فيلم أميركي إيراني طويل

لطالما كانت العلاقة بين ضفتي الخليج العربي عنوانا سياسيا متفجرا من قبل ظهور الدعوة الإسلامية. تبلغ شظايا الانفجار ليس حدود الجوار بل حد تهديد الامن الدولي، لما تحتوي الضفتين من مكامن وحقائق، فضلا عن خبايا العلاقة الأزلية بين حاكم بلاد فارس وحاكم الجزيرة العربية. حقائق بعضها من صنع الله أو الجغرافيا أو الناس ولا يبخل عليها التاريخ بكل ما يحمله من ثقافات وحضارات. فالضفتان مركز تنافر في القوة. إما أن ينتهي الشوط بينهما بالتعادل أو بالهيمنة. لا مكان للسلم او للحرب. فقط الاشتباك السرمدي. ومياه البحر العازلة بين الضفتين ترسم بقوة الجغرافيا.. سياسة الاشتباك التي هي مزيج من التنافس والحوار.. ولا حسن جوار.

أكثر ما يعبر عن العلاقة الإشتباكية المركبة بين السعودية وإيران هي قصة من زمن التقارب السعودي ـ الإيراني الحذر في تسعينيات القرن الماضي. يحكى أن لقاءً جمع بين الشيخ عبد العزيز التويجري المستشار الخاص للملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز والرئيس الإيراني الراحل الشيخ هاشمي رفسنجاني.

غاص الرجلان في أعماق التاريخ والحضارة والدين. حتى أفضيا الى خلاصة تجسد المخاطر والمصائر المشتركة لكلا البلدين المطلين على أغنى خزان طاقة في الكون هو الخليج. تلك الخلاصة قالها رفسنجاني للتويجري بالعربية لكن بلكنته الفارسية: “يا شيخ (عبد العزيز) أنتم عندكم مجانين ونحن عندنا مجانين”.

تصافح الشيخان وهما يدركان أن بلديهما محكومان بعلاقة الاشتباك السلبي، وأن التحول في تلك العلاقة ليس في عنوانها بحد ذاته بل في طبيعة النظرة المتبادلة، وهو تحول إن حصل ينقل العلاقة من الاشتباك السلبي الى مستوى أفضل وربما أرقى.

قالها رفسنجاني للتويجري بالعربية لكن بلكنته الفارسية: “يا شيخ (عبد العزيز) أنتم عندكم مجانين ونحن عندنا مجانين”

هذان الشيخان كانا قادرين على تشخيص أمراض العلاقة بين بلديهما، ويعرفان أن الاشتباك الحاصل بينهما في ساحات المنطقة، من شطآن الخليج إلى ضفاف المتوسط هو لتجميع الأوراق يوم كشف الحساب، للوصول الى نقطة توازن، فتكون قاعدة لا غالب ولا مغلوب هي الحاكم الأول للخليج. سيرة أدركها رفسنجاني حين شربت بلاد فارس كأس السم وإرتوت منه بإنهاء حربها مع العراق التي دامت ثماني سنوات، ولدغة لم يدركها التويجري، بوفاته قبل إعلان الاتفاق النووي الإيراني في زمن الرئيس الأميركي باراك أوباما.

وبعكس كل تاريخ العلاقة الإيرانية ـ الأميركية في زمن الشاه محمد رضا بهلوي، وهي علاقة جعلت الأخير، يستحق لقب “شرطي الخليج”، عند بلاد العم سام، فإن تاريخ التوتر الحافل بين البلدين، منذ ثورة الخميني في العام 1979، إنتقل إلى مرحلة جديدة، عندما قررت واشنطن ان تصبح دولة جوار لبلاد فارس، مع إحتلال بغداد في العام 2003م. منذ لك التاريخ، سقط خيار المواجهة العسكرية المباشرة، لمصلحة حروب بالوكالة بين البلدين، ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا، بدليل ما نشهده في العراق ولبنان وسوريا.

أجاب الملك عبدالله ضيفه الأميركي بالقول “لن اخوض حرب المائة عام بين السنة والشيعة”، مُذكراً تشيني أن الحرب الطائفية والمذهبية تندرج ضمن معادلة خاسر – خاسر

الحرب الأولى، كانت عندما أوكلت واشنطن مهمة ضرب طهران الى إسرائيل في حرب تموز/يوليو 2006م. ثلاثة وثلاثون يوما أُحرِقَ خلالها لبنان، ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليسا رايس كانت تبشر بالشرق الأوسط الجديد. لم تنجح المهمة السياسية ـ العسكرية، فكان أن خرجت شياطين المنطقة المجنونة، ليحط من بعدها نائب الرئيس الأميركي آنذاك ديك تشيني في الرياض، داعياً العاهل السعودي عبد الله للمشاركة في الحرب الثانية، وعنوانها “مواجهة الهلال الشيعي”. أجاب الملك عبدالله ضيفه الأميركي بالقول “لن اخوض حرب المائة عام بين السنة والشيعة”، مُذكراً تشيني أن الحرب الطائفية والمذهبية تندرج ضمن معادلة خاسر – خاسر.

عند هذا المفصل، دعا الملك السعودي الرئيس الإيراني احمدي نجاد الى اللقاء الشهير في مدينة مكة المكرمة. فقد نظّم، وقتذاك، مؤتمراً إسلامياً يدعو الى نبذ الطائفية وتحريم سفك دماء اتباع المذاهب الإسلامية السبعة، لتخرج صورة حكام الضفتين من خلف أبواب المؤتمر وهم يشبكون أيديهم. صورة أخمدت جنون الوقود الطائفي وتلتها مبادرات عناوينها طائفية لكن مضامينها سياسية.

قاتلت السعودية لإنجاز ما عُرفَ باتفاق السين – السين (السعودي ـ السوري) في العام 2010م. مبادرة سعودية بإتجاه سوريا لإعادة التوازن الى لبنان المنقسم غداة انتخابات نيابية محورية في لبنان حصدت فيها قوى 14 آذار/مارس الأغلبية في العام 2009م.

جاء التفاهم بين بيت الوسط (منزل سعد الحريري) والضاحية الجنوبية (معقل حزب الله) في سياق تفاهم الرياض ـ دمشق (سين سين).  وبحسب مستشار الرئيس سعد الحريري الأستاذ مصطفى ناصر، فقد تمت صياغة تفاهم أطلق عليه “اتفاق السطور الستة”. الا ان العقل السياسي الأميركي كان يسير في طريق معاكس لاتفاق السطور الستة، فكان أن سقطت حكومة سعد الحريري عند أبواب البيت الأبيض، باستقالة ثلث الوزراء منها.

ما غاب عن طهران وواشنطن هي الحكمة العربية القائلة: هناك فرق بين النصيحة والفضيحة. فحين طالبت إدارة الرئيس أوباما دول الخليج بإدارة شؤونها والمصالحة مع الجوار علنا، أصبحت النصيحة فضيحة. عندها اصطدمت مساعي تسويق المصالحة الإقليمية بحائط الهواجس الأمنية. بينما كانت تقرع طبول الثورة في شمال أفريقيا.

حلت مفاجأة ما يسمى بالربيع العربي، لتبدأ المرحلة الثالثة من الحرب بالوكالة. إلا أن هذه الدورة تميزت بإنخراط أميركا في الربيع العربي كدولة إقليمية باتباع سياسة الاشتباك الإيجابي مع طهران: تفاوض في مسقط وتسليح في دمشق. مساكنة على أرض العراق ولبنان وشجار صاخب في سماء الخليج..

إقرأ على موقع 180  عن مأزق العروبة: الدين السياسي=السلطة والمال VS الناس

خرج الاتفاق النووي الإيراني ولدغ أهل الخليج العرب. تأزمت العلاقة بين الضفة العربية وواشنطن، بينما كنا نشهد شهر عسل بين الضفة الفارسية والولايات المتحدة. بالتزامن، ساد توجه دولي برعاية أميركية ـ روسية للجم جنون الإرهاب في سوريا، وإعادة تعويم ما تبقى من تحالفات إقليمية، في إشارة واضحة إلى ان واشنطن وطهران قبلتا تعميم المساكنة السياسية على كامل مساحة المنطقة العربية.

وبالرغم من ان الاتفاق النووي الإيراني اقتصر على الشق التقني في امتلاك القدرة النووية إلا أن بعده السياسي، لم يكن سهلاً ستره او إخفاؤه. وهو ما تجلى في ساحات شرق أوسطية عديدة. هدوء في لبنان والعراق وتصفية سريعة للمعارضة السورية. ذهب أهل الخليج العرب يلملمون أوراقهم بحثا عن موقع في خريطة جديدة، حتى تم انتخاب سيد جديد للبيت الأبيض.

ألغى دونالد ترمب الاتفاق النووي الإيراني وأعاد عقارب الساعة الى الوراء، مستعيدا العقوبات الاقتصادية ضد طهران ومبادرا إلى التحشيد العسكري وشحذ الهمم السياسية سعيا إلى اتفاق نووي جديد.

بلغ الكباش الأميركي ـ الإيراني حافة الهاوية من دون السقوط فيها، بالرغم من سقوط طائرة مسيرة أميركية بصاروخ ايراني، لتشتعل بعد ذلك الحرب الرابعة في بغداد وبيروت وليس في الخليج..

وحين يعلن ترمب إلغاء الاتفاق النووي وبحثه عن شروط أفضل، يصبح الكلام عن تجنب اللدغ من الجحر مرة ثانية بديهياً. هنا لا بد من حوار إيراني ـ عربي وتحديدا سعودي ـ إيراني.. ولا بد من صنعاء مهما طال السفر. اليمن حجر الزاوية.

(*) كاتب سعودي

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  عالم جديد بين الإنحدار الأمريكي.. والصعود الصيني