابه عودة “الا يكون فيها حزب الله”.
هذه هي العبارة السحرية التي يمكن أن تجعل تأليف الحكومة يحتاج إلى مخاض طويل جدا.
لقد دخل لبنان عمليا في معركة عض أصابع. يصح القول أن الجميع يلعبها “عالمكشوف”. ميشال عون مقيم في بعبدا لثلاث سنوات. المجلس النيابي باق، على الأرجح، حتى ينهي ولايته. سعد الحريري سيعود إلى السراي الكبير، على “أكتاف” بعض مكونات الحراك، لكن ليس مع حكومة بالضرورة، أو ربما مع حكومة مؤجلة حتى إشعار آخر.
إستخدم نصرالله توصيفا معبرا لوضع حزب الله في الأسبوعين الأخيرين. قال: كنا ماشيين على حد السيف. أولا، المطالب محقة. ثانيا، المشاعر صادقة عند جمهور الحزب وعند الآخرين. ثالثا، الفساد كبير ولا يمكن السكوت عنه. رابعا، الوضع خطير وقد يبلغ حد الإنهيار. خامسا، هناك مشكلة صعوبة البدائل السياسية. سادسا، لا بد من التصرف بمسؤولية. هنا جوهر النقاش. هل تشكل هذه النقاط مدخلا للحوار بين أهل الحراك وحزب الله، طبعا إذا توافرت الرغبة والإرادة لدى الطرفين… وشرطها الأول إستعادة الثقة المفقودة حالياً.