منح موعدُ الخامس عشر من آذار/مارس المتفق عليه روسياً وتركياً لتسيير أولى الدوريات المشتركة على طريق M4، فرصة ثمينة لـ”جبهة النصرة” لإثبات حضورها في المنطقة والتأكيد على قدرتها على المناورة في وجه الاتفاقات الثنائية، بما يحفظ لها دوراً ما في المعادلة القائمة، وإن كان دور المعرقل وحسب.
وتأتي هذه الفرصة لتكون بمثابة الهدية التي لم يكن يحلم بها أبو محمد الجولاني نظراً للهزائم العسكرية الكبيرة التي مني بها في الأشهر السابقة. وقد أحسن الأخير استغلالها أحسن استغلال مظهراً نفسه بمظهر من يمتلك رفع الفيتو حتى في وجه اتفاق تقوم على تنفيذه دولتان كبيرتان من وزن روسيا وتركيا.
وبرغم أن عرقلة الدورية المشتركة الأولى، تحمل في ظاهرها رسالة موجهة إلى موسكو مفادها أن “جبهة النصرة” وحلفائها يرفضون أيّ تواجد روسي على الطريق الرئيسي، فإن الرسالة الأبلغ قد تكون في الواقع موجّهة إلى تركيا لإشعارها بأنها لا تمسك بجميع خيوط اللعبة الداخلية في إدلب، وبأن قرار الحل والعقد لن يكون بيدها ما لم تراع بعض الحساسيات القيادية وتوازن القوى بين الفصائل المسلحة، وكذلك بأن تواجدها العسكري الكثيف في المنطقة لا يعني أنها باتت تملك حرية التصرف كما تشاء، خصوصاً أن “التمرد” على توجيهات أنقرة ربّما انطوى من ناحية أخرى على التغزّل ببعض التوجهات الدولية التي لم تجد في اتفاق موسكو ما يلبّي رغباتها.
وتكاد تكون الخطوط غير واضحة لرسم حقيقة ما جرى على طريق M4 وخلفياته، إذ ثمّة حلقة مفقودة في العلاقة بين أنقرة من جهة و”جبهة النصرة” من جهة ثانية، تجعل رسم لوحة متكاملة مهمة في غاية الصعوبة. فهل اتخذت الأخيرة قرار إجهاض الدوريات المشتركة من تلقاء نفسها وتعبيراً عن مصالحها وعدم قبولها بوضعها على الهامش؟ أم أن أنقرة لم تستخدم كل ما تملكه من أوراق الضغط لإجبار “جبهة النصرة” على الاذعان لتنفيذ اتفاق موسكو رغبةً منها في الاستفراد بدور الشرطي على طريق M4 مقابل استفراد موسكو ودمشق بطريق M5؟
ثمّة حلقة مفقودة في العلاقة بين تركيا و”جبهة النصرة” تجعل رسم لوحة متكاملة مهمة في غاية الصعوبة
من غير المستبعد أن تلجأ أنقرة إلى مثل هذه المناورات الجانبية، وذلك في مسعى أخير منها لتعديل آليات تنفيذ بنود اتفاق موسكو من أجل تفادي الصورة السلبية التي خرجت بها إثر توقيع الاتفاق، وأظهرتها بصورة الطرف الذي قدم تنازلات وتراجع عن خطوطه الحمراء ممثلة بانسحاب الجيش السوري إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية. لكن هذه المناورات – في حال ثبوت صحتها – لا تخلو بدورها من مخاطر قد تهدد الدور التركي في المنطقة وتعطي الذريعة لكل من موسكو ودمشق بالعودة إلى خيار الحسم العسكري الذي بذلت أنقرة جهوداً كبيرة لإيقافه. وقد عبّر البيان الذي أصدرته وزارة الدفاع الروسية عن ذلك عندما أشار إلى “منح وقت إضافي للجانب التركي لاتخاذ إجراءات خاصة بتحييد التنظيمات الإرهابية، وضمان أمن الدوريات المشتركة”، ما يعني على الأقل أن موسكو تعتبر أنقرة مسؤولة بشكل أو بآخر عن فشل تسيير الدورية الأولى.
ولا يقتصر الإحراج التركي على الاخلال بالالتزامات التي تعهدت بها أنقرة أمام موسكو وحسب، بل يتعدى ذلك إلى التساؤل عن جدوى الحضور العسكري الكثيف للقوات التركية في المنطقة، وطبيعة علاقتها مع الفصائل المسلحة، وهل سيكون لحضورها المباشر دور في تعزيز نفوذها على الفصائل أم بالعكس يمكن أن يتحول إلى نقطة ضعف نظراً لانشغالها بأمن قواتها وعدم رغبتها في تعرض جنودها لاستفزازات أو ربما هجمات عشوائية.
وقد جاءت عرقلة “جبهة النصرة” للدورية المشتركة بعد اجتماعات لقادة الفصائل المسلحة في أنقرة ناقشت موضوعين رئيسيين، الأول، يتعلق بتنفيذ اتفاق موسكو وآلياته، والثاني، يتعلق بإحياء مشروع قديم جديد حول توحيد الفصائل المسلحة ضمن جسم عسكري واحد، وهو ما يعني عملياً حلّ “جبهة النصرة” ودمج عناصرها في الجيش الوطني الذي ترعاه أنقرة، وذلك بعد تطهيرها من القيادات والعناصر الأجنبية. ويبدو من وراء ما حصل على طريق M4 أن “جبهة النصرة” لم تكن راضية عن مجريات الاجتماعات وما دار فيها من نقاشات واقتراحات، خصوصاً أن موقف الجولاني بات معروفاً وهو رفض أي اندماج لا يضع في يديه زمام القيادة العسكرية لأي جسم جديد. وقد يكون أحد أهداف الجولاني من وراء عرقلة الدوريات هو التأكيد على تمسكه بهذه النقطة.
غير أن ما سبق، لا يعني بأي شكل من الأشكال، أن الجانبين الروسي والتركي لا يتحملان مسؤولية إعطاء الجولاني فرصة نادرة للتصدّر وإشهار الفيتو في وجه اتفاقهما الثنائي. فهذه ليست المرة الأولى التي يتوصل فيها الطرفان إلى اتفاقات يتوقف تنفيذها على موقف “جبهة النصرة” منها. فقد سبق للجولاني على سبيل المثال أن أجهض مشروع المنطقة المنزوعة السلاح عبر رفضه سحب قواته وسلاحه الثقيل، ثم تكرر الأمر عندما خرج وأعلن شخصياً رفضه لهدنة تم الاتفاق عليها بخصوص إدلب في شهر آب/أغسطس من العام الماضي، وها هو يحظى بفرصة جديدة عبر عرقلته لفتح الطريق الرئيسي.
وتكمن المعضلة الرئيسية أن الاتفاقات الروسية-التركية غالباً ما تكون مرتجلةً وغير مدروسة بشكل كافٍ، وكأن الغاية الوحيدة منها هي تفادي الضغوط الممارسة على كلا الطرفين سواء الضغوط الميدانية العسكرية بالنسبة لأنقرة أو الضغوط الدولية بالنسبة لموسكو. وقد يعكس ذلك حقيقة أن التقاء الطرفين على مفارق الاتفاقات بعد قطعهما أشوطاً طويلة من التصعيد العسكري، ليس سوى استراحة ضرورية لالتقاط الأنفاس قبل العودة إلى جولة تصعيد جديدة.
وسط هذه المناورات الروسية – التركية التي تفرضها العديد من العوامل المتعلقة بعلاقات الطرفين المعقدة نتيجة خلفياتها التاريخية وظروفها الحالية، والمرتبطة كذلك بالمعادلات الدولية المحيطة بملف إدلب، يبدو أن “جبهة النصرة” ما زالت تملك بعض الأوراق الضرورية التي تجعلها تلعب وفق قاعدة “يا لعّيب يا خرّيب”.