في خطابه أمام الجمعية الاتحادية، اقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تغييرات جوهرية في منظومة الحكم في البلاد، عبر تعديلات دستورية تعدّ الأهم منذ ثلاثة عقود.
وفق النظام الجديد المقترح، الذي صوّت عليه مجلس الدوما يوم أمس، وسيدخل حيز التنفيذ بشكل نهائي خلال العام الحالي، بعد موافقة مجلس الاتحاد الروسي، بموازاة طرحه على الحوار المجتمعي، سيبقى قيد الولايتين الرئاسيتين المتتاليتين قائماً، ما يعني أن بوتين حسم قراره بعدم الترشح لولاية خامسة عام 2024، ليقطع بذلك الطريق على البروباغندا الغربية الموجهة ضده حول السعي لتنصيب “رئيساً لمدى الحياة”.
ثمة أساب منطقية لذلك، فتبادل المناصب بين فلاديمير بوتين ودميتري ميدفيديف، أو غيره، لا يمكن ان يحدث مرة اخرى، بالنظر إلى عاملين أساسيين: الأول، هو عامل السن، فبوتين البالغ من العمر سبعة وستون عاماً، سيكون قد بلغ عامه الحادي والسعبين حين تنتهي ولايته الحالية. والثاني، وهو العامل الأهم، أن روسيا تجاوزت مرحلة عدم الاستقرار منذ فترة، على نحو يجعلها قادرة على التحرر من تركيز السلطة في يد حاكم – قائد.
جوهر التعديلات الدستورية المقترحة هو إحداث شكل من أشكال التوازن في السلطة السياسية بين الرئيس والبرلمان، وهو ما كان يطالب به الكثيرون في روسيا، من دون أن يعني ذلك الانتقال من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، وهو ما شدد عليه بوتين في خطابه الأخير.
وينطلق التمسك بالنظام الرئاسي من عوامل موضوعية متصلة بطبيعة الحكم بروسيا، فهذه الدولة البرّية المترامية الأطراف، والمتعددة القوميات، كان قدرها، طوال تاريخها الممتد إلى أكثر من ألف عام، أن تكون في حاجة دوماً الى حاكم (غاسودار) قوي، تتسع سلطاته في مرحلة الاضطرابات، وتتقلص بالقدر الذي يسمح به الاستقرار الداخلي والخارجي.
هنا، يمكن وضع هذا التعديل في الصلاحيات في سياق المسار الداخلي والخارجي، الذي بدأ منذ عشرين سنة، تمكنت روسيا – بوتين خلالها من تجاوز مرحلة الاضطرابات في حقبة بوريس يلتسين داخلياً، واستعادة حضورها على مسرح السياسة الدولية، ما يعني أن البلاد باتت جاهزة لتقليص صلاحيات “الغاسودار” لصالح المجتمع ممثلاً بالبرلمان.
بذلك، يمكن أن يركّز الرئيس الروسي أكثر على شؤون الأمن والسياسة الخارجية، بينما تنتقل صلاحياته الداخلية إلى البرلمان، الذي سيكون رئيس الحكومة مسؤولاً أمامه بشكل مباشر، كونه هو الهيئة الدستورية التي سيستمد منها صلاحياته التنفيذية، بجانب مجلس الدولة، الذي سيكون له دور أساسي في منظومة الحكم.
ومن شأن ذلك أن يضمن انتقالاً سلساً للسلطة، وفق آلية دقيقة، تراعي التوازنات القائمة في منظومة الحكم الحالية، وتدفع في الوقت ذاته بقيادات جديدة إلى الواجهة، وكل ذلك ضمن التوجهات الاستراتيجية، داخلياً وخارجياً، التي يصطلح البعض على تسميتها بـ”البوتينية”، والتي تمضي بخطى واثقة منذ انطلاقتها ليل 31 كانون الأول/ديسمبر عام 1999، أي في اللحظة التي سلّم بوريس يلتسين السلطة إلى فلاديمير بوتين.
هذا الشكل لانتقال السلطة ينطلق من خصوصية روسية يعجز الغربيون عن فهمها – أو ربما لا يريدون فهمها – وهي أن الانتقال من حقبة إلى أخرى، لا بد أن يكون ضمن ترتيبات دقيقة، بخلاف ما هو الحال في الانتقال التلقائي/المؤسساتي للحكم في دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وإلى حدّ ما الولايات المتحدة (برغم أن المؤسسة الحاكمة – الاستابلشمنت – تلعب دوراً محورياً وإن تبدّل الرؤساء).
في الوقت ذاته، فإنّ التعديلات المطروحة تبقي الباب مفتوحاً أمام بوتين، أو غيره نظرياً، للعب دور محوري في توجيه النظام السياسي، أو إدارته، ما يجعل التكهنات تدور حول إمكانية أن يحافظ على تصدّره للمشهد السياسي بعد العام 2024، إن من خلال ترؤس حزب “روسيا الموحدة”، الحزب الاكبر في البرلمان المعززة صلاحياته، أو ترؤسه مجلس الدولة، الهيئة الدستورية التي ستُعزز أيضاً صلاحياتها، والتي خصّها بوتين بالذكر في خطابه حول التغييرات الدستورية.
التعديلات المطروحة تبقي الباب مفتوحاً أمام بوتين، أو غيره نظرياً، للعب دور محوري في توجيه النظام السياسي
لكن الخيار بين “الحزب الحاكم” و”مجلس الدولة” يبقى رهناً بما سيحققه “روسيا الموحدة” من نتائج في انتخابات الدوما خلال العام 2021، فالحزب الذي تراجعت شعبيته بشكل مثير للقلق (حوالي 30 في المئة وفقط استطلاعات الرأي) بسبب أداء حكومة دميتري ميدفيديف، يحتاج إلى تعزيز رصيده مع بدء العد العكسي للانتخابات التشريعية، وذلك عبر اجراءات ملموسة في الملف الاقتصادي-الاجتماعي.
من هنا، يمكن فهم التزامن بين انطلاق ورشة التعديلات الدستورية وبين إقالة حكومة ميدفيديف، والدفع بشخصية “تكنوقراط” مثل ميخائيل ميشوستين بجانب عدد من الاختصاصيين في الوزارات المتصلة بتنفيذ البرامج الوطنية التي سبق أن اقترحها بوتين للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتي تهدف بشكل خاص إلى التصدي للأزمة الديموغرافية ومشكلة الفقر.
ومن هنا ايضاً، يمكن فهم طبيعة التغيير الحكومي الأخير، الذي أزيح فيه الوزراء المسؤولون عن الاخفاقات الاقتصادية-الاجتماعية (العمل، الصحة، الرياضة…)، وقبلهم رئيس الوزراء نفسه، الذي بات ممكناً استبداله بعدما استنفد رصيده الشعبي (وفق ما ما أظهره المزاج العام بعد تعديل نظام التقاعد وتظاهرات المعارضين التي خرجت قبل أشهر فضلاً عن خسارة حزب روسيا الموحدة لبعض مقاعده في الانتخابات البلدية)، في مقابل الإبقاء على الوزراء الناجحين في مهماتهم، لا سيما سيرغي لافروف، عرّاب الدبلوماسية الروسية المحترفة، وسيرغي شويغو الذي يقود بحزم خطة تحديث الجيش الروسي.
يُظهر ذلك بوضوح أن روسيا، خلال السنوات الأربع المقبلة من عهد بوتين – وهي نظرياً ولاية كاملة أخذاً في الحسبان أن الولاية الرئاسية قبل العام 2012 كانت لأربع سنوات – ستمضي قُدماً في اعادة مأسسة المنظومة الحاكمة، وبطبيعية الحال انتقال السلطة، انطلاقاً من حقيقة أن الأولوية لم تعد لـ”الاستقرار” كما كانت الحال خلال السنوات العشرين الماضية، وإنما للتنمية الاقتصادية-الاجتماعية.
ثمة تفصيلان، قد يبدوان هامشيين، ولكنهما يحملان دلالات مهمة في فهم جدلية العلاقة بين “الاستقرار” و”التنمية”: الأول، هو أن التغيير الحكومي الأخير تضمن إلغاء وزراة شؤون شمال القوقاز، وتكليف المدعي العام، بعد استقالته، بإدارة هذه المنطقة، بصفة مفوّض رئاسي؛ وأما الثاني، فكان استقالة رمضان قديروف من منصبه كرئيس لجمهورية الشيشان.
وبالنظر إلى ما تمثله الشيشان وشمال القوقاز من رمز للاضطرابات الامنية في روسيا منذ مطلع التسعينيات، يمكن القول إن عنصر التنمية الاقتصادية- الاجتماعية في هذه المنطقة بات يحتل الأولوية على عنصر الاستقرار، الذي كان من الممكن أن يحققه شخص مثل رمضان قديروف في مرحلة الاضطرابات، في حين أن فشله في التصدي للفساد والزبائنية استوجب تبديله، طالما أن دوره “الامني” قد أُنجز بالقدر المطلوب.
بالعودة إلى المسار الأول لترتيبات الحكم ما بعد انتهاء ولاية بوتين، أي “المسار الحزبي”، فإنّ الحكومة الجديدة ستقع عليها تحديات كبرى، لجهة استعادة الثقة المفقودة بفعل الاخفاقات الاقتصادية-الاجتماعية، والمضي في الحرب ضد الفساد، حتى يتخلص “روسيا الموحدة” من سمة “حزب الفاسدين واللصوص”، وبالتالي ضمان قاعدة شعبية تسمح له بالاحتفاظ بغالبية كبيرة في الدوما، من خلال انجازات داخلية مستمدة من المشاريع الوطنية التي غالباً ما كان يقترحها بوتين ولا تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب الأداء الحكومي السابق، بالتالي تحسين الاداء الاقتصادي ليوازي نجاحات السياسة الخارجية.
وبانتظار أن تحسم صناديق التصويت في انتخابات الدوما الأمر، يبقى هامش المناورة واسعاً في يد بوتين لضمان الانتقال الهادئ للسلطة، من خلال مسار بديل، أو ربما موازٍ، وهو مسار “مجلس الدولة”، الذي يندرج تعزيز دوره في إطار إشكالية تاريخية في منظومة الحكم الروسية.
على مدار تاريخها، ابتداءً من المرحلة القيصرية مروراً بالمرحلة السوفياتية وصولاً إلى المرحلة الراهنة، لم تكن روسيا يوماً تلك الدولة التي يمكن أن يحدث فيها انتقال السلطة في سياق المؤسسات السياسية، فهي من الدول التي يتوقف فيها الانتقال السياسي على شخصية الحاكم، وهو ما يجعل التساؤلات تدور دوماً حول الطريقة التي سيمضي فيها الانتقال المقبل، لا سيما أن النخبة السياسية في البلاد غالباً ما تتشكل، وفق التعريف الكلاسيكي، من “نبلاء عند القيصر” وليس “نبلاء مستقلين”، وهو نمط لا تنفرد به روسيا وحدها، بل يمكن ايجاد شكل من أشكاله في مختلف الدول ذات النمط الشرقي/الآسيوي.
انتقال السلطة لا بد أن يجنّب روسيا الخلل في التوازنات القائمة بين النخب العسكرية والامنية والاقتصادية والاجتماعية
انطلاقاً من ذلك، فإنّ أي انتقال للسلطة لا بد أن يجنّب روسيا الخلل في التوازنات القائمة بين النخب العسكرية والامنية والاقتصادية والاجتماعية، ويحصنها في الوقت ذاته من التأثيرات الخارجية على منظومة الحكم.
هذا ما يعطي تعزيز صلاحيات “مجلس الدولة” أهمية إضافية لكونه الهيئة الدستورية التي من شأنها أن تضبط ايقاع العلاقة بين النخب المذكورة، أو بمعنى آخر نقل هذه المهمة من شخص بوتين إلى هيئة جامعة لدوائر الحكم، علماً بأنّ كثيرين في روسيا يؤمنون بأن قوة بوتين الفعلية تكمن في اتقانه لهذا الدور بالذات.
ولهذا الغرض، يمكن استلهام تجارب مماثلة، وإن بصيغة تلائم الشخصية الروسية، وقد تكون على شاكلة مجلس الدولة في الصين، أو مجلس الأمن القومي في كازاخستان، أو ربما مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران، وهو ما يدفع كثيرين إلى توقع دور “المرشد” لفلاديمير بوتين.
من جهة ثانية، سيقيد النظام الجديد التأثيرات الأجنبية على إدارة روسيا، وأوضح مثال على ذلك هو أن الدستور الروسي ستكون له الأسبقية على الاتفاقيات الدولية، ما يعني أن المعارضين لن يكونوا قادرين على اللجوء إلى هيئات دولية، مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أو غيرها لتحقيق أجندات داخلية.
علاوة على ذلك، سيقتصر منصب الرئيس على الأفراد الذين أقاموا في روسيا لمدة لا تقل عن 25 عاماً، على أن تُمنع المناصب الرسمية العليا، بما في ذلك القضاة والوزراء والمحافظون وأعضاء البرلمان، على حاملي الجنسية المزدوجة أو الإقامة الأجنبية.
بذلك، يكون الدستور قد تحرر من القيود التي يرى كثيرون أنها فُرضت من الخارج على روسيا، يوم كانت “دولة مهزومة” في مطلع التسعينيات، وسيجعل في الوقت ذاته نظام الحكم محصوراً بـ”المواطنين المخلصين” الذين يقيمون في روسيا ، وليس المعارضين السياسيين العائدين من الخارج، أو حتى نخبة رجال الأعمال الذين يملكون طريق فرار محتملاً إلى دول مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
حتى اتضاح ملامح الخطوات الاجرائية، يمكن توقع الكثير من المفاجآت التي يفضل الرئيس الروسي إبقاءها في دائرة الغموض، ولا سيما الخليفة المحتمل، الذي قد يكون مفاجأة تلك المفاجآت. فكما أن اختيار بوريس يلتسين لخليفته لم يكن متوقعاً على الإطلاق، يمكن افتراض أن هذا الأمر سينسحب على خليفة فلاديمير بوتين.