أطل مقتدى الصدر على المشهد العراقي كوريث لإحدى أهم العائلات الدينية في النجف الاشرف، منطلقاً من تأسيس “جيش المهدي” الذي قال وقتها أنه يهدف إلى “مواجهة الاحتلال الأميركي”، وكان لافتا جدا للإنتباه حمل هذا الشعار، بشكل مبكر، في الحيز الشيعي الذي انعتق لتوه من نظام البعث في العراق.
جرت محاولات عدة لإضعاف الصدر، وبلغت ذروتها مع رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي في العام 2008، في ما أسميت “صولة الفرسان”، وهي حملة عسكرية خاضتها الحكومة ضد ما تم تعريفه في حينها بـ”فرق الموت والإختطاف”، وبينها مجموعات تابعة للتيار الصدري، وأخرى كانت قد بدأت بالإنشقاق عنه، فكان لا بد من خطوةٌ تأديبية للتيّار الصدري، عبر تجميد ـ حل “جيش المهدي”، بوساطة إيرانية غير معلنة، الأمر الذي ساهم في بناء شعبية حليف إيران نوري المالكي، وجاءت الترجمة، بعد سنتين، في نتائج الانتخابات التشريعية في العام 2010.
لم تدم مرحلة التأديب طويلاً. سرعان ما تصالح الصدر والمالكي، بوساطة إيرانية، وكان التتويج باجتماع عقد في بيت آل الصدر في قم، تقرر خلاله تجديد ولاية المالكي مقابل الافراج عن معتقلي التيار الصدري، فضلا عن تلبية مطالب سياسية وتمثيل التيار في الحكومة. بموجب ذلك، كان مقتدى شريكا في تمديد ولاية المالكي في العام 2010، ليشكل الصدريون بعدها جزءا لا يتجزأ من السلطة السياسية، حيث تمثلوا في المناصب الوزارية والعامة. ظل مقتدى الصدر رافعا راية الإصلاح، محاولاً أن يغلب هويته المعارضة، لكن من دون أن ينتهج مسارا تغييراً يؤدي إلى نسف التركيبة السياسية القائمة في البلاد، وهو الذي أراد البقاء على الجانبين؛ في صف المعارضة بحيث يعد نفسه كمدافع عن المهمشين، وفي الوقت عينه في قلب مراكز القوة والسلطة، يستفيد من المنافع مثل الآخرين، ويرصد منظومة المصالح من داخل ماكينة النظام.
في العام 2012، وتحديداً عقب خروج القوات الأميركية من العراق، قام مقتدى الصدر بزيارة مسجد سني إسمه مسجد عبد القادر الكيلاني وسط بغداد وصلى به إلى جانب الإمام السني، في خطوة رمزية للتقارب والمصالحة بين هذين المذهبين الإسلاميين، مما اعتبر تحولا براغماتيا في مواقف مقتدى الصدر وقتذاك. وقد دعا أنصاره بعد العام 2013 إثر خروج مظاهرات في محافظة الأنبار غربي العراق ضد حكومة نوري المالكي، إلى تأييد الاحتجاجات ما دام طابعها سلمياً.
مع دخول “داعش” في صلب المشهد العراقي، إختار تيار مقتدى الصدر أن يكون جزءا لا يتجزأ من قوى مكافحة الإرهاب التكفيري، لكن بتشكيل مستقل عن طهران، أسماه “سرايا السلام”، من دون أن يحرج نفسه بخوض غمار القطيعة مع الإيرانيين، وقد ظل هذا المنحى الاستقلالي والاحتجاجي يترجم في كل المناسبات، على الساحة السياسية، حتى كان الموقف الابرز في العام 2016، عندما اقتحم الآلاف من المتظاهرين التابعين للتيار الصدري الحي الحكومي في المنطقة الخضراء، واحتلوا بناية البرلمان على مدى ثلاثة أيام رافعين شعار “السلطة للشعب”، ثم غادروا مهددين “سنأتي من جديد”.
هذه سمة تميز التيار الصدري الذي يعتبر الأقرب إلى نبض الشارع، وفي الوقت نفسه الأكثر إستقلالية عن كل القوى الخارجية.. لكنه ـ وبنزعته الاستقلالية هذه ـ وَسم حركيته بفرادة غير معهودة. تارة يزور إيران. وأخرى يزور السعودية
وفي العام 2018، خاض التيار الصدري الانتخابات البرلمانية، وحاز ائتلاف “سائرون” بقيادة مقتدى الصدر على المرتبة الاولى في الانتخابات العراقية الاخيرة، مبقياً على الصبغة الاحتجاجية التي طبعت حركته السياسية. صبغةٌ أراد من خلالها أن يظهر بموقف القادر على إلتقاط هموم الناس، وهذه سمة تميز التيار الصدري الذي يعتبر الأقرب إلى نبض الشارع، وفي الوقت نفسه الأكثر إستقلالية عن كل القوى الخارجية.. لكنه ـ وبنزعته الاستقلالية هذه ـ وَسم حركيته بفرادة غير معهودة. تارة يزور إيران. وأخرى يزور السعودية. تارةً يصف الميليشيات الإيرانية المدعومة من إيران في العراق “بالميليشيات الوقحة”، ثم يعلن لاحقاً ان المقصود بـ”الوقحة” تلك الميليشيات التي تورطت بعمليات قتل واغتيالات.
المرحلة الثالثة من حركة مقتدى الصدر برزت في مواقفه ومسيرته خلال الانتفاضة العراقية الأخيرة. هنا، انتقل السيد الصدر في البداية من المحطة الاحتجاجية إلى تلك التي تطالب بالتغيير الكلي للتركيبة السياسية “شلع قلع”؛ كما يقول. وقد إتهم يومها بأنه استغل المظاهرات لمواجهة خصومه، بمن فيهم مهدي العامري النائب والقيادي في قوات الحشد الشعبي، برغم انه كان قد قال أنه لن يركب موجة التظاهرات:”لن آمر بها ولم أنهى عنها. فهي إرادة شعب أكبر مني ومن الجميع”. لكنه، في الواقع، تصرف كأكثر من آمرٍ وناهٍ. صحيحٌ أنه حاول أن يلبس ثوب المرشد والناصح، وثوب المتناغم مع المرجعية الدينية، لكنه أثبت أنه الأكثر مونة وقدرة على التنظيم والحشد في الحراك، على الرغم من أن بعض الجماعات الشبابية في الحراك كانت واضحة في مطالبها بأن لا للسياسيين ولا للمعممين..
غداة مقتل قائد لواء القدس في الحرس الثوري الايراني الجنرال قاسم سليماني على أرض العراق، كان على من قاوم الجيش الأمريكي سابقاً ومن لا يتردد في إشهار مقاومته للمحتل الإسرائيلي أن يتقدم الصفوف. هاتان النقطتان ثابتتان في أدبيات الصدريين. أخرج مقتدى الصدر مليونية تطالب بطرد المحتل، ثم إنقلب فجأة على الحراك، فقبل بالتسوية السياسية التي جاءت بمحمد علاوي رئيسا جديدا للوزراء، وهو رئيس مجرب في وزارتين سابقاً، ولم يأت من خلال استفتاء شعبي، كما كان قد دعا إليه الصدر، بعد تبنيه مطلب إستقالة عادل عبد المهدي والدعوة لإجراء إنتخابات نيابية مبكرة.
هكذا تمايز أتباع الصدر عن الحراك بإعتمارهم “القبعات الزرق”. هؤلاء أنفسهم اشتبكوا مع المتظاهرين في النجف بعد أن كان الصدر قد طالب “الزرق” بمساندة القوى الأمنية في عملية فتح الطرقات، الأمر الذي أسفر عن سقوط ما يقارب 11 شهيداً. بعد خطبة السيد السيستاني التي دعا فيها إلى حماية المتظاهرين، اجتمع مستشار الصدر أبو دعاء العيساوي مع متظاهرين، وقدم عدة تعهدات، منها سحب “القبعات الزرق”، قبل ان يعلن الصدر ذلك صراحة، ثم يقر “ميثاق ثورة الإصلاح”، لا ثورة التغيير! وقد أتت الوثيقة مؤلفة من 18 بندا، كان من أبرز ما فيها الحفاظ على سلمية المظاهرات وعدم تسييسها، اعلان البراءة من المندسين والمخربين، توحيد المطالب وكتابتها بصورة موحدة لجميع مظاهرات العراق، العمل على إيجاد ناطق رسمي للمظاهرات، عدم اختلاط الجنسين في خيم الاعتصام، انسحاب القبعات الزرق وتسليم امر حماية المتظاهرين والخيم للقوات الأمنية، والالتزام بتوجيهات المرجعية.
بدت الوثيقة التي أكدت على خيار الإصلاح وكأنها بمثابة إعلان عن تراجع الصدر عن انعطافته، وحرصه على التماشي مع موقف المرجعية. وهذا خيار تعززه تغريدة مقتدى الصدر الأخيرة التي هدد فيها بإسقاط رئيس الوزراء المكلف محمد علاوي في حال ضمت تشكيلته الحكومية المرتقبة شخصيات حزبية، وقال “نسمع بضغوطات حزبية وطائفية لتشكيل الحكومة المؤقتة فهذا يعني ازدياد عدم قناعتنا بها بل قد يؤدي إلى إعلان التبرؤ منها شلع قلع فبعد أن اضطررنا للسكوت عنها، فإننا لا زلنا من المطالبين بالإصلاح”. كما قرر إعادة صياغة علاقة إيجابية بالحراك “على الرغم من وجود خروقات من بعض المخربين ودعاة العنف.. وأملي بالثوار أنهم سيعملون على إقضاء هؤلاء بصورة تدريجية وسلمية”، ليعلن عن حل “القبعات الزرق”، المجموعات الصدرية التي كانت وظيفتها منذ تشرين الأول/أكتوبر، حماية الحراك، بتكليف من مقتدى الصدر.
يريد مقتدى الصدر أن تفوز أوراقه، وهذا حقه الطبيعي. لذلك هو في صفوف المتظاهرين. يريد أن يحفظ لنفسه مكانة قوية في التركيبة السياسية وتحديدا في الحكومة الجديدة، وبما يحمي شعبيته، إستعداداً للإنتخابات النيابية المبكرة. أن يظل على علاقة جيدة بالمرجعية. أن يتمسك بخياره المقاوم الرفض للوجود الأميركي على أرض العراق. وهو إضافة إلى كل هذا يحرص على تقديم نفسه زعيما منفتحا على كل المكونات السياسية ومن أبرز المُطالبين بعراق عربي موحد للجميع.
(هل سيعتذر علاوي عن تشكيل الحكومة؟ https://180post.com/archives/8405 )