أوروبّا “تسمع الموسيقى”.. وتتحسّس سكاكين أمريكا

العبارة الإنكليزيّة "نسمع الموسيقى" (face the music) تعني مواجهة عواقب الأعمال الخبيثة التي نقترفها من دون أي رادع. وفيها كثير من "العدالة الشعريّة" (Poetic justice) أو "سخرية القدر" كما نقول في العربيّة. وها هي أوروبّا تسمع الآن الموسيقى التي أسمعتها للعالم منذ أكثر من 500 سنة.. ويا لها من موسيقى ساخرة.

في العامين 1814 و1815، اجتمعت الدول الأوروبيّة في فيينّا (Congress of Vienna) من أجل حل خلافاتها الكثيرة ومعالجة الجرح الكبير الذي سبّبته حروب نابوليون بونابرت. يعتبر الكثير من المؤرّخين والمتخصّصين في العلوم السياسيّة أن مؤتمر فيينّا شكّل العمود الفقري لعلاقات مستقرّة بين الدول الأوروبيّة وأسّس للسلام في القارّة العجوز. الأهم أنّ المؤتمر خلق فكرة الإتّحاد التي لم تبصر النور إلاّ بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية في منتصف القرن العشرين.

غير أن الوقائع تشي بأن المؤتمر فشل في تحقيق السلام والإستقرار. الدليل على ذلك أنّ الصراعات لم تختفِ، بل زادت، وتغيّر شكل القارة السياسي جذريّاً في القرن التاسع عشر، مع زوال الكثير من الإمارات والدول، خصوصاً في ما نعرفه اليوم بكل من إيطاليا وألمانيا، وانهيار الإمبراطوريّتين البروسيّة والهابسبورغيّة، واشتعال الصراع الدموي بين فرنسا وألمانيا. أيضاً ظهرت دول لم تكن موجودة في زمن المؤتمر، مثل اليونان (1832)، رومانيا (بدءاً من سنة 1858)، هنغاريا (بدءاً من سنة 1866، وفعليّاً في سنة 1918)، إيطاليا (1870)، ألمانيا (1871)، بلغاريا (بدءاً من سنة 1878)، تشيكوسلوفاكيا (1918)، ويوغوسلافيا (1918).

لعب عاملان مهمّان دوراً رئيسيّاً في إقناع أوروبّا بالإجتماع في فيينا، وتوفر الإجماع حولهما وهما:

1) تنامي قوّة وحجم أي من الدول الأوروبيّة يُشكّل تهديداً مباشراً للآخرين، وبات هناك حاجة موضوعية للتوحّد لمنعه أو إفشاله بكل الوسائل (نموذج نابوليون في فرنسا)؛

2) التوحّد ضد أي عدو خارجي مشترك.

واللافت للانتباه أن المجتمعين تقصّدوا عدم دعوة السلطنة العثمانيّة، أكبر دولة أوروبيّة في تلك الفترة، لحضور المؤتمر. ومع أنّ وضعها كان ضعيفاً، شكّلت الدولة العثمانيّة، برأي الأوروبيّين، خطراً عليهم، لذلك سحبوا سكاكينهم وبدأوا بسنّها وبوضع الخطط لتقطيعها إلى دويلات صغيرة، في أوروبّا الشرقيّة وحتّى في الشرق الأوسط.

قراءة مختلفة لسايكس-بيكو

من هنا تكمن أهميّة قراءة اتّفاقيّة سايكس-بيكو بالعودة إلى مؤتمر فيينّا. بين العامين 1915 و1916، قام البريطاني مارك سايكس (Mark Sykes) والفرنسي فرانسوا بيكو (François Picot) والروسي سيرغي سازونوف (Sergei Sazonov) بالتفاوض حول تقسيم ما تبقّى من ولايات السلطنة العثمانيّة، ومن دون علم السلطنة. سبق ذلك محاولات كانت السلطنة فيها شريكة في التفاوض على تقسيمها، كما حصل في البلقان وفي جبل لبنان مثلاً. وحتّى عندما أرسل الخديوي محمّد علي جيشه بقيادة ابنه إبراهيم باشا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وسيطر على فلسطين وبلاد الشام وبعض مناطق الأناضول، وهدّد بتقويض السلطنة العثمانيّة، كان “دفاع” الأوروبيّين عبارة عن محاولة لإبقاء الضعيف على ضعفه، أي “إنقاذه” لنهبه. خاف الأوروبيون من قيام دولة قويّة في الشرق الأوسط يمكن أن تُهدّد مصالحهم (مع العلم أنّ محمّد علي وإبراهيم باشا لم يوفّرا حذاءً أوروبيّاً إلا وقبّلاه حتى يرضى عنهما الغرب). وانتشرت حالات تدخّل القوى الأوروبيّة – بغطاء حماية “الأقلّيّات” – لتقطيع أوصال الدولة العثمانية المريضة إلى مناطق نفوذ لها.

للأسف، حصل ذلك مع بدء غرام “المثقّفين” العرب والأتراك وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط بالحضارة الأوروبيّة والمطالبة بالتمدّن والترقّي. فانطلت عليهم ألاعيب الغرب، واعتقدوا، بل أقنعوا أنفسهم أنّ مصالح الغرب تتلاقى مع تطلّعاتهم وأنّ الغرب يريد حقّاً لهم أنّ يصبحوا أقوياء وأغنياء.

من هنا، علينا أن نقرأ التاريخ بأدق تفاصيله حتى نفهم طريقة تفكير الأوروبيّين، والتي يبدو أنّها ما زالت ساريةً حتّى اليوم. فاتّفاقيّة سايكس-بيكو لم تكن بين بريطانيا وفرنسا. هي كانت معاهدة أوروبيّة بامتياز ضدّ عدو مشترك (وخروج روسيا منها لم يكن أساساً في الحسبان). وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى، اجتمع الأوروبيّون في مؤتمر سان ريمو (1920) لإقرارها، وأعادوا تأكيدها في معاهدة لوزان (1923)، مع بعض التغيّيرات التي تطلّبها الواقع الجديد، وتحديداً ضرورة استخدام الدولة التركية الحديثة سدّاً أمام توسّع نفوذ الإتّحاد السوفياتي الذي أخذ مكان الدولة العثمانيّة عدواً جديداً لأوروبّا!

مسلسل إضعاف أوروبا

ومن سخرية القدر أنّ أوروبّا تواجه حالياً المعضلة نفسها التي واجهتها الدولة العثمانيّة في نهايتها. فها هي أوروبا بحاجة لمن يحميها، أما “المدافعون عنها” (أمريكا تحديدًا) فقد أصبحوا مصدر خطر عليها ألعن من خطر “أعدائها” (روسيا). نعم، كشّرت أمريكا عن أنيابها وقرّرت نهب ثروات أوكرانيا الطبيعيّة. قرّرت ذلك من دون الرجوع إلى أوروبّا أو نيل موافقتها، وحتّى من دون إشراك أوكرانيا نفسها في الأمر. نهبٌ على المكشوف، ينطبق عليه التعبير الشعبي اللبناني: “حاكمك.. لاكمك”.

لكن هل اعطاء جزء من أراضي أوكرانيا جائزة ترضية لروسيا من أجل تحييدها لمصلحة أمريكا هو آخر الحبل أم بدايته في مسلسل إضعاف أوروبّا؟ لا يمكن إعطاء جواب حاليّاً كون المعطيات غير مكتملة بعد، والأمور يمكن أن تتطوّر في اتجاهات متعددة.

إقرأ على موقع 180  روسيا لن تجلس في آخر الحافلة بعد الآن!

لكن إذا قرأنا التاريخ جيّداً، وبالعودة إلى هزيمة ألمانيا في الحرب العالميّة الثانية، هناك حقيقة لا يعالجها المتخصّصون ولا يعرفها الكثيرون وهي أنّ هزيمة ألمانيا العسكريّة لم تكتمل إلاّ بهزيمتها عرقيّاً. ما أعنيه هو التطهير العرقي الهائل للألمان من دول شرق أوروبّا، وتحديداً من دول البلطيق وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، وهو الأمر الذي اتخذه النازيّون ذريعة للتوسّع شرقاً وتشكيل ألمانيا الكبرى. هذا القرار أصرّ عليه الأوروبيّون من أجل أن لا يكون لألمانيا أي أمكانيّة مستقبليّة بإعادة تكوين نفسها وتشكيل خطر جديد على التوازن الأوروبّي.

تكرّر الأمر مع انهيار الإتّحاد السوفياتي وقرار تقسيمه إلى دويلات، لكي لا يتمكّن الروس من إعادة تكوين دولة كبيرة وبالتالي الهيمنة على قرار أوروبّا. فكان المطلوب – كما حصل مع الألمان بعد الحرب العالميّة الثانية – تطهير عرقي للروس من دول الإتّحاد السوفياتي سابقاً من أجل القضاء على أيّ أمل بإعادة تأسيس روسيا القيصريّة. وهو ما تمّ العمل عليه في دول البلطيق وأوكرانيا وجورجيا، لكن فلاديمير بوتين تنبّه لهذا المخطّط وأفشله عسكريّاً في جنوب شرق أوكرانيا، وفي أبخازيا وجنوب أوستيا (جورجيا)، وترانزنيستريا (مولدوفا).

وحصل ذلك أيضاً مع تفكيك يوغوسلافيا وتقسيم تشيكوسلوفاكيا وجعلهما مجرد دول صغيرة خاضعة لإملاءات بروكسيل وغير قادرة على تغيير موازين القوى في القارّة.

إلا أنّ حسابات أوروبّا ومصالحها لم تعد في صلب حسابات أمريكا ومصالحها الآن، وسنشهد في المرحلة المقبلة تداعيات أوروبية لهذا التغيير في “العقيدة الأميركية”. وكما كان الأوروبيّون يشحذون سكاكينهم في مؤتمر فيينّا، فها هي مؤتمرات الرياض تشهد شحذاً للسكاكين، لكن هذه المرّة على أوروبّا، ومن دون مشاركتها. فما أرادته أمريكا من أوروبّا بين الأعوام 1945 و1990 تغيّر. والمؤسف أن الأوروبيّين اعتقدوا أنّهم شركاء أمريكا، وها هم الآن يستفيقون على واقع أنّهم أذيال.. لا أسياد.

ومن سخرية القدر أنّ أوروبّا التي تآمرت وما تزال على شعوب العالم الثالث لسرقة ثرواتها، ها هي اليوم تجد نفسها على طاولة الذبح، عندما يتآمر عليها من هو أكبر وأقوى منها.

في الخلاصة؛ ينطبق على أوروبا القول الساخر: “طابخ السمّ آكله”. فمن جهة، تنتشر الفاشيّة فيها بحلل مختلفة، وأنا لا أعني فقط الصعود المقلق لليمين العنصري، بل ثمة فاشيّة تُسيطر على العقل السياسي الأوروبّي بكامله: فاشيّة “الخضر” واليسار في النموذج الألماني، وفاشية “يمين-الوسط” في بولندا وفرنسا، وفاشيّة اليمين العنصري في هنغاريا وإيطاليا والنمسا، إلخ.. ومن جهة أخرى، ماذا إذا قرّرت أمريكا أن مصالحها الجديدة تتطلّب تفكيك القارّة العجوز؟ هنا قمّة السخرية بأن تجد أوروبّا نفسها مرغمةً على سماع الموسيقى التي كانت تعزفها للغير وتعتقد متعجرفةً أنّها مُحصنة من ألحانها!

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  فلسطين بين نكبتين.. كيف يفهم العرب الحدث وتداعياته؟