لم تشهد فرنسا، حسب المتابعين لمسار الجمهورية الخامسة، “وضعاً صعباً وغامضاً وضبابيا”َ كالذي تشهده في هذه الأيام، وذلك منذ قرار الرئيس ايمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة.
“الجمهورية الخامسة في خطر”، “في انتظار الفوضى”، “أهلاً وسهلاً في جهنم”. تعليقات مختلف وسائل الإعلام تلاقي تعابير المواطنيين العاديين. وهي تترجم كلها القلق المتصاعد من خطورة مستقبل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية غداة 7 تموز/يوليو موعد الدورة الثانية للانتخابات النيابية المنتظرة.
ما هي وضعية القوى السياسية في ظل تسارع الأحداث التي تشهد كل يوم وأحياناً كل ساعة تطوراً جديداً؟
أولاً؛ اليمين المتطرف يُعزّز تقدمه:
تشير معظم استطلاعات الرأي إلى أن اليمين المتشدد والمتطرف المتمثل بحزب “التجمع الوطني” الذي تتزعمه مارين لوبن ويرأس حملته الانتخابية الشاب جوردان بارديلا (المرشح لرئاسة الحكومة المقبلة)، تتصاعد شعبيته ويتبوأ المركز الأول بين القوى السياسية والحزبية والنيابية في الجمعية الوطنية المقبلة (35 بالمئة من الأصوات – ما بين 220 إلى 240 مقعداً).
يترافق ذلك مع مساعٍ يبذلها التجمع اليميني من أجل “طمأنة مزدوجة” في اتجاه الأوساط الاقتصادية والمالية من جهة والأوساط الشعبية من جهة أخرى. وذلك من خلال ابداء الحرص على “العقلانية” في اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية والقدرة الشرائية في حال فوزه بالأكثرية النيابية، و”التشدد من دون عدائية” في معالجة قضايا الأمن والهجرة واقامة الأجانب. كما يؤكد على احترامه للدستور ومندرجاته واحداث التغييرات عبر برنامج مرحلي يأخذ في الاعتبار وضع الخزينة العامة. كما ألمح بارديلا إلى احترام حزبه “الالتزامات الدولية” لكنه يُعارض زج فرنسا في الحرب في أوكرانيا وهو ضد إرسال قوات فرنسية إلى منطقة الصراع.
الفترة الفاصلة بين الدورتين الأولى والثانية ستكون حاسمة لجهة معرفة كيفية تعامل القوى السياسية مع نتائج الدورة الأولى ورسم التحالفات والقيام بانسحابات متبادلة ليُبادر الناخب الفرنسي إلى حسم خياره النهائي.. في صندوقة اقتراع لن ترسم موازين القوى في الجمعية الوطنية فقط بل ملامح مستقبل فرنسا السياسي في السنوات وربما العقود المقبلة
وفي هذا الاطار، استمرت الدعوات إلى صد تقدم اليمين المتطرف والحؤول دون تسلمه الحكم ومن بين الأصوات التي ارتفعت رئيس الوزراء اليميني الشيراكي دومينيك دوفيلبان، كما أن حوالي 800 من كوادر القطاع التعليمي العام وقّعوا عريضة يعلنون فيها عدم التزامهم بتعليمات وزير التربية في حال وصول اليمين المتطرف إلى الحكومة.
ثانياً؛ تحالف اليسار في تصاعد:
تمكن تحالف قوى اليسار (أحزاب الاشتركي والشيوعي والخضر وفرنسا الأبية) المنضوية تحت راية “الجبهة الشعبية الجديدة” من تجميع صفوفه وطرح نفسه كبديل في مواجهة تقدم اليمين المتطرف. ويبدو أنه نجح حتى الآن في حشد التأييد له وتمكنه من تبوء المركز الثاني من حيث عدد النواب في الجمعية الوطنية (29 بالمئة من الأصوات – ما بين 180 إلى 210 مقاعد).
ويواجه التحالف اليساري حملة سياسية وإعلامية تصفه بـ”الهجين” وتتهم حزب “فرنسا الأبية” (أقصى اليسار) بالسيطرة على التحالف والتحكم به من خلال مواقفه “الشعبوية” وخصوصا برنامجه الاقتصادي والاجتماعي الذي انتقده بشدة رجال الأعمال والخبراء الماليين الذين حذّروا من عواقبه “الكارثية” على الاقتصاد والاستثمار والخزينة العامة. وقد قدّم التحالف برنامجه وقال إن تكلفته تبلغ حوالي 25 مليار يورو خلال الستة أشهر الأولى من عمر الحكومة الجديدة وحوالي 150 مليار حتى 2027 موعد الانتخابات الرئاسية، لكنه أكد في الوقت نفسه تعويض هذه التدابير والمصاريف الجديدة برفع الضرائب الحالية ووضع أخرى جديدة على أن تتناول فقط فئة الميسوريين وخصوصاً أصحاب الرساميل الكبيرة.
ثالثاً؛ عزلة الأليزيه.. والرئيس:
يشهد حزب “النهضة” الموالى للرئيس إيمانويل ماكرون تراجعاً كبيراً لم يعرف مثيلاً له منذ وصول الاخير إلى رئاسة الجمهورية منذ سبعة أعوام. حيث سيعرف عدد نوابه انخفاضا ملموساً يضعه في المركز الثالث في الجمعية الوطنية الجديدة (22 بالمئة من الأصوات – ما بين 80 إلى 110 مقاعد).
لكن الأبرز هو حال الانقسام الداخلي في صفوف الحزب اضافة إلى الانتقاد العلني والصريح لقرارات ماكرون وتوجهاته. فبينما دعا رئيس الوزراء الحالي غبريال أتال إلى “انتخابه” شخصياً رئيساً للحكومة، لم يتردد رئيس الوزراء السابق ادوار فيليب من توجيه سهامه مباشرة إلى ماكرون، معتبراً أنه “قتل الأكثرية الرئاسية الحالية” وداعياً إلى تشكيل “أكثرية نيابية جديدة” وهو لا يخفي نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.
واللافت للانتباه أن “عزلة” ماكرون، غير ناتجة فقط عن التراجع الكبير في شعبيته (74 من المئة من الفرنسيين يبدون صراحة عدم ثقتهم به)، بل إن قسماً كبيراً من مرشحي حزبه حاذروا الاستعانة بصورته على ملصقاتهم الانتخابية، وقد ذهب أركان الحزب إلى التمني على ماكرون الاقلال من اطلالاته الإعلامية تفادياً لمردودها السلبي، أي زيادة التململ الشعبي منه وبالتالي المضي في معارضته!
رابعاً؛ معاداة السامية ضيف فرض نفسه:
كانت أطباق القوة الشرائية والهجرة والأمن الأكثر حضوراً على مائدة النقاشات السياسية والمناظرات الاعلامية، إلا أن الأيام الأخيرة أحضرت طبقاً مستجداً أصبح محوراً رئيسياً تتقاذف عبره الاتهامات. فمن جهة، يُؤخذ على رئيس حزب “فرنسا الأبية” جان لوك ميلونشون “تعاطفه” مع الفلسطينيين خلال الحرب الإسرائيلية على غزة وتنديده بالمجازر و”توظيفه” هذا الموقف للحصول على أصوات الفرنسيين من أصل عربي والذين ينتمون إلى الجالية الإسلامية، في المقابل، ظهر اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن بموقف رافض لمعاداة السامية ومعارض بشدة لتوجهات هذا اليسار المتطرف.
وقد جاء حادث وقع في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية (كوربوفوا) بمثابة صب الزيت على النار. فقد اعتدى ثلاثة فتيان لا تتعدى أعمارهم 13 سنة بالضرب والشتم والاغتصاب على فتاة يهودية عمرها 12 سنة. كما جرى الكشف في نهاية الأسبوع عن توقيف شخص كان يعتزم القيام بعملية ارهابية تستهدف الجالية اليهودية.
وفيما أشارت دراسات إلى أن أكثر من ستين بالمئة من الجاليات العربية والمسلمة اقترعت لمصلحة حزب ميلونشون في الانتخابات الأوروبية، تبدو أوساط الجالية اليهودية منقسمة بين دعاة التصويت لليمين المتطرف إذا كان لا بد من المفاضلة بين مرشحين يميني متطرف ويساري متطرف أو الامتناع عن التصويت لأي من الفريقين المتطرفين.
إن حالة “الغضب من الرئيس” التي كانت المحرك الأبرز للاقتراع في الانتخابات الأوروبية تتحول مع التصويت في الانتخابات التشريعية إلى حالة من “القلق على الرئاسة”، والانتقال من مأزق الأكثرية النيابية المفقودة إلى أزمة نظام رئاسي
خامساً؛ تعطيل الحكم واستقالة ماكرون:
واللافت للانتباه هو تسجيل عدد قياسي من الفرنسيين الذين قرّروا المشاركة في الاقتراع برغم غيابهم أو عطلتهم خارج مقر اقامتهم وذلك عبر اعطاء “وكالة” لقريبين منهم للتصويت بالنيابة عنهم وقد تجاوز العدد أكثر من مليون شخص.
لكن برغم هذه الرغبة الظاهرة بالمشاركة وعدم المقاطعة، تُشير استطلاعات الرأي إلى أنه ليس هناك قوة سياسية واحدة باستطاعتها الحصول على “الأكثرية المطلقة”، أي 289 نائباً في الجمعية الوطنية الجديدة. صحيح أن الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من النواب باستطاعته تشكيل الحكومة، حتى لو كان يتمتع فقط بـ”الأكثرية النسبية”، كما هي حال الحكومة الحالية. إلا أن الجديد أن مارين لوبن فاجأت الجميع بموقفها المستجد، معتبرة أن بلوغ هذا الوضع يجعل ممارسة الحكم مهمة صعبة لا بل مستحيلة وبالتالي رأت أنه يعود لماكرون تقديم استقالته!
من جهته، يرغب ماكرون بالبقاء في الأليزيه وممارسة تجربة “المساكنة” والحكم حسب نصوص دستور الجمهورية الخامسة، خصوصاً أن هناك أكثر من سابقة في هذا المجال (علماً أنه قبل الانتخابات الأوروبية استبعد المبادرة إلى حل الجمعية الوطنية غير أنه عاد واتخذ هذا القرار بعد صدور النتائج).
في الخلاصة، يُطرح سؤال كبير: فرنسا.. إلى أين؟
إن حالة “الغضب من الرئيس” التي كانت المحرك الأبرز للاقتراع في الانتخابات الأوروبية تتحول مع التصويت في الانتخابات التشريعية إلى حالة من “القلق على الرئاسة”، والانتقال من مأزق الأكثرية النيابية المفقودة إلى أزمة نظام رئاسي (تدخل البلاد في “فوضى مؤسساتية” مع خطورة انتقالها إلى الشارع) تضع مصير الجمهورية الخامسة على المحك وتلقي بظلالها على ديمومة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي عرفته فرنسا على مدى أكثر من نصف قرن.
الفترة الفاصلة بين الدورتين الأولى والثانية ستكون حاسمة لجهة معرفة كيفية تعامل القوى السياسية مع نتائج الدورة الأولى ورسم التحالفات والقيام بانسحابات متبادلة ليُبادر الناخب الفرنسي إلى حسم خياره النهائي.. في صندوقة اقتراع لن ترسم موازين القوى في الجمعية الوطنية فقط بل ملامح مستقبل فرنسا السياسي في السنوات وربما العقود المقبلة.