على مدار تسعة أعوام من الحرب في سوريا، شهد القطاع الزراعي في البلد الذي تعتبر فيه الزراعة أحد أعمدة الاقتصاد تراجعاً كبيراً نتيجة الأعمال القتالية و حركات الهجرة والنزوح، والأضرار التي لحقت بالأراضي والمعدات الزراعية، وأزمات الوقود، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وصعوبة نقل المنتجات وتصريفها، بالإضافة إلى عوامل أخرى عدة، الأمر الذي خلف آثاراً اقتصادية كبيرة، خصوصاً أن الزراعة كانت تشكل، وفق إحصاءات المكتب المركزي في العام 2010 ما يعادل 17.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي كما تشغّل حوالي 15 في المئة من مجموع قوة العمل أي قرابة 800 ألف.
بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية الكبيرة، تسبب الدمار الذي لحق بهذا القطاع والذي قدرته منظمة “الفاو” بنحو 16 مليار دولار بأزمة معيشية مست بشكل مباشر الأمن الغذائي في سوريا، وبعض دول الجوار التي كانت تستورد المنتجات الغذائية من سوريا، كالأردن والعراق الذي تضرر فيه القطاع الزراعي بشكل كبر أيضاً جراء الحرب، سواء بسبب تدهور الإنتاج الزراعي، أو بسبب انقطاع الطرق، الأمر الذي تسبب برفع أسعار المنتجات الغذائية بشكل كبير نظراً لارتفاع تكاليف نقلها.
الموطن الأصلي للقمح
بعد ساعات قليلة من سيطرة الجيش السوري على منطقة “إيكاردا” ومحيطها، بدأ الحديث عن إمكانية عودة نشاط هذا المركز الهام، بالإضافة إلى مناطق جنوب غرب حلب، التي تعتبر جزءاً مهماً من السلة الغذائية في المنطقة الشمالية من سوريا.
مصدر في “إيكاردا” كشف لـ “180” عن أن الإدارة تعتبر مركزها في ريف حلب مركزاً رئيسياً وتنتظر بفارغ الصبر الإذن للعودة والعمل ضمنه.
وعملت “إيكاردا” منذ تأسيس مركزها في جنوب حلب عام 1977، إثر نقل أعمالها من لبنان بعد اندلاع الحرب الأهلية فيه، على تطوير عدد كبير من البذور لمحاصيل استراتيجية في سوريا والمنطقة، أبرزها القمح والشعير والعدس والحمص، الأمر الذي ظهرت آثاره على الزراعة في سوريا من حيث كمية الإنتاج وجودة المنتجات.
ولم يأت اختيار منطقة جنوب حلب بشكل عبثي أو متسرّع، حيث تعتبر المنطقة التي يوجد فيها مركز بحوث “إيكاردا” بيئة مناسبة لمعظم المحاصيل الاستراتيجية، سواء من ناحية الارتفاع عن سطح البحر، أو الظروف الجوية والمناخية، أو نوعية التربة.
في هذا السياق يشرح المصدر أن اختيار سوريا بشكل عام وهذه المنطقة بشكل خاص ساهم بشكل كبير في تطور بذور هذه المحاصيل، وتابع شارحاً “تاريخياً تعتبر سوريا الموطن الأصلي للقمح”.
ويوجد في سوريا نوعان من القمح، القمح القاسي والقمح الطري، حيث يعتبر الأول الذي يدخل في صناعة المعكرونة والسميد وغيرها الأكثر انتشاراً بسبب طبيعة المناخ والتربة في سوريا، في حين لا يساعد المناخ المتوسطي عموماً على انتاج كميات كبيرة من القمح الطري الذي يدخل في صناعة الدقيق والخبز، الأمر الذي تم استغلاله سابقاً عن طريق عمليات تبادل القمح القاسي المرتفع الثمن بقمح طري أقل ثمناً وقبض فارق السعر، ضمن ميزان تجاري رابح للحكومة السورية.
وعانت مناطق ريف حلب الجنوبي من معارك عنيفة خلال السنوات الماضية، بعدما خرجت بشكل تدريجي عن سيطرة الحكومة السورية، حيث سيطرت الفصائل المسلحة على مركز “إيكاردا” العام 2012، ويتعرض المركز للسرقة والتخريب، ما تسبب بأضرار كبيرة.
ولم تحدد أرقام دقيقة للخسائر، خصوصاً أن “إيكاردا” تمكنت من نقل مخزونها من البذور وقسم كبير من أبحاثها إلى خارج هذا المركز قبل أن تدخله الفصائل المسلحة. كما قام المركز بإرسال نسخ من كافة بيانات التسجيل الخاصة ببنك الجينات الزراعية إلى بنك جينات “سفالبارد” في النرويج، وإلى بنوك جينات أخرى حول العالم، فيما تم نقل المقرّ الرئيسي لـ”إيكاردا” من حلب إلى مدينة الرباط في المغرب، كما تم إطلاق بنك “تربل” في لبنان العام 2016، الذي يحوي عشرات الآلاف من البذور، ليكون بديلاً عن البنك الذي كان موجوداً في مركز سوريا.
وذاع صيت القمح السوري عبر وسائل الإعلام العالمية خلال العامين الماضيين، بعدما استعانت الولايات المتحدة الأميركية بالبذور السورية، إثر تضرر محاصيل القمح الأميركية بسبب تأذيها من الحشرات بالإضافة إلى التغيرات المناخية التي شهدتها أميركا، الأمر الذي تمكنت بذور القمح السوري من مقاومته.
ذاع صيت القمح السوري خلال العامين الماضيين، بعدما استعانت الولايات المتحدة بالبذور السورية إثر تضرر محاصيل القمح الأميركية
تحسن تدريجي.. ولكن
بلغ متوسط إنتاج القمح في سوريا، بحسب بيانات رسمية، حوالي أربعة ملايين طن سنوياً قبل العام 2008، وكانت تستهلك سوريا منها نحو 2.5 مليون طن ويتم تصدير الباقي، إلا أن هذا الإنتاج شهد تراجعاً كبيراً خلال فترة الجفاف الحاد التي ضربت البلاد في السنوات الثلاث التي سبقت اندلاع الحرب، والتي تسببت بهجرات داخلية لليد العاملة من القرى والمناطق الزراعية (الشمالية الشرقية بشكل خاص) إلى مراكز المدن بحثاً عن مصادر للرزق، الأمر الذي تم اعتباره أحد أسباب اندلاع الحرب.
ومع استمرار الحرب، تراجع انتاج سوريا للقمح بشكل تدريجي، حيث وصل إلى نحو مليون و850 ألف طن فقط العام 2017، بحسب المكتب المركزي للإحصاء، الأمر الذي دفع سوريا إلى استيراد القمح لتغطية هذه الفجوة، وسط توقعات بارتفاع كميات الإنتاج بشكل تدريجي، بسبب تراجع الأعمال القتالية غداة سيطرة الحكومة السورية على مناطق واسعة، بالإضافة إلى تحسن الأمن وارتفاع مستويات الهطولات المطرية، الأمر الذي من شأنه أن يخفف من عبء الاستيراد، ويعيد القطاع الزراعي إلى الحياة بشكل تدريجي.
منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) ذكرت في تقرير لها في شهر أيلول/سبتمبر من العام الماضي أن الأمطار المواتية في المناطق الزراعية السورية، بجانب التحسن العام في الأمن، عززت من حصاد هذا العام مقارنة بالعام الماضي، مشيرة إلى أن انتاج القمح ارتفع إلى حوالي 2.2 مليون طن متري، مقارنة بـ 1.2 مليون طن العام 2018، كما ازداد إنتاج الشعير بخمسة أضعاف مقارنة بإنتاج عام 2018 ليبلغ مليوني طن متري، متجاوزاً متوسط مستويات الإنتاج التي تم تحقيقها قبل الأزمة بأكثر من 150 في المئة.
رغم ذلك، أشارت المنظمة في تقريرها إلى أن “المزارعين في المناطق الريفية يواجهون العديد من التحديات في الحصول على البذور والأسمدة، وارتفاع تكاليف النقل، ووجود ذخائر غير منفجرة في بعض حقولهم، ومحدودية فرص التسويق”، وتابعت أن “العائدين إلى قراهم يواجهون تحديات كبيرة، ويكافح الكثيرون لإطعام وتعليم أطفالهم”.
خطوة على طريق طويل
يرى مهندس زراعي عمل مع “إيكاردا” خلال حديثه إلى “180” أن عودة المركز للعمل من شأنه أن يساهم بشكل كبير في إعادة تنشيط القطاع الزراعي موضحاً أن ذلك يعتمد على عاملين: الأول يتعلق بالبحوث العلمية وتطوير بذور منتجة ومقاومة، والثاني يتعلق بالإنتاج الزراعي والعملية الزراعية نفسها، والتي تحتاج إلى جهود حكومية كبيرة، تتمثل بتوفير ظروف الإنتاج من بذور وسماد ووقود، إضافة إلى عودة العاملين في هذا القطاع إلى قراهم، وتوفير سبل لتسويق المنتجات، وطرق لنقلها، وغيرها. وتابع أن “عودة إيكاردا للعمل في مركزها ستضمن الشق الأول فقط”.
وعانى محصول القمح في سوريا العام الماضي من بعض الأزمات، كالحرائق المفتعلة التي تعرضت لها بعض المحاصيل، أو استيلاء الأكراد على المحاصيل في مناطق سيطرتهم ومنع وصولها إلى الحكومة السورية، التي تحتكر شراء القمح كونه سلعة استراتيجية، وهي عوامل أثرت بشكل كبير على كميات القمح المنتج.
وإضافة إلى القمح، توجد أنواع عديدة من المزروعات الهامة في سوريا، سواء البقوليات أو الدرنيات، أو القطن، أو الحمضيات والزيتون وأصناف عديدة من الفاكهة وغيرها، والتي تضررت بشكل كبير خلال السنوات الماضية بسبب الحرب، وانقطاع طرق التصريف، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وهي عوامل من المنتظر أن يساهم فتح الطرق الرئيسية في سوريا في تخفيف أثرها، سواء عن طريق زيادة الصادرات وفتح أسواق لتصريف المنتجات، أو تخفيف تكاليف نقلها، أو حتى تأمين المناطق الزراعية وإبعاد شبح الحرب عنها، الأمر الذي يرسم بمجمله صورة موازية لأهمية استعادة الطرق الرئيسية وفتحها سياسياً، وهي تتعلق بأحد أعمدة الاقتصاد السوري، وتدخل في لقمة عيش المواطن، ليبقى كل ذلك مرهوناً بقدرة الحكومة السورية على إعادة تنشيط هذا القطاع.