صين ما بعد كورونا: طموحة، صريحة في إدعاء الريادة (2)

خصصت مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) عددها الصادر في تموز/يوليو – آب/أغسطس 2021 للملف الصيني، من زوايا عديدة، لا سيما العقبات التي تعترض الصين في أن تستمر في تحقيق نجاحات مستمرة. في هذا الجزء الثاني من هذا الملف، يؤكد الصينيون إصرارهم على أن نظامهم ليس نموذجاً قابلاً للتصدير بل سيبقى نموذجاً للصين الدولة النامية "ذات الخصائص الصينية".

في آذار (مارس) الماضي، تصدّر كبير الدبلوماسيين الصينيين، يانغ جيتشي، عناوين الصحف بسبب كلام أسمعه لمسؤولين أميركيين خلال قمة عُقدت في ألاسكا بأنهم (الأميركيون) “ليس لديهم المؤهلات اللازمة للتحدث مع الصين من موقع قوة”. وحتى لو جاءت هذه الملاحظة عقب سنوات من التوتر المتصاعد بين واشنطن وبكين، إلا أنها بدت ملاحظة قاسية بشكل استثنائي، لا سيما وأنها صادرة عن دبلوماسي مُتّمرس. كما أن الإطار الذي جاءت فيه هذه الملاحظة أيضاً جدير بالملاحظة: يانغ كان يتحدث في أول اجتماع دبلوماسي رفيع المستوى يُعقد بين الصين والولايات المتحدة، بعد دخول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض. لقد بدا حديث يانغ وكأنه تحذيرٌ لا لبس فيه للإدارة الأميركية الجديدة.

على الصعيد المحلي، ضجَّت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات على ما قاله يانغ، ولقي صدى إيجابياً واسعاً. فقد عبر العديد من الصينيين بأن بلادهم صار لها صوت على الساحة العالمية. أما وسائل الإعلام الدولية فقد قرأت ما قاله يانغ على أنه انعكاس لـ”صين ما بعد جائحة كورونا”: طموحة، وصريحة في إدعائها للريادة العالمية.

في الواقع، يعكس تصريح يانغ نقلة نوعية بدأت تتقدم في بكين: تعتقد الصين أن صعودها كقوة عظمى يخولها أن تلعب دوراً جديداً في إدارة شؤون العالم وقضاياه – دورٌ لا يمكن التوفيق بينه وبين الهيمنة الأميركية المطلقة. كانت بكين قد وضعت آمالاً في البداية بأن إدارة بايدن ستعمل على تخفيف التوترات معها. لكن هذه الآمال تحطمت. وبدلاً من ذلك، فإنها تنظر إلى محاولات بايدن لعزلها دبلوماسياً على أنها تهديد خطير، ولذلك هي تعمل الآن على عدة جبهات حتى تكون أقل عرضة لأي عدوان أو ضغط أميركي.

الثقة بالنفس الجديدة هذه التي تبديها بكين لا تعني أنها ستتحدى واشنطن في كل المجالات. هي ترفض قيادة الولايات المتحدة في بعض القضايا، ولكن كدولة نامية، فإنها ستحصر المنافسة في المجالات التي تشعر فيها أن لديها أفضلية ومميزات، مثل مكافحة فيروس كورونا، والحدّ من الفقر، التجارة، والبنية التحتية الدولية والتنمية، والدفع الرقمي، وتقنيات 5G .. وهناك العديد من الحقائق والأشياء الأخرى. ومع ذلك، وفي جميع المجالات، فإن الصين ما بعد جائحة كورونا ستجعل صوتها مسموعاً بتصميم أكبر من ذي قبل وسترد بقوة ضد أي محاولة لاحتوائها.

هوية الصين المزدوجة

أن تكون “أكبر دولة نامية” في العالم (لقب شائع في بكين) فهذا كان يعني ذات مرة بأن قدرات الصين قد تفوقت على نظرائها المباشرين. أما في الوقت الحاضر، فهذا يعني أن قوة البلاد تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. ولنتأمل هنا التناقض الحادّ بين النجاح الصيني والفشل الأميركي في مكافحة فيروسCOVID-19: خلال الجائحة، كان ما عانته الصين الأقل بين كل القوى الكبرى، وهي الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي نما خلال العام الماضي. بحلول نهاية عام 2020، وصل ناتجها المحلي الإجمالي إلى 71 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، بعدما كان 66 في المائة في عام 2019، في وقت يقول صانعو السياسة الصينيون إنهم على ثقة تامة بأنهم سيغلقون الفجوة المتبقية خلال العقد المقبل. ويرى هؤلاء أن الصين قد مرت بمراحل النهضة والثراء، وهي تتقدم الآن إلى مرحلة أن تصبح دولة قوية. النظام أحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة يتلاشى، والذي يساهم في تعجيل زواله هو النهضة التي تشهدها الصين أمام الإنحدار النسبي الذي تعاني منه الولايات المتحدة. وسيحل مكانه نظامٌ متعدد الأقطاب، وستكون العلاقات الأميركية – الصينية في صلب هذا النظام.

شي جين بينغ: الصين تنتمي إلى أسرة البلدان النامية إلى الأبد

حتى وقت قريب، كانت بكين تنظر إلى هذا التحول، الذي يحدث للمرة الأولى خلال قرن، بتفاؤل لا تشوبه شائبة، وتتوقع “مستقبلاً مشرقاً لتجديد الأمة الصينية”. لقد دفعت الاضطرابات التي سادت خلال عهد حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالمسؤولين الصينيين إلى التقليل من حماستهم، خاصة قرار واشنطن في عام 2017 الذي وصف الصين بأنها “منافس إستراتيجي”. تتصف أحدث خطة خمسية للصين بنبرة أكثر رصانة: فهي تشمل فرصاً متعددة في مجالات التكنولوجيا والتنمية، وتحذر من عدم الإستقرار الذي تغذيه “الأحادية والحمائية والهيمنة”. ومع ذلك، فإن النتيجة النهائية، في نظر بكين، لا تزال كما هي: لقد أصبحت الصين قوة عالمية يمكنها أن تتعامل مع بقية قوى العالم على قدم المساواة.

لا يزال الإنتشار العالمي للصين محدوداً. فعلى الرغم من كونها قوة عظمى، تعتبر الصين نفسها أيضاً دولة نامية – وهي محقة في ذلك، بالنظر إلى أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الذي لا يزال دون مستوى نظيره في الاقتصادات المتقدمة. (يقدر صندوق النقد الدولي نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في الصين لعام 2020 عند 10484 دولاراً فقط، مقارنة بـ 40146 دولاراً لليابان، و 45733 دولاراً لألمانيا، و 63416 دولاراً للولايات المتحدة). كما تشير تسمية “الدولة النامية” إلى الاصطفاف الجيوسياسي للصين: فحتى إذا لحقت بالغرب اقتصادياً، فإن التفكير السائد هو أن ولاءاتها ستظل راسخة مع العالم النامي – بل إنها، كما قال الرئيس الصيني شي جين بينغ في خطاب ألقاه في عام 2018، “تنتمي إلى أسرة البلدان النامية إلى الأبد”.

هذه الهوية المزدوجة ستلوّن كافة جوانب السياسة الخارجية للصين في مرحلة ما بعد جائحة كورونا. كدولة نامية، لا تزال الصين تفتقر إلى الموارد المطلوبة لكي تصبح قائداً عالمياً حقيقياً، يتولى مسؤوليات على مستوى العالم، خصوصاً في المجال العسكري. لكنها، كقوة عظمى، لن تحذو حذو قيادة الولايات المتحدة، وفي بعض القضايا، ستكون المنافسة مع واشنطن حتمية.

خذ على سبيل المثال قضية التنافس الأيديولوجي. فمن ناحية، تحرص الصين على عدم تأطير العلاقات مع الغرب على أنها حرب باردة جديدة: يعتقد القادة في بكين أن التوسع على نمط الإيديولوجيا السوفيتية يمكن أن يؤدي إلى رد فعل عنيف قد يعيق النمو المستمر لبلادهم، كما أنهم لا يتوقعون أن تحظى أيديولوجيتهم بشعبية مثل شعبية الليبرالية الغربية اليوم – ومن هنا إصرارهم على أن الصين دولة نامية “ذات خصائص صينية”، وهي عبارة تعني ضمناً أن النظام السياسي للصين ونموذج إدارتها لا يمكن تصديرهما إلى بلدان أخرى بكل بساطة.

إقرأ على موقع 180  حقائق روسية.. في ميدان التجربة الأوكرانية

من ناحية أخرى، ستحاول الصين تشكيل بيئة أيديولوجية مواتية لصعودها، معارضة فكرة أن القيم السياسية الغربية لها صلاحية وجاذبية عالمية. فعلى سبيل المثال، تُعبر الولايات المتحدة عن الديموقراطية والحرية في إطار مصطلحات مثل الانتخابات السياسية وحرية الفرد في التعبير، في حين أن الصين تعبر عنهما من خلال توفير الضمان الاجتماعي للأفراد وتحقيق التنمية الاقتصادية. سيتعين على واشنطن قبول هذه الاختلافات في الرأي بدلاً من محاولة فرض وجهات نظرها الخاصة على الآخرين.

حرصت الصين على عدم السماح للصراعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي وعلى الحدود الصينية الهندية بالتصعيد إلى مستوى اشتباكات بالذخيرة الحية

القناعة ذاتها ستحرك إستراتيجية الصين الدبلوماسية في مرحلة ما بعد جائحة كورونا. فعلى عكس التصور الشائع، لا ترفض بكين القواعد والمؤسسات المتعددة الأطراف. ومع ذلك، فهي لن تقبل القواعد التي تضعها الولايات المتحدة بدون تشاور مسبق معها. وبدلاً من ذلك، فإن هدف بكين هو أن ترتكز المعايير الدولية على تعددية شاملة وحقيقية. هذه هي الفكرة من وراء المنتديات المتعددة الأطراف التي تتخذ من الصين مقراً لها، والتي كانت تنظمها مع مجموعة من الدول والمناطق، مثل منتديات التعاون مع الدول الأفريقية والعربية وأميركا اللاتينية وجزر المحيط الهادئ ودول جنوب شرق آسيا. في غضون ذلك، تتوقع بكين من القوى الكبرى الأخرى معاملة تقوم على المساواة والاحترام المتبادل، كما يتضح من إستراتيجيتها الحازمة الخاصة بالعقوبات الانتقامية. فعندما فرضت إدارة ترامب عقوبات على 14 من كبار المسؤولين الصينيين بسبب تنحية عدد من المشرعين في هونغ كونغ، انتقمت الصين بفرض عقوبات مماثلة على 28 مسؤولاً أميركياً، بينهم وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو. وعلى نحو مماثل، سارعت بكين إلى الانتقام من العقوبات التي فرضتها كل من بريطانيا والإتحاد الأوروبي بشأن قضية شينجيانغ. . في كلتا الحالتين، تعتبر الحكومة الصينية أن أي عقوبات أو انتقاد لسياساتها هو تدخل في شؤونها الداخلية.

كما أن السياسات الاقتصادية للصين آخذة في التحول أيضاً بسبب جائحة كورونا التي كشفت عن ضعف سلاسل التوريد العالمية ومحاولات الولايات المتحدة في الفصل الاقتصادي. في الواقع، تعتقد الحكومة الصينية أن الحمائية، والاقتصاد العالمي المتباطئ، وتقلص الأسواق العالمية سوف تستمر إلى ما بعد تداعيات الجائحة. ففي إطار استراتيجية “التداول المزدوج” الجديدة، التي تم الكشف عنها في اجتماع رفيع المستوى للحزب الشيوعي الصيني في أيار/مايو 2020، أعلنت بكين أنها تعمل على تقليل اعتمادها على الأسواق الخارجية. والهدف من ذلك هو دعم الأسواق الداخلية الضخمة، وبناء سلاسل محلية قوية للإمداد والتوزيع والاستهلاك، وبالتالي تقليل تعرض البلاد للضغوط الاقتصادية الخارجية، وخاصة من الولايات المتحدة. وسيكون العلم والتكنولوجيا في مركز هذا الجهد، وأساس التنمية المستقبلية. ومن المأمول أن يؤدي الإزدهار المحلي الناتج، بدوره، إلى تحسين العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى والمساهمة في إنعاش الإقتصاد العالمي.

ستسعى بكين أيضاً إلى تقليل تعرضها للعقوبات المالية الأميركية، بما في ذلك من خلال الترويج لاستخدام الآرإم بي RMB (العملة الرسمية لجمهورية الصين الشعبية وواحدة من العملات الاحتياطية في العالم، تحتل المرتبة الثامنة بين العملات الأكثر تداولًا في العالم اعتباراً من نيسان/أبريل 2019) في التجارة والاستثمار الأجنبيين. في العام الماضي، بدأت تجارب على عملة رقمية في عدد قليل من المدن الكبيرة، وهو ابتكار يمكن أن يسمح يوماً ما للصين وشركائها التجاريين بإجراء معاملات دولية خارج SWIFT ، نظام المراسلة المالية، الذي يخضع فعلياً للسيطرة الأميركية والمصدر الرئيسي للنفوذ الجيوسياسي الأميركي. بالطبع، لن تتحول الصين إلى الداخل تماماً: فمبادرة “الحزام” والطريق” أو مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، وهي مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير في القرن التاسع عشر من اجل ربط الصين بالعالم، لتصبح أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، وذلك على الرغم من أن التقدم كان بطيئاً خلال جائحة كورونا. ونظراً لأن إستراتيجية “التداول المزدوج” تكرس السوق المحلية، وليس الروابط العالمية، باعتبارها التركيز السياسي الأساسي لبكين، فإن مشاريع مبادرة “الحزام والطريق” ستعتمد من الآن فصاعداً على طلب السوق أكثر من الاعتبارات السياسية. وستواصل الصين أيضاً سعيها إلى التعاون التكنولوجي مع البلدان الأخرى، شريطة أن يتمكنوا من مقاومة الضغط الأميركي لفك الارتباط عن الصين في هذه الجبهة.

على النقيض من ذلك، ستظل الإستراتيجية العسكرية للصين دون تغيير إلى حد كبير في عالم ما بعد كورونا. تسعى بكين إلى تحويل جيش التحرير الشعبي إلى قوة قتالية على مستوى عالمي، جاهز للحرب في أي لحظة، مع التركيز على القيمة وليس الكمية (أي جودة الأداء)، وتقديم القدرات السيبرانية على البراعة التقليدية، واعتماد أنظمة الأسلحة القائمة على الذكاء الاصطناعي أكثر من المهارات القتالية الفردية. ومع ذلك، ستبقى مهمة جيش التحرير الشعبي مهمة ردع وليس توسع وانتشار. الميزانية العسكرية للصين لعام 2021، وإن كانت أكبر من ميزانية القوى الكبرى الأخرى، فهي أقل من ثلث ما تنفقه الولايات المتحدة على الدفاع. علاوة على هذا التفاوت في الميزانية، يفتقر الجيش الصيني إلى الخبرة: لم يشارك جيش التحرير الشعبي في أي معركة حربية منذ العام 1989، ولم يخض حرباً حقيقية منذ العام 1979. ونتيجة لذلك، تظل بكين حذرة من المواجهات العسكرية المباشرة، وستواصل رفضها التحالفات العسكرية التي يمكن أن تجرها إلى حرب لا داعي لها. وللسبب نفسه، حرصت الصين على عدم السماح للصراعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي وعلى الحدود الصينية الهندية بالتصعيد إلى مستوى اشتباكات بالذخيرة الحية.

(*) النص الأصلي في “فورين أفيرز”- يان شوتونغ (أستاذ متميز وعميد معهد العلاقات الدولية في جامعة تسينغهوا)

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "الإرهاب".. وصفة أميركية لـ"التأديب السياسي"!