ليس هذا المقال سوى محاولة للإجابة المقتضبة جداً عن أسئلة واضحة ومحددة، تتمحور جميعها حول دور وسائل التواصل الاجتماعي في الحراك اللبناني المستمر والمتصاعد منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وفي مستقبل هذا الحراك: فهل ساهمت في تشكيل وعي سياسي لبناني جديد غير طائفي؟ وهل يمكن تتبع هذا الوعي عبرها وتشخيص مقوماته؟ وما العوامل التي تؤمنها هذه الوسائل حتى تسهم في تبلوره أو في العكس؟ وهل يعوّل عليها قبل التعويل على الحراك على أرض الواقع لإحداث تغيير جدي في المشهد السياسي؟
قديماً، في بدايات عصر الأنوار في أوروبا، كان للساحات العامة دورٌ لا يستهان به في التنوير، وإن بوصفه دورٌ غير مباشر. يكفي أن يلتقي الناس في ساحات عامة، دون أن تجمعهم صلات قرابية أو ولائية معينة، ليتعرفوا على الاختلافات بينهم، ويتناقشوا في أمور الشأن العام، حتى يتبلور نوع من الوعي السياسي الشعبي الخارج عن الإطار الضيق، كما اعتقد المفكرون آنذاك، وكما كان هو الحال فعلاً على أرض الواقع.
بنوعٍ من المقارنة البسيطة، فإن وسائل التواصل الاجتماعي، اليوم، هي أقله صورة بديلة عن السّاحات العامّة في تلك الفترة الغابرة. صورةٌ موسّعة تلتقي فيها عقول الجميع وتتناقش، وإن كان الجسد مغيّباً، برغم تجليه في الصور والفيديوهات.
التلاقي إذاً هو الفعل الأول الذي ينبغي التوقف عنده بتمعّن، لكونه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالهوية. وهذه الأخيرة غالباً ما تكونت في الحالة اللبنانية بسماتها الطائفية، لا سيما بعد الحرب الأهلية (1975ـ 1990)، حيث تكرّس الوعي الهوياتي المؤسّس على مبدأ التمايز عن الآخر، المختلف مذهبياً أو طائفياً، من دون الحاجة إلى التعرف مجدداً على هذا الآخر. “حائط الصّدّ” الذي بنته هذه الحرب، وكرّسه الزعماء، سواء في خطاباتهم، أو في أدائهم السياسيّ، دفع الجميع إلى التأكيد على هويّاتهم، وقد غذّى مبدأ المغايرة هذا، الهوية، بشكل مباشر، إذ أن الذات الفردية أو الجماعية، بطبيعة الحال، لا يمكن أن تدرك وجودها إلا في مقابل الآخر المختلف عنها.
“الهويات الاجتماعية هي نتاج التوافق والتناقض والتسوية مع الآخرين” كما يقول جورج ميد. لكن “المغايرة” على وسائل التواصل الاجتماعي ليست مثيلة. صحيحٌ أن الإنسان يحمل معه إليها عقله وخلفياته كلها (بما فيها إنفعالاته)، وربما يعيد إنتاج الأنماط التقليدية لسلوكه الاجتماعي، لكنّ الانفتاح المتاح بسهولة على عدد هائل من الأشخاص الذين لا يمتلكون ذات الهوية الثقافية، والاضطرار إلى الاحتكاك معهم، بالإضافة إلى روح وثقافة العولمة التي تختزنها هذه الوسائل، شكّل ما يشبه الصّدمة للهويّات على اختلافها. فكان التعاطي مع هذه الصّدمة مختلفاً، بين من حثّه انكشاف الثقافات الأخرى بصورة جليّة على تعزيز الوعي بذاته بوصفه وعياً طائفياً، وبالتالي كرست تماهي هذا الوعي الفردي مع الوعي الجماعي الذي يتبناه الفرد، وبين من عرّت له الخفيّ مما لم يكن يعرفه، وبالتالي ساعدته على إعادة بناء وعيه الذاتي انطلاقا من إعادة بناء وعيه عن الآخر، فكان بدء إعادة تكوين هوية فردية جديدة متمايزة.
ثمة جيل جديد مقبل على الفايسبوك وتويتر وانستغرام والواتساب.. لم يعِ أصلاً معنى الاصطفافات السياسية. هذا الجيل الذي قالوا عنه تنمُّراً إنه جيل الـ(pupg ) هو جيلٌ “مطلبيٌّ” بامتياز، لا يهمه هذا الزعيم او ذاك
بين هذا وذاك، ثمة جيل جديد مقبل على الفايسبوك وتويتر وانستغرام والواتساب.. لم يعِ أصلاً معنى الاصطفافات السياسية. هذا الجيل الذي قالوا عنه تنمُّراً إنه جيل الـ(pupg ) هو جيلٌ “مطلبيٌّ” بامتياز، لا يهمه هذا الزعيم او ذاك، بل جل همه هو تأمين مطالبه. ولذلك، فهو أكثر من يستسهل النّقد، وهو أكثر المتحررين من عقدة الهوية الجماعية، كما أنه جيل تنامت عنده النزعة الفردية التي كان من تجلياتها اليوم التركيز على مطلب دولة المواطنة التي تؤمن لهم متطلباتهم.
أياً يكن، فإنه من الضروريّ تسليط الضوء على الحراك الذي كان قائماً في العالم الافتراضي لاشهر وسنوات قبل الحراك على أرض الواقع.
صحيحٌ أنّ الهمّ السياسي الدّاخلي قد غاب عن جدول أعمال الفرد اللبنانيّ إلا من حيث التعليق السريع على الأحداث، والذي كثيراً ما يمكن وسمه بالسّطحيّة، إلا أنَّ الاهتمام الديني كان بارزاً بشكل ملحوظ، لا سيما بعد ظهور تيارات الإسلام السياسي على أنواعها. ولا تخفى على أحد تلك العلاقة بين الديني والسياسي في عالمنا العربي. وعليه، فإن الحراك الديني بديهياً لا بدّ وأن يفضي إلى حراكٍ سياسي في آخر المطاف..
وكي لا يطول الكلام، تكفي الإشارة إلى أن الجدال الديني الذي دار على وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد صعود الإسلام بنسخته الداعشية، وبفضل مناخ الحرية الذي تمنحه هذه الوسائل عبر إتاحة فرصة التّخفّي، وبفضل المعلومات الجديدة التي أمكن للمتدين أن يتوصّل إليها فيفكر فيها، بعد أن كان مجرد شخص متلق للمواعظ والأحكام، كلّ ذلك، قد أدّى بالكثيرين إلى تعزيز ثقتهم بالعقل، العقل الفردي، والاعتماد عليه لتشكيل الوعي الديني، في مقابل تزعزع الثقة برجال الدين. لا بل حتى أن نسبة الإلحاد المعلن عنها وغير المعلن عنها تزايدت في لبنان ومنطقتنا، في السنتين الأخيرتين بسرعة هائلة وبأعداد معتبرة. هذا قد يعني الكثير في ما يخص الوعي السياسي الجديد. لأن الكلام عن الملحد واللاديني والربوبي وما شابه هو كلام عن إنسان متحرر من قيود الولاء للطائفة. لكن الإشارة الأعمق هنا قد تتعدى الحديث عن الوعي اللاطائفي، ليغدو جوهر الكلام متعلّقاً بالنقطة السابقة، أي تعزيز الثقة بالعقل الفردي، وما يعنيه ذلك من التحرر من إملاءات الجماعة شيئاً فشيئاً، وبالتالي الجرأة في ما بعد على تبني خيارات سياسية وحتى غير سياسية مغايرة. وهذه نقطة يستحق الوقوف عندها في الحديث عن الفردانية كواحدة من أبرز نتاجات العولمة الثقافية التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي. فالفردانية هي بطبيعة الحال من خصائص الأيديولوجية الحديثة التي تُخضع الكلية الاجتماعية للفرد، باعتباره كائنا معنويا مستقلاً بذاته. وهنا يصبح من السهل الحديث عن انتقال الفرد من كونه واحداً من الرّعية ضمن جماعة (انتظام ما قبل الدولة) إلى كونه مواطناً داخل الدولة، التي سيبحث تلقائياً عن شكلها وأسسها المختلفة.
حتى أن نسبة الإلحاد المعلن عنها وغير المعلن عنها تزايدت في لبنان ومنطقتنا، في السنتين الأخيرتين بسرعة هائلة وبأعداد معتبرة. هذا قد يعني الكثير في ما يخص الوعي السياسي الجديد
وإذا ما كان التغير في الفهم الديني من “المحرّمات” التي يخاف البعض الإجهار بها، فلجأوا بفعل ذلك إلى وسائل التواصل للتعبير عن آرائهم الدينيّة في ظل مناخ الحرية وسهولة التّخفّي، فإنّ التّغيّر في الفهم السياسي يبقى أكثر مرونة من حيث إمكانية الإجهار به والتّعبير عنه. ولذلك، أكثر من تعوّدوا على المناخ النقدي لما هو دينيّ كانوا واقعاً ممّن تحركوا على الأرض احتجاجاً على السلطة القائمة ومطالبةً بعقد اجتماعي جديد للعبور نحو دولة مدنيّة.
نحن إذاً أمام تأثير مباشر لوسائل التواصل الاجتماعي على مجريات الأحداث السياسية في المنطقة العربية، وفي لبنان اليوم على وجه الخصوص. ولا تزال هذه الوسائل اليوم تصنع مشهداً سياسيا لبنانيا جديدا، بل يمكن القول أنها صانع المشهد وناقله على السّواء. وعلى هذه الوسائل يتشكل نوع من الانتظام لنواة من المواطنين، غير المصنفين ضمن إطار النخبة الثقافية، الذين يشكلون القوة الفعلية الضاغطة على الأرض في سبيل الانتقال بدولة الطوائف اللبنانية إلى الدولة المدنيّة المرجوّة.. وهم يلجؤون إلى وسائل التواصل نفسها لنشر وعيهم ورؤاهم، وهذا ما نجده جلياً في المناقشات والتعليقات على الأفكار المطروحة في الفضاء الإلكتروني.
أمام هذا الواقع، قد يقف المرء مذهولاً أمام الطبقة الحاكمة المقتنعة بقدرتها على الاستمرار بالمنظومة والأدوات ذاتها، وهي التي في الأساس لا تملك القدرة على استيعاب المتغيرات الهائلة التي تطرأ على المجتمع. وربما بات بالإمكان القول أننا نشهد تحولات عميقة في مجتمعاتنا، كانت وسائل التواصل الاجتماعي من أبرز أسبابها كما من أبرز تجلياتها في الوقت عينه، وكان الانهيار الأخلاقي الذي فضحته هذه الوسائل واحداً من الأسباب أيضاً. ناهيك عما سيؤول التقهقر الاقتصادي والمالي والإجتماعي وما يتبعه من تضعضع للأمن الغذائي من تحولات في بنية المجتمع اللبناني ككل، والذي ستتيح لنا وسائل التواصل الاجتماعي ان نتعقبها بوضوح في حاضر الأيام ومستقبلها.