يوم أمس، لامس الدولار سقف التسعمئة ليرة سورية. هو ليس بتفصيلٍ عابر أو رقمٍ يمكن التغاضي عن تبعاته، نظراً لما يمثله من فقاعة تضخم عملاقة لا أحد يدري متى وكيف ستنفجر وبوجه من سيكون انفجارها.
لا يبدو أن هناك حواجز ستمنع الدولار من كسر سقوف جديدة، فلا جلسات تدخل من المصرف المركزي، ومبادرة رجال الأعمال معلّقة حتى إشعار آخر، هذا إذا لم يكن الوقت قد تجاوزها، والحكومة شبه مشلولة أو عاجزة تكتفي بتدوير المسكنات، وزيادة جرعاتها احياناً، من دون أن يكون لديها الدواء الشافي، فيما تزدحم صفحات التواصل الاجتماعي بما يقال أنها وصفات من خبراء اقتصاديين لمنع الانهيار، ولا أحد يدري مدى صحتها، وما هي قدرتها على تغيير الواقع، ولماذا غابت عن الحكومة إذا كانت فعلاً فعّالة وذات تأثير.
وكأنّ السوريين كان ينقصهم ما يزيد من ذهولهم وغياب يقينهم، حتى انتشر أمس كتاب موجه من حاكم المصرف المركزي إلى وزير الاقتصاد يتضمن أن “البنك المركزي غير قادر ضمن الإمكانيات الحالية على التدخل لدعم الليرة السورية” و “أن “تدهور الصرف سيستمر حالياً بسبب عدم إمكانية الحصول على القطع الأجنبي الكافي لتغطية المطلوب”، وأن “توقف دخول القطع الأجنبي من مناطق سيطرة الارهابيين في الشمال السوري سيشكل أزمة كبرى لسعر الصرف”، و”إذا استمر شحّ القطع الأجنبي كما هو الآن نتوقع تدهور سعر الصرف أضعاف ما هو عليه الآن”.
وبعدما انتشر هذا الكتاب كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي صدر بيان عن المصرف المركزي ينفي صحته، ويؤكد أنه مزور.
وقد تكون هذه الواقعة كافية وحدها لتأكيد أن ثمة أيدٍ خفيّة بدأت تتلاعب بإتقان على وتر سعر الصرف لغايات لا تخفى على أحد، وإلا كيف يمكن تزوير كتاب رسمي على هذا القدر من الأهمية وتسويقه لدرجة أنه نُشر على صفحات خبراء ومواقع اقتصادية.
الأخطاء الداخلية موجودة، لكن لا يمكن التغاضي عن العوامل الخارجية أيضاً. في هذا السياق كتب وضاح عبد ربه رئيس تحرير صحيفة “الوطن”، المعروف بخبراته الاقتصادية الواسعة في صفحته على موقع “فايسبوك” داعياً إلى نقاش هادئ وعقلاني: “انخفاض سعر الليرة سببه الأساس خارجي من خلال سياسة تجفيف مصادر الدولار في كامل منطقتنا ولكن أيضاً بعض الأخطاء الداخلية التي لا مجال لذكرها”، ليتساءل “هل لدينا حلول؟”.
نظرياً، بدا لافتاً أن عشرات الخبراء الاقتصاديين لديهم اعتقاد بأنهم يملكون “الحلول” وراح كل واحد منهم يضع وصفة مختلفة لكيفية التعامل مع هذه الأزمة وتجاوز تبعاتها. أحد هؤلاء هو وزير الاتصالات الأسبق عمرو سالم الذي وجه انتقاداً لاذعاً إلى وزير المال ورئيس غرفة تجارة ريف دمشق بسبب تصريحات أدليا بها حول مساهمة مواقع التواصل الاجتماعي في رفع سعر الصرف. وحول تصريح وزير المال بأن الطريقة الوحيد لرفع الليرة هي “زيادة الانتاج” أكد سالم أن هذا الأمر صحيح ولكنه تصريح فاشل ومسيء بغض النظر عن النية، لأن زيادة الانتاج (التصدير) سترفع الليرة، ولكن على المدى الطويل وليس القصير، مشيراً إلى “وسائل وأدوات لم نعدمها لرفع قيمة الليرة في المدى القصير والمتوسط”. واعتبر سالم أن من بين هذه الاجراءات أن تقوم المصارف السورية بمنح نفس التسهيلات التي كانت تمنحها المصارف اللبنانية قبل الوضع الراهن فيها، وذلك على الايداع والسحب بالقطع الأجنبي وبمرسوم تشريعي أو قانون حصراً.
من جانبه رأى الصحفي مازن جبور أن “الانخفاض الحالي في قيمة الليرة السورية مرده بشكل رئيسي عوامل خارجية سواء ما يرتبط منها بالعقوبات الاقتصادية الجائرة على سوريا أو بالوضع المتوتر في لبنان والعراق” مقترحاً للخروج من الأزمة اتباع سياسة “الانغلاق الاقتصادي القائم على وقف الاستيراد بشكل نهائي وحصره بالمواد الأساسية فقط وأن يتم استيرادها من قبل الدولة”.
الانخفاض الحالي في قيمة الليرة السورية مرده بشكل رئيسي عوامل خارجية سواء ما يرتبط منها بالعقوبات الاقتصادية على سوريا أو بالوضع المتوتر في لبنان والعراق
أما موقع “سيرياستيبس” المتخصص بالشؤون الاقتصادية، فقد اعتبر أن هناك “ملامح خطر داهم بدأت تلوح في الأفق اللبناني وبالتالي في الأفق السوري اليوم” داعياً السلطات التنفيذية إلى فتح ملف “أموال السوريين في الخارج لا سيما في لبنان”، ومشدداً على وجود حالة ملحّة تتطلب الاستدراك السريع عنوانها العريض كيف ننقذ أموال السوريين في البنوك اللبنانية التي تقف على حافة الافلاس بحسب الموقع المتخصص.
وأضاف أن “الاقتصاد السوري أمام فرصة ذهبية اليوم لاستعادة نسغه ودسمه الضائع وأن هذا الملف من أهم الملفات التي يجب أن توضع فوراً على طاولات البحث عن حلول.
ومن الجدير بالذكر أن “سيرياستيبس” يعتقد أن ما بين 25 و 50 مليار دولار من أموال السوريين مودعة في مصارف لبنانية وأنها أصبحت مهددة بالضياع بسبب المتغيرات والعجوزات التي تعصف بالاقتصاد اللبناني في هذه الآونة.
ملامح خطر داهم بدأت تلوح في الأفق اللبناني وبالتالي في الأفق السوري
يأتي ذلك وسط ارتفاع تكاليف المعيشة إلى مستويات ليس بمقدور إلا قلة قليلة من كبار التجار والأغنياء تحمل أعبائها. وفي هذا السياق ذكرت دراسة أعدتها صحيفة “قاسيون” أن تكاليف المعيشة من الحاجات الأساسية بلغت رقماً قياسياً جديداً حيث تحتاج الأسرة المكونة من خمسة أشخاص إلى مبلغ 359 ألف ليرة سورية، فيما توقعت الدراسة أن تصل التكاليف العام المقبل إلى 480 ألف ليرة سورية أي أن الأجر الشهري الوسطي الذي سيبلغ 60 ألف ليرة للموظف سيغطي 12% منها فقط.
آفاق غائمة تنتظر السوريين الذين لم يمنعهم شظف العيش وندرة متطلباته وصعوبة الحصول عليها، من الاهتمام بالتبعات السياسية التي يمكن أن تترتب على هذا الواقع المرّ. احتمالات عديدة وسيناريوات كثيرة تخطر على أذهانهم مقتبسين بعضاً من مشاهد ما يجري في لبنان والعراق ليدخلوا أنفسهم في دوامة الحسابات المعقدة بين انهيار الليرة أو انهيار الدولة والبحث عن سبل – تبدو مستحيلة- للتوفيق بين الصبر على الانهيار الاقتصادي دون أن يرافقه انهيار سياسي، يدركون بكثير من الجدية أن عدداً لا يستهان به من أعدائهم يسعى بكل ما لديه لجعله أمراً واقعاً.