تتابع أوساط أوروبية بقلق بالغ ما يحدث في لبنان. الأزمة هذه المرة مختلفة تمامًا و”أكثر خطورة مما يعتقد اللبنانيون”.
مصدر القلق الأوروبي مردّه تلمس جدية الولايات المتحدة الأميركية في تغيير وجه لبنان والعراق في مقابل إنسحابها الشكلي من سوريا وترتيبها للمشهد في المنطقة من بوابة لم يعهدها اللبنانيون تحديدًا. هل هذا يعني هذا أن واشنطن قد تسمح بإنهيار بلاد الأرز؟
لا تجزم الأوساط الأوروبية المطلعة في الإجابة على هذا السؤال، لكنها تشير إلى أن الإدارة الأميركية مستعدة للذهاب بعيدًا في سبيل بسط نفوذها في الساحتين العراقية واللبنانية. لا يعني هذا العامل نفي مسؤولية السياسيين اللبنانيين أنفسهم عما آلت إليه حال البلد. ليس الفساد وحده هو المسبب. سوء التدبير وفوضى الإدارة يرقيان أيضًا إلى مستوى الفساد في الأسباب. وهذا أحد المبررات التي يمكن لاصحاب شعار “كلن يعني كلن” التذرع به، بما أنّ من يدّعي عدم إنخراطه في الفساد المباشر لم يقدّم رؤية إقتصادية كاملة، ولا هو منع تدهور الأوضاع الاقتصادية أو قدّم نموذجًا مختلفًا في الإدارة.
في الأعوام الأخيرة، دارت في الصالونات السياسية اللبنانية نقاشات حول المخارج الممكنة للأزمة الاقتصادية التي بدأت بالظهور بقوة مع بدء الحرب في سوريا. طوال ثلاثة عقود على الأقل، كان سياق السياسات الاقتصادية والمالية في لبنان يسير بهذا البلد نحو الأزمة، لكن المحطات الإقليمية الكبرى سرّعت في الوصول إلى حافة الإنهيار.
تمحورت النقاشات في بداياتها على أمنيات الغاز في الحقول البحرية قبالة الساحل اللبناني، لكن النظام اللبناني العدو لذاته لم يُفلح في وضع آليات تستثمر هذا القطاع الحيوي بإنتظار “تسوية الطوائف”؛ القناع المُعلن للمحاصصة السياسية بين رجال السلطة. لعلّه من حسن حظ الأجيال القادمة من اللبنانيين أن الدولة الحالية قد فشلت في استخراج النفط في الفترة الماضية! إذ أن ايراداته كانت ستخضع لما هو مألوف في الإدارة اللبنانية من هدر وفساد، فضلًا عن قصور في الرؤية، حيث إن التوجّه الحاكم لدى الأحزاب اللبنانية هو في تسديد ديون لبنان الضخمة لا الإستثمار في البنى التحتية لبناء قطاعات إقتصادية منتجة.
سرعان ما اضطر الجميع إلى وضع ملف الغاز على الرفّ بسبب تعقد الحسابات التي دخلت عليها أطراف إقليمية ودولية، وباتت أكبر من قدرة اللبنانيين على التأثير بسبب غياب القرار السيادي. ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية المتأثرة أيضًا بحروب المنطقة والاستقطاب الحاد إقليميًا، عادت الحكومات المتعاقبة إلى خيار الإستدانة والبحث عن ودائع هنا وهناك في محاولة للتعمية عن إقتصاد مهترئ غير قادر على الإنتاج، ونظام سياسي غير مدرك للتحولات العالمية الكبرى على كافة الصعد.
وفي فترة المراوحة، باتت أزمة النظام اللبناني تتبلور أكثر فأكثر، وهو ما عكسته نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي شارك فيها أقل من نصف اللبنانيين، واستدعت إستنفارًا غير مسبوق لتعبئة الناخبين وأنصار الأحزاب، بعد أن تعالت أصوات الشكاوى والتأفف والإعتراض الشعبية على عدم وجود بنية تحتية أو خدمات مقبولة بعد ثلاثين عامًا من إنتهاء الحرب الأهلية.
واشنطن قادرة بالفعل على دفع الوضع في لبنان إلى ما بعد الإنهيار، وهي كقوة عظمى تعيد التموضع في العالم ستُخلّف وراءها فوضى متوقعة، مستفيدةً من الثغرات الواسعة التي أوجدها النظام اللبناني نفسه
استحضر البعض فكرة اللجوء إلى المؤسسة العسكرية الرسمية؛ أي الجيش اللبناني، كمظلة قادرة على ضبط الوضع في البلاد، بإنتظار إتفاق على تغيير تدريجي في بنية النظام، لكن هذا الخيار بقي رهن النظريات التي لا تتجرأ على جدّية الطرح، خاصة وأنّ لكل مكوّن داخلي حساباته الضيّقة ومصالحه بغض النظر عن المواقف الودّية المعلنة من المؤسسة العسكرية.
يمكن القول إن بَلادّة الطبقة السياسية، كلها من دون إستثناء، في استشراف مخاطر إستمرار النظام الراهن، تجلّت أبهى ما يكون في تفاجؤ الأحزاب بالهبّة الشعبية التي أشعلت إنتفاضة السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر.
من الضروري رسم مسار الأحداث التي أودت بالبلد إلى وضعه الراهن قبل الإجابة على موقف “واشنطن” من إنهيار لبنان. فالسنن التاريخية والطبيعية تقول ببساطة إن نتيجة الفساد والظلم هي الثورة وأن الجائع يكاد لا يرى الحقيقة إلا رغيفًا من الخبز. وبالتالي فإن كل كلام عن مؤامرات من هنا وهناك يزيد الشعب اللبناني المتضرر من أداء هذه الطبقة السياسية قناعةً في فشل الرهان على نفس الأسماء للإصلاح.
بمعنى اخر، فإن واشنطن قادرة بالفعل على دفع الوضع في لبنان إلى ما بعد الإنهيار، وهي كقوة عظمى تعيد التموضع في العالم ستُخلّف وراءها فوضى متوقعة، مستفيدةً من الثغرات الواسعة التي أوجدها النظام اللبناني نفسه؛ وخصوم واشنطن جزء منه، لكن السؤال الأهم ليس في ما تريده الولايات المتحدة، بل في ما يقدر عليه اللبنانيون فعلًا وما يريدونه، وبطبيعة الحال، لن يكون الجواب واحدًا على هكذا سؤال.