قد تكون شخصية رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب من أكثر الشخصيات التي تحيّر دارسي “علم الخطاب”، بالنظر إلى صعوبة تفكيك شيفرة أيّ كلامٍ أو سلوكٍ أو نظرةٍ أو حتى بسمةٍ أو عبسةٍ تصدر عن الرجل. فكلّ ذلك يُعتبَر، المفردات التي تُكتَب بها لغةُ جسد أيّ كائنٍ بشري، ويبحث عنها، في أيّ عمليةٍ اتصالية، المتلقّي الذي يكاد يسهو، أثناء محاولته التقاط أيّ إشارة، عن محتوى ما يقوله رئيس حكومة لبنان. باردٌ، جامدٌ، متحفّظٌ، وكأنّه غير مبالٍ بما يفكّر به الآخرون (حتى ولو كان العكس تماماً)، هكذا بدا لنا عندما ظهر علينا الرئيس دياب، وهو يتلو بيانه التاريخي (كما مهَّدت له التوصيفات) عقب جلسة حكومته المنتظَرة، في الداخل وبعض الخارج. وعلى الرغم من تأكيده قبل فترة، وبثقةٍ زائدة، أنّ لبنان “لن يتخلّف في عهده” عن سداد سندات اليوروبوند، إلاّ أنّه أعلن منذ ساعات، وبالفم الملآن، قراراً بإبقاء ما قيمته 1.2 مليار دولار من سندات اليوروبوند في خزينة مصرف لبنان (أي أقل بمئة مليون دولار من قيمة واردات الأدوية إلى لبنان في سنة واحدة).
مَن ينصت لكلام دياب، الذي يحمل من التعميم أكثر ممّا يحمل من الديماغوجيّة، يدرك فوراً مَن هو المنادى المقصود بالنداء؛ إذْ، ومن الدقائق الأولى لبيانه، كان واضحاً أنّ دياب يتوجّه بالكلام، بالدرجة الأولى، إلى “الإنتفاضة” (لم يستخدم كلمة حراك هذه المرّة)، وكأنّه يبرّر قراره بأنّه يأتي استجابةً للصرخات التي دوّت في 17 تشرين الأول/أكتوبر، وليس للدائنين أو المصارف، أو حتى السياسيّين. فبعد استعراضه لواقع حال البلد المقيت الذي فاقت بشاعته كلّ تصور واحتمال، مكرّراً ما قاله في أكثر من محطة، طمأن الرئيس دياب الناس، التي استبقت القرار باعتصاماتٍ متنقّلة، بأنّه باقٍ على العهد، وسيكون وفيّاً للوعود التي قطعها في جلسة نيل حكومته الثقة. ومن ثمّ صوّب سهامه، تصريحاً لا تلميحاً، على تاريخ أسلافه وخصومه الناضح بالفساد، والذي تدرَّج في التمظهر في كلّ زاوية من هيكل الدولة، من “الخجل إلى الجرأة ومن ثمّ إلى الوقاحة لينتهي بمرحلة الفجور”. ومن المنصّة التي وقف عليها قبالة وزرائه، خاطب رئيس حكومة لبنان “الخارج”، هذه المرّة، مطمئناً المانحين الغاضبين من إدارة الدولة اللبنانية (أو بالأحرى لاإدارة الدولة)، بأنّه ماضٍ على النهج “السيدري”، ولن يحيد عنه مهما بلغت الصعاب.
الكلّ كان موقناً أنّ الرئيس دياب سيعلن ما أعلنه، فلماذا تأخّر صدور القرار، إذن، طالما هو “السبيل الوحيد لوقف الاستنزاف وحماية المصلحة العامّة”؟ هناك أكثر من احتمال:
ربّما، تمهّل بانتظار قدوم الإستشاريّين الدوليّين إلى البلد لتوفير التغطية التقنية والقانونية للقرار حيال الدائنين (أجانب ولبنانيين)؛ وربّما لأملٍ في نفس يعقوب بإمكانية أن يتراجع الممسكون بقرار حكومته، وفي اللحظات الأخيرة، عن إصرارهم بعدم الدفع؛ وربّما، أيضاً، خوفاً من خيار سيكون سابقة في تاريخ البلد وسيفتح عليه أبواب جهنم المصارف بكلّ عدَّتها للهجوم؛ وربّما، ببساطة، لإضفاء مزيدٍ من الـ suspens على خطوته التي اعتبرها جولة في “معركة الإستقلال الجديد للبنان”. وماذا من المحتمل أن يحصل بعد هذا القرار؟
أكثر من سيناريو يروّج لها كلّ طرف من الأطراف، على طريقته؛ ثناءً من الراضين عن القرار وصانعيه، وتهويلاً من المعارضين لدخول لبنان مرحلة عدم سداد ديونه، أبرزها الآتي:
أولاً، طرْح بدائل تتمثّل، تحديداً، بطلب الحكومة اللبنانية التفاوض مع الدائنين حول برنامج لإعادة هيكلة ديون لبنان وفق صيغة جديدة عن طريق إعادة النظر في مواعيد استحقاقات باقي الديون (على أمل أن يحظى هذا البرنامج بمباركة صندوق النقد الدولي).
ثانياً، محاولة المستطاع لعدم التصادم مع المؤسسات المالية والنقدية الدولية، خصوصاً مع احتمال تقديم الدائنين (ولا سيما الأجانب) دعاوى ضد الدولة اللبنانية، التي سبق وتنازلت في عقود اليوروبوند عن سيادتها القانونية وسمحت بالاحتكام إلى محاكم أجنبية.
ثالثاً، بدء الدائنين، ومن ضمنهم عددٌ كبير من المسؤولين المصرفيّين والمستفيدين من المصارف، حملةً مستميتة على أكثر من مستوى، ولا سيما من خلال بعض الأبواق الإعلامية الموالية، لتسليم الملف الاقتصادي والمالي إلى صندوق النقد الدولي. إذْ ترى فيه الطبقة السياسية اللبنانية، ولا سيّما رجال الصفّ الأول فيها، خشبة خلاصها، خصوصاً أنّ الجهات المصرفية كانت قد قرأت “المندل”، واستشرفت ارتداداتٍ كارثية على لبنان في حال تخلُّفه عن سداد دينه.
رابعاً، أن يعلو الضجيج، أكثر فأكثر، في أوساط السلطة الحاكمة، وفي كلّ الاتجاهات، يميناً ويساراً صعوداً وهبوطاً، وأن تستعر حفلة التصريحات والاتهامات والاجتهادات حول مدى صوابية أو عدم صوابية قرار الحكومة، الذي سيسيء حتماً، باعتقادهم، لسمعة لبنان الدوليّة وعلاقاته الماليّة مع الخارج. وسترافقنا معزوفة فريق رئيس الجمهورية إيّاها مع اللازمة الممجوجة “هذا ما أوصلتنا إليه ثلاثون سنة من سوء الإدارة السياسية والاقتصادية والمالية ونحن منها براء”.
خامساً، طرْح سلّة متكاملة من الإجراءات الاقتصادية والنقدية ستُتخذ لمواجهة الأزمة بجوانبها المختلفة وإجراء الإصلاحات اللازمة، في مقدّمها وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، ووقف النزيف المالي، وتطوير وتقليص القطاع المصرفي كما وعد دياب (يساوي هذا القطاع اليوم أربعة أضعاف حجم اقتصاد لبنان).
وماذا عن ردّة فعل الناس والثوار في الشارع؟ بالتأكيد، كلّهم كانوا يصغون جيداً لكلام رئيس الحكومة مع الشعور بالقلق إيّاه، حيال الفرص الضائعة التي يبعثرها حكّام لبنان، عمْداً أو استهتاراً، وآخر هذه الفرص يستحقّ يوم الإثنين المقبل. فحكومة حسان دياب لم تفعل شيئاً، وهي فشلت، كما يقولون، والدليل أنّ الإنهيار قد حصل والحصار قد وقع، فعادت الاحتجاجات لتتصدّر المشهد، رداً على سوء الأوضاع المعيشية وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وتضاعف البطالة والغشّ والكذب، حتى، في التعامل مع صحة الناس وآخرها فضيحة انتشار الكورونا. أفواج الغاضبين من ثوار عكار وطرابلس والبقاع والجنوب والشوف وبيروت، يُعِدّون للمرحلة الثانية من الانتفاضة، بعدما تكاملت مؤشرات تفجّرها تحت عنوان كاسح هذه المرّة: الجوع.
“بئس هذا الموقف”، ربّما هذا ما همس به، في سرّه، رئيس الحكومة حسان دياب؛ هو الذي شكا وبكى، قبل أيام قليلة، مفصِحاً في زمن الإنهيار المالي، أنّه اختار حمْل كرة النار والسير بها على طريق الجلجلة المزروعة باستحقاقات مُضطرٌّ لمواجهتها، وأبرزها خطة للإنقاذ كان قد سمّى حكومته تيمّناً بها (حكومة إنقاذية). هو يقول، بلا ريب، ماذا عساي أفعل بإرث كلّ هذه الحكومات الكرتونية المتعاقبة، وفي ظلّ نظامٍ يُمضي السواد الأعظم من أركانه وقتهم في المراهنات في بورصة السمسرة والبيع والشراء. هكذا هي السياسة، يا دولة الرئيس، إنّها شقٌّ للطريق بين الجثث. إقتضى التذكير.
(*) أستاذة في الجامعة اللبنانية