سوناطراك تبتز لبنان: العقد أو الظلام

علي نورعلي نور20/05/2020
ما زال ملف شركة سوناطراك يتفاعل مع حلوله على طاولة مجلس الوزراء اللبناني من بوّابة الكتاب الذي وجّهه وزير الطاقة ريمون غجر إلى رئيس الحكومة حسان دياب، والذي يتحدّث عن تهديد من شركة سوناطراك بالتوقّف عن تزويد لبنان بمادتي الفيول والغاز أويل في حال عدم الإلتزام بما تعتبره الشركة شروطا تعاقديّة تحكم علاقتها بالدولة اللبنانية. في الواقع، يمكن لمن يقرأ العقد الموقّع بين سوناطراك والدولة اللبنانيّة أن يكتشف أنّ ما تقوله الشركة لا ينطلق من فراغ، بل من إستغلال مُحكم لثغرات موجودة في العقد نفسه.

تريّثت شركة سوناطراك خلال المرحلة الماضية لتلتقط أنفسها إثر فضيحة الفيول المغشوش التي ضجّت بها البلاد، حيث ركّزت إعلاميّاً على رغبتها بتسوية الخلاف بشكل فعلي ونهائي، وتوقّعها حصول ذلك قريباً نظراً “للعلاقات المتميّزة التي تربط الطرفين”. هذه النبرة الإيجابيّة، ترافقت دائماً مع تأكيد الشركة على إحترام إلتزاماتها التعاقديّة مع لبنان، في كل ما يتعلّق بتموين لبنان لصالح مؤسسة كهرباء لبنان.

لكن يبدو أنّ الشركة تمكّنت أخيراً من إستيعاب الخضّة التي أثارتها الفضيحة، وعادت إلى موقع المبادر مجدداً بعد أن رتّبت أوراقها القانونيّة والتقنيّة جيّداً، وبدأت بمحاولة رمي كرة المسؤوليّة في ملعب الحكومة. فبحسب الكتاب الذي وجّهه وزير الطاقة إلى رئيس الحكومة، والذي ناقشة مجلس الوزراء اللبناني، أمس، أرسلت الشركة كتابا إرتكز إلى “الشروط التعاقديّة” التي تحكم علاقتها بالدولة اللبنانيّة، مطالبةً بإعتبارها مسؤولة حصراً عن نتائج الفحوصات التي تجري لشحنات الفيول في مرفأ التحميل، أي مرفأ الدولة الأجنبيّة قبل الشحن. وبالتالي، فالمخاطر تنتقل في هذه الحالة إلى الطرف الشاري، أي الدولة اللبنانيّة، فور عبور البضاعة للأنابيب التي تنقلها إلى الناقلة البحريّة.

وعلى ما يبدو، إنطوى الكتاب على ثقة كبيرة بالنفس من طرف الشركة، التي هددت – بحسب إحالة وزير الطاقة والمياه – بإمكان التوقّف عن تزويد لبنان بشحنات الفيول والغاز أويل في حال عدم موافقة الدولة على تنفيذ الشروط التعاقديّة، مع كل ما يعنيه ذلك من إبتزاز بإنقطاع الكهرباء وتعميم الظلام.

“أبلغتنا”.. “وفق شروطنا”!

وعمليّاً، وبمعزل عن قسوة هذا الإبتزاز، فإنّ هذه النبرة بحد ذاتها تؤشّر إلى طبيعة الحجج التي ستستعملها الشركة خلال الفترة المقبلة للدفاع عن نفسها في وجه الإتهامات المتعلّقة بالفيول المغشوش ونتائج الفحوصات المزوّرة. وهذا أهم ما في الأمر.

فجوهر الخلاف الحالي مع شركة سوناطراك، يتركّز تحديداً حول نتائج الفحوصات التي أجرتها بالمقارنة مع نتائج الفحوصات التي أجرتها الشركات المشغّلة لبواخر الكهرباء والمحرّكات العكسيّة عند إستلام الشحنات، والتي أثبتت عدم مطابقة الفيول المستورد للمواصفات. بينما كانت الفحوصات التي أجرتها سوناطراك قبل الشحن من مرفأ التحميل، والفحوصات التي أجرتها كل من الدولة وسوناطراك بعد الشحن، تشير إلى أن الفيول المستورد مطابق للمواصفات المطلوبة!

وهكذا، وبينما تتركّز التحقيقات حول شبهات التزوير في نتائج الفحوصات من قبل الشركة وبعض المسؤولين عن إستلام الشحنات في منشآت النفط، يبدو أنّ الشركة سترتكز على بعض بنود العقد الموقّع مع الدولة اللبنانيّة لرفع المسؤوليّة عنها، بإعتبار أن مسؤوليّتها تنتهي بعد إجرائها للفحوصات في مرفأ التحميل الأجنبيّة وإنتقال الشحنة عبر الأنابيب إلى الناقلة البحريّة.

في المحصّلة، وافق مجلس الوزراء على متابعة العمل بالعقد الموقّع مع سوناطراك حتّى إنتهاء صلاحيّاته في نهاية السنة الحالية، فيما أحال مسألة الشروط التعاقديّة التي أشارت إليها الشركة إلى هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل لأخذ رأيها، قبل متابعة البحث في الموضوع في جلسة مقبلة للحكومة اللبنانية.

مع العلم أن وزير الطاقة والمياه أشار إلى أنّ سوناطراك “أبلغتنا” أنها مستعدة للإستمرار في إرسال الفيول “وفق شروطنا”، وهو ما يناقض الكتاب الذي وجهه إلى رئيس الحكومة أوّلاً، كما يناقض ما تشير إليه الشركة من بنود في العقد تصب لصالحها، وترفع عنها مسؤوليّة الفيول بعد نقله من مرفأ التحميل. ولم يشر وزير الطاقة إلى طبيعة “التبليغ” الذي يشير إليه، ولا إلى الموجبات القانونيّة التي ستترّتب على الشركة بنتيجته، خصوصاً أن الشركة تستند في كلامها إلى شروط مكتوبة في عقد موقّع، ويستلزم تعديلها ملحق آخر لهذا العقد يوقّعه جميع الأطراف المعنيين به.

ثغرات العقد

الشركة لا تنطلق في حديثها عن حدود مسؤوليّتها من فراغ، بل من العقد نفسه. إذ يمكن لمراجعة لنسخة العقد التي سرّبها تلفزيون لبنان أن تكشف أن ثمّة بنود تؤكّد أن النوعيّة يتم تحديدها “عند مرفأ التحميل من قبل مراقب مستقل مقبول من الفريقين”، كما أن “الكمية والنوعيّة المحددتين أعلاه ملزمتان ونهائيتان لكلا الفريقين”. وبالتالي، فعندما تقول الشركة أنّ مسؤوليّتها تنتهي عند نقل الشحنة إلى الناقلة البحريّة، فهي تستند بذلك إلى هذه البنود تحديداً، والتي تحمي الشركة وتلقي بالمسؤوليّة بعد هذه المرحلة إلى الدولة اللبنانيّة. أمّا مخاطر هذا البند، فتتلخّص ببساطة في إمكانيّة حصول تلاعب في العيّنات التي يتم أخذها من الشحنة في مرفأ التحميل، بهدف تزوير نتيجة الفحوصات، وهو تحديداً ما تشير إليه التحقيقات الحاليّة، وهذا يحيل المهتمين إلى أن المشكلة بدأت مع إبرام هذا العقد الذي جعل الدولة اللبنانية شاهد زور منذ 15 سنة، تاريخ توقيع العقد مع شركة صوناتراك (اوف شور) وليس مع الشركة نفسها في الجزائر.

أهم ما في الإخبار هو محاولته الإشارة إلى دور الوزراء المتعاقبين في التغاضي عن المخالفات التي جرت في سياق تنفيذ العقد، والإهمال المقصود لكل الإشارات التي كانت تدل على وجود أعمال الغش والتزوير

وجود هذه الثغرات لا يعني أنّ الشركة ستكون بمنأى عن أية تبعات قانونيّة في المرحلة المقبلة، بل تعني أن موقع الشركة سيكون أقوى من الناحية القانونيّة دون أن تتمكّن من التملّص كليّاً من مسؤوليّاتها. فالقول بأن نتائج التحليلات التي يجريها المراقب المستقل ملزمة للطرفين، يفترض بشكل طبيعي عدم وجود سوء نيّة أو أعمال تزوير وتلاعب في العيّنات التي يتم إرسالها إلى المراقب. أمّا التحقيقات الحاليّة، فتتركّز بشكل أساسي على وجود عامل التزوير والتلاعب في العيّنات، وهو ما يناقض مبدأ حسن النيّة في تنفيذ العقود التجاريّة.

إقرأ على موقع 180  التعليم عن بعد لبنانياً.. البيت ليس آمناً

لكن بمعزل عن مسؤوليّة الشركة في ما يتعلّق بالتحقيقات القائمة حاليّاً، من المستبعد أن تتكرّر خلال الأشهر القادمة، وحتّى نفاذ مدّة العقد، حوادث التزوير والتلاعب بالعيّنات (مبدئياً ولو أنه في لبنان يمكن أن يتكرر التزوير)، خصوصاً ان جميع القيّمين على تنفيذ العقد الموقّع باتوا على علم بوجود رقابة مشددة على شحنات الفيول من قبل الشركات المتعهّدة بتشغيل المحركات العكسية والبواخر. كما أن تزوير نتائج الفحوصات في منشآت النفط اللبنانيّة، بعد وصول الشحنات، باتت عمليّة في غاية الصعوبة اليوم بعد إعتقال جميع المتورّطين في الأنشطة المشتبه فيها.

إخبار جديد

بالتوازي مع جلسة المجلس الوزراء، قفز تطوّر جديد في الملف، تمثّل في الإخبار الذي قدّمه المهندس يحيى مولود مع المحاميين ليال صقر ونديم سعيد إلى النائب التمييزي، والمتعلّق بهدر المال العام الناتج عن توقيع وتنفيذ العقد الموقّع مع شركة سوناطراك. عمليّاً، حاول الإخبار الجديد توسيع رقعة الإتهام لتطال المسؤولين عن صياغة وتوقيع وتجديد العقد، فضلاً عن الجهات التي قامت بأعمال التلاعب والتزوير، وهذه النقطة تحديداً هي ما يميّز هذا الإخبار عن الإخبار الذي قدّمه سابقاً الناشط في التيار الوطني الحر المحامي وديع عقل.

الإخبار ركّز على بعض النقاط التي تتعلّق بإحتواء العقد على بنود تضمن سريّته، بالإضافة إلى بعض ممارسات “متولّي المسؤوليّة في هذا الملف” الذين لم يمارسوا خلال السنوات الماضية حق الدولة في رفض شحنات الفيول غير المطابقة للموصفات. ولعلّ الحديث هنا يطال تحديداً الوزراء المتعاقبين على وزارة الطاقة والمياه، الذين حددهم الإخبار لاحقاً كمرتكبين لهذه الجرائم مع أعضاء مجالس الوزراء (أي كل الحكومات التي تعاقبت منذ العام 2005 حتى يومنا هذا).

في الواقع، يمكن القول أن هذا الإخبار يصب في إطار الفعل الرمزي، خصوصاً أن يحيى مولود، وهو المدير المسؤول في الشركة المتعهدة بتشغيل المحركات العكسيّة، قدّم كل ما لديه من معطيات خلال التحقيقات التي جرت في ملف الفيول المغشوش. ومن غير المتوقّع بالتأكيد أن يبادر النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات إلى فتح مسار قضائي موازي للمسار القائم حاليّاً. لكنّ أهم ما في الإخبار هو محاولته الإشارة إلى دور الوزراء المتعاقبين في التغاضي عن المخالفات التي جرت في سياق تنفيذ العقد، والإهمال المقصود لكل الإشارات التي كانت تدل على وجود أعمال الغش والتزوير، حتى أن هناك من يشير إلى أنه في زمن حكومة تمام سلام (2014 ـ 2016) أثير ملف الفيول غير المطابق للمواصفات، لكن جرى إقفاله نهائياً، بقوة دفع تولاها وزيران يمثلان تفاهم مار مخايل في حكومة سلام.

في كل الحالات، من المستبعد أن تبادر الدولة خلال الفترة القادمة إلى فسخ العقد مع صوناتراك قبل إنتهاء مدّة نفاذه (نهاية 2020)، لعدم وجود بديل حاضر، ولحاجة الدولة إلى فترة زمنيّة من التحضيرات لإنجاز مناقصة وتوقيع عقود جديدة مع شركة جديدة. ولذلك، وبإستثناء المسار القضائي القائم حاليّاً مع الموقوفين قيد التحقيق في قضايا التزوير، من المتوقّع أن يطوى ملف العقد الموقّع مع سوناطراك، على أمل أن يتعلّم المعنيّون الدروس المطلوبة قبل توقيع العقود الجديدة عند إنتهاء صلاحيّة العقد الحالي عند نهاية هذه السنة.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "لعبة الأمم" تطوي قضية الحريري.. القتلة مجهولون!