أعلن الاتحاد الأوروبي (الشهر الماضي) عن إتفاقية تُخفض بموجبها دول الاتحاد استهلاكها للغاز بنسبة 15% خلال الأشهر الثمانية المقبلة لتلافي حدوث أزمة في الشتاء. تخفيض إستهلاك الغاز طوعي، وتأثير نقص الغاز ليس متساوياً عند الجميع.
بعد ستة أشهر من الحرب الدائرة في أوكرانيا، هناك مؤشرات على أن أوروبا تكافح من أجل الاستمرار في مسار حرب مُكلفة بشكل متزايد. ومع ارتفاع التضخم، وتفاقم أزمة الطاقة، والتهديد المتزايد بالركود، أصبح القادة الأوروبيون أكثر صراحة بشأن التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للحرب وآثارها السياسية والجيوسياسية. في الوقت نفسه، هناك توترات مُحتدمة حول كيفية التعامل مع هذه الحرب. ألمانيا، على سبيل المثال، تباطأت بشأن شحنات الأسلحة الموعودة إلى أوكرانيا. في إيطاليا، سقطت الحكومة الائتلافية لرئيس الوزراء ماريو دراجي، وهناك معارضة سياسية متزايدة للدعم العسكري لكييف بين الأحزاب الشعبوية. وبرغم الموافقة “السريعة” على خمس حزم من العقوبات، أمضى الأوروبيون أسابيع في مشاحنات بشأن حزمة سادسة تستهدف النفط الروسي، والتي أوقفها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الحاكم المستبد داخل الاتحاد الأوروبي.
السلام الزائف أسوأ من حرب طويل
وسط هذه التحديات، يلوح في الأفق سؤال أكبر حول المدة التي يمكن أن تستمر فيها الوحدة الأوروبية بشأن الحرب، وما الذي قد يتسبب في انهيارها. في الواقع، قد لا يكون أكبر تهديد للتحالف الأوروبي هو عدم إحراز تقدم في وقف الحرب، بل قدرة موسكو على إغراء بعض دول الاتحاد من أجل الضغط على كييف لتقديم تنازلات، خاصة إذا استمرت أزمة الطاقة بالتفاقم. ومن عجيب المفارقات، أنه ومن خلال الاستسلام لوهم السلام، قد ينتهي الأمر بأوروبا والغرب إلى إطالة أمد الحرب على حساب الجميع.
خلال المرحلة المُبكرة من الحرب، أظهر الاتحاد الأوروبي تصميماً ملحوظاً: بروكسل توافق على عقوبات صارمة في وقت قياسي، الحكومات الأوروبية زادت إنفاقاتها في مجال الدفاع، ومنحت حماية وحرية التنقل والعمل لملايين المواطنين الأوكرانيين في جميع أنحاء دول الاتحاد، وسهَّلت عمليات نقل الأسلحة إلى طرف ثالث (لأول مرة).
حرب أوكرانيا وأزمة الطاقة منحا الشعبويين فرصة مثالية للصعود مما يُعرض للخطر ليس فقط الوحدة الأوروبية ولكن وجود الاتحاد الأوروبي ككل
لكن الزخم في بروكسل بدأ يتضاءل. فالحظر النفطي على روسيا، على سبيل المثال، سيحدث بفارق زمني قد يسمح لها بالتكيف. وعلى الرغم من اتفاقية الغاز الأخيرة بشأن توفير الطاقة، فإن حظر الغاز الحقيقي لا يلوح في الأفق. وفي الواقع، موسكو هي التي أوقفت تشغيل الغاز في أوروبا، ثم قاطعت ست دول (بلغاريا والدنمارك وفنلندا ولاتفيا وبولندا وهولندا) الإمداد الروسي. علاوة على ذلك، خفَّضت شركة “غازبروم” الروسية من تدفق الغاز بشكل كبير إلى بقية أوروبا. وتم إغلاق “نوردستريم-1” للصيانة، ما تسبب في خفض صادرات الغاز إلى 20% من الكميات المتفق عليها، مع مزيد من الاضطرابات في الأفق.
الاتحاد الأوروبي يسعى اليوم إلى معالجة مشكلة تخزين الغاز، ويكافح من أجل تقنين الإستخدام. ولتنويع إمداداته، يسعى إلى شراكات جديدة في مجال الطاقة مع الولايات المتحدة والشرق الأوسط وإفريقيا والقوقاز. ويقدر صندوق النقد الدولي أنه في حالة القطع الكامل للغاز الروسي عن أوروبا، فإن اقتصادات بعض البلدان؛ بما في ذلك التشيك والمجر وسلوفاكيا وإيطاليا؛ يمكن أن تنكمش بأكثر من 5%. بإختصار: سيكون شتاءً قارساً ومُكلفاً.
عودة الشعبوية
الضغوط الاقتصادية المتزايدة بدأت بإحداث عواقب مُقلقة. في بلدان مثل إيطاليا وفرنسا، تستخدم الأحزاب القومية الشعبوية واليمينية تكاليف الحرب لحشد الدعم الشعبي. وهم يزعمون أنه من خلال معاقبة روسيا وتبني الأجندة الخضراء، تعمل الحكومات الأوروبية ومؤسسات الاتحاد على تأجيج التضخم وتفريغ الصناعة وتدمير الوظائف(…). وبالفعل في الانتخابات الرئاسية الفرنسية (نيسان/أبريل)، كان أداء الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة قوياً؛ وهي النتيجة التي تكررت في الانتخابات البرلمانية (حزيران/يونيو). الأمر الأكثر دراماتيكية هو سقوط ماريو دراجي في إيطاليا في تموز/يوليو، بعد أن سحبت الأحزاب ذات العلاقات الوثيقة مع الكرملين دعمها للحكومة الائتلافية التي كانت جزءاً منها.
قد تكون هذه الأحداث مجرد مقدمة لما سيأتي. أخذ العديد من الأحزاب الشعبوية إشاراتهم من كتاب قواعد اللعبة في الكرملين، وقد تبنوا خطاباً يناقض نواياهم الفعلية. وبدلاً من الاعتراف بأنهم يريدون إلقاء أوكرانيا تحت الحافلة، يقول قادة الأحزاب الشعبوية (مثل الإيطالي ماتيو سالفيني) إنهم يؤيدون السلام والتسوية والدبلوماسية. إن حرب أوكرانيا، إلى جانب أزمة الطاقة، منحت الشعبويين فرصة مثالية للصعود مرة أخرى. وبمرور الوقت، ستخلق هذه الديناميكية طفرة جديدة في الشعبوية القومية التي يمكن أن تعرض للخطر ليس فقط الوحدة الأوروبية ولكن وجود الاتحاد الأوروبي ككل.
انقسامات قارية
الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لأوروبا هو عودة الانقسامات الجيوسياسية القديمة. الأول هو الانقسام المتزايد بين شرق القارة وغربها. فالدول الواقعة على حدود أوكرانيا؛ مثل دول البلطيق وبولندا؛ تدعو إلى العدالة من خلال العقوبات والدعم العسكري القوي لأوكرانيا. بينما دول أوروبا الغربية؛ مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا؛ تميل نحو التسوية مع روسيا (تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن أهمية عدم إذلال روسيا). مع تعمق أزمتي الطاقة والاقتصاد، من المرجح أن تدفع البلدان البعيدة عن خط المواجهة إلى التراجع عن الحرب. ومن المحتمل أن يبقى قادة أوروبا الشرقية على قناعتهم بأن السلام لا يمكن تحقيقه إلا عندما تنجح أوكرانيا بطرد القوات الروسية من أراضيها وتُحمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المسؤولية عن عدوانه.
صندوق النقد الدولي: القطع الكامل للغاز الروسي يعني إنكماش اقتصادات أوروبا بأكثر من 5%.. ويعني أن شتاءً قارساً ومُكلفاً على الأبواب
يمتد الانقسام الثاني بين الشمال والجنوب، وهو الانقسام الذي كاد يمزق منطقة اليورو أثناء أزمة الديون السيادية قبل عقد من الزمان. ومع احتمال حدوث ركود تضخمي في الأمد القريب، فإن الفرق في تكاليف الاقتراض بين الدول الأعضاء في شمال وجنوب الاتحاد؛ لا سيما بين ألمانيا وإيطاليا؛ آخذ في الارتفاع. فرنسا وإسبانيا وإيطاليا؛ التي لديها مجال أقل للمناورة المالية لمواجهة الركود؛ تدعو إلى مبادرة جديدة من بروكسل لزيادة صندوق التعافي في مرحلة ما بعد جائحة كورونا والمساعدة في التعامل مع التكاليف الاقتصادية للحرب، بما في ذلك تكلفة نقل الطاقة. لكن ألمانيا؛ التي تعتمد أكثر من غيرها على الغاز الروسي؛ تضاعفت أسعار الطاقة لديها ثلاث مرات، من غير المرجح أن تدعم مثل هذه الخطوة. ومن المرجح أن تدعو الحكومة الألمانية أعضاء الاتحاد للمساعدة في تخفيف أزمة الطاقة في ألمانيا، بدلاً من توفير مواردها المالية الخاصة لمساعدة المشاكل الاقتصادية للأعضاء الآخرين. لا عجب في أن برلين أيدت بقوة اتفاقية الاتحاد لتوفير الغاز في تموز/يوليو.
بوتين يراهن على الإنقسامات “والديموقراطيات الفاسدة” ويرى أنها مجرد مسألة وقت حتى يتم تفكيك أوروبا
هذه الانقسامات هي بالضبط ما كان يأمل فيه بوتين. واقتناعاً منه بأن الديموقراطيات الليبرالية في أوروبا ضعيفة وفاسدة أخلاقياً، اعتمد الرئيس الروسي على فرضية مفادها أن وحدة الغرب بشأن أوكرانيا ستنهار، وقد تنهار خلال الأشهر المقبلة. ومن خلال “لعبة القط والفأر” على الغاز، وخلق أزمة غذاء عالمية عن طريق منع تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، واتباع إستراتيجية الأرض المحروقة في أوكرانيا، قد يراهن بوتين على أنها مجرد مسألة وقت إلى أن يتم تفكيك الغرب، بدءاً من أوروبا (…).
تُدرك موسكو جيداً أن العقوبات تُلحق أضراراً جسيمة بها، وأن الضرر سيزداد بمرور الوقت. وقد اعترف بوتين علناً بهذا الأمر. أزمة الطاقة هي الأكثر حدَّة منذ حظر النفط عام 1973، لكن روسيا استمتعت بأسعار النفط والغاز المرتفعة. ومع “فطام” أوروبا عن الوقود الأحفوري الروسي فإنها ستخرج في النهاية أقوى من هذه الأزمة؛ سواء من خلال تنويع مصادر طاقتها وتسريع انتقالها إلى الطاقة النظيفة. على النقيض من ذلك، وبرغم العلاقات الجيدة بين موسكو وبكين، فإن الأمر سيستغرق سنوات حتى تحل الصين محل أوروبا كسوق للهيدروكربونات الروسية. ولأسباب متنوعة، من غير المرجح أن تكون الصين مربحة لموسكو مثلما كانت أوروبا. أضف إلى ذلك أن المستقبل الاقتصادي لروسيا على المدى الطويل قاتم.
على بوتين أن يدرك هذه الحقيقة، لكن حساباته تشير على الأرجح إلى أن أوروبا ستنكسر أولاً، بالنظر إلى وحدتها الهشَّة. وأن الضغوط الداخلية في القارة ستسمح له بتحقيق أهدافه الحربية في أوكرانيا، وربما، عاجلاً أم آجلاً، العودة إلى العمل كالمعتاد مع أوروبا، أو على الأقل مع بعض دولها. وكما يرى الكرملين، فإن الانقسامات ونقاط الضعف في أوروبا قد تحول دون تحقيق سيناريو طويل الأمد تتحمل فيه روسيا التكاليف الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية لغزوها.
خطر الإنقسام
مع كل شهر إضافي من الحرب، يتزايد خطر الانقسام الأوروبي، وقد ظهرت بالفعل أولى الإشارات المُقلقة. لكن الكثير سيعتمد على مسار الصراع نفسه. إذا واصلت روسيا حربها بالطريقة التي اتسمت بها الأشهر الستة الماضية، يمكن للقادة الأوروبيين الاعتماد على بوتين لإبقائهم موحدين (…) فمن غير المرجح أن يبتعد الأوروبيون عن أوكرانيا النازفة (…).
لكن الأمر سيكون أكثر صعوبة بالنسبة لأوروبا إذا غيَّر بوتين؛ بدافع الضرورة وليس الاختيار؛ تكتيكاته في أوكرانيا. بحلول الخريف، قد تفتقر روسيا ببساطة إلى القدرة العسكرية لمواصلة الهجوم العسكري. فبعض وكالات الاستخبارات الغربية تعتقد أن روسيا تتكبد ثمناً عسكرياً باهظاً للغاية (…) وتقدر أن أكثر من 15000 جندي روسي لقوا مصرعهم منذ 24 شباط/فبراير. ومن المرجح أن تزداد هذه الخسائر أكثر مع تلقي القوات الأوكرانية أسلحة غربية عالية الجودة. لكن، هذا لا يعني أن أهداف الكرملين قد تغيرت (…) فبوتين لن يرضى ببعض المكاسب الإقليمية في الدونباس. ومع تزايد الضغط على الجيش الروسي، من المرجح أن يضطر الكرملين إلى تكييف إستراتيجيته (…). في الأشهر المقبلة وفقاً للإستنزاف النسبي وإعادة تشكيل القوة العسكرية الروسية.
وبالتالي، فإن الخطر الأكبر الذي يواجهه قادة أوروبا هو خطر خفي: إذا هدأت العمليات الروسية في أوكرانيا وبدأت موسكو في التلميح إلى نوع من التسوية أو الهدنة، فقد يقع الأوروبيون في فخ. وبرغم أن مثل هكذا احتمال سيقدم نفسه كفرصة يجب اغتنامها، من المحتمل أن يكون تهديداً خبيثاً. فبالنسبة لموسكو، سيكون مجرد وسيلة لكسب الوقت للتحضير للجولة التالية من القتال بعد بضعة أشهر. وإذا أيدت بعض الدول مثل هذه الخطوة، فقد تزيد من تقسيم أوروبا، حتى لو ساعدت الكرملين في إطالة أمد الحرب.
الحرب والطريقة التي تختبر بها دفاعات أوروبا واقتصاداتها وأنظمة الطاقة ونظامها الديموقراطي.. الاختبار الأصعب على الإطلاق في تاريخ القارة
عندما ينحسر العنف، على الغرب إظهار صموده الحقيقي وأن يضاعف دعمه لكييف، ليس فقط لضمان خسارة روسيا، ولكن أيضاً لفوز أوكرانيا (…). ومع ذلك، فإن الإغراء بالسعي إلى التسوية مع روسيا قوي، لا سيما بالنظر إلى أنه من المحتمل أن يحدث في وقت تتزايد فيه الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجيوسياسية في القارة (…) وقد يضطر القادة الأوروبيون ليس فقط إلى المجادلة والتردد، بل وإلى الانقسام كلياً.
مزيد من الألم.. مزيد من المكاسب
في لحظات التهدئة، سيواجه القادة الأوروبيون تحديات جديدة للإستمرار في الضغط على روسيا، ولن يعودوا قادرين على الاعتماد على وحدتهم (…). إن مسار أوروبا عبر أزماتها المتسلسلة على مدى العقود القليلة الماضية يوضح ذلك تماماً؛ بما في ذلك أزمة الديون السيادية، والهجرة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وجائحة كورونا. قد تكون الحرب في أوكرانيا والطريقة التي ستختبر بها دفاعات أوروبا واقتصاداتها وأنظمة الطاقة فيها، ونظامها الديموقراطي، الاختبار الأصعب على الإطلاق. ولتجاوز هذا الاختبار، سيحتاج الأوروبيون إلى تثبيت تصميمهم وقوتهم.
– النص بالإنكليزية على موقع “الفورين أفيرز“. ناتالي توكي، مديرة معهد “أفاري” الدولي- روما.