بالرغم من صدور بعض التهديدات في الأسبوعين الأخيرين، ضد القوات التركية على خلفية توقيع اتفاق موسكو، فإنه لم يكن من المتوقّع أن يقدم أيّ فصيل مسلّح في الشمال السوري على خطوة استهداف الجنود الأتراك بشكل مباشر، ناهيك عن تعمّد إسقاط قتلى بين صفوفهم. لذلك فإن تعرّض دورية تركية يوم الخميس للاستهداف بعبوتين ناسفتين على الطريق الدولي حلب – اللاذقية بالقرب من قرية محمبل، ما أسفر عن مقتل جنديين تركيين وإصابة آخرين، يدل بما لا يدع مجالاً للشك أن اتفاق موسكو الذي أريد له أن يكون خطوة على طريق الحلّ، قد يكون عاملاً إضافياً يُسهم في تعقيد الوضع في إدلب ويجرّ الأطراف إلى تبعات غير محسوبة.
وقد اتجهت أصابع الاتهام فور وقوع حادثة مقتل الجنديين التركيين، نحو فصيل “حرّاس الدين” المبايع لتنظيم “القاعدة العالمي” بقيادة أيمن الظواهري. وتزامن توجيه الاتهام مع صدور تقرير عن الشبكة السورية لحقوق الانسان المعارضة يتهم الفصيل بممارسات وحشية من ضمنها خطف نشطاء في مجال الإغاثة وحقوق الانسان، والإشراف على أربع معتقلات خاصة به يتواجد فيها العشرات من المعتقلين والمختطفين، حسب ما جاء في تقرير صدر عن الشبكة يوم الخميس.
اتفاق موسكو قد يكون عاملاً إضافياً يُسهم في تعقيد الوضع في إدلب ويجرّ الأطراف إلى تبعات غير محسوبة
غير أن ما لفت الانتباه أن أنقرة المعنية بالحادثة لم توجّه الاتهام إلى أية جهة محددة، كما أن الفصيل ذاته سارع إلى نفي الاتهامات الموجهة إليه، حيث قال مصدر عسكري تابع له أن الجهة المنفذة قد تكون خلايا تنظيم “داعش” أو “خلايا النظام السوري”. وبحسب أدبيات التنظيمات الجهادية فإن نفي المسؤولية عن أي حادثة تجنباً لرد فعل قاسٍ لا يبرر محاولة إلصاقها بجهة أخرى، بل يكتفى عادةً بتجهيل الفاعل والتملّص من المسؤولية العلنية.
ونظراً للغموض الذي ما زال يلفّ العملية وعدم التأكد من هوية الجهة المنفذة، لا يستبعد بعض المراقبين أن يكون وراء الأكمة ما وراءها، خاصة في ظل تضارب المصالح وحالة التنافس والصراع السائدة بين الفصائل المسلحة في تلك المنطقة. ويرى هؤلاء أن اتفاق موسكو فرض على شبكة العلاقات الفصائلية المتناقضة أمراً واقعاً من شأنه تفجير خلافاتها الداخلية وأن يدفع بعضها إلى نصب “أفخاخٍ” لبعضها الآخر بهدف استثمار تنفيذ الاتفاق بما يخدم مصالحها ونفوذها على حساب الفصائل الأكثر تطرفاً.
ويسود احتمالان لتفسير العملية النادرة التي استهدفت الرتل التركي أثناء قيامه بدورية تمهيداً لإنشاء نقطة مراقبة على الطريق الدولي M4 ، أحد هذين الاحتمالين هو أن تكون هيئة تحرير الشام بقيادة أبي محمد الجولاني قد لعبت برأس قيادة “حراس الدين” ووضعتها في أجواء أن استهداف الأتراك قد يكون مطلباً ضرورياً لوقف تدهور الجماعات الجهادية وتراخي قبضتها على ما بقي من مناطق السيطرة في إدلب. وتكون غاية الجولاني ضمن هذا الاحتمال هو توريط حراس الدين في اشتباكات إقليمية لإبراز درجة تطرفها مقابل إظهار اعتدال جماعته والتزامها بـ”سورنة الجهاد”. وكان الجولاني في مقابلته مع مجموعة الأزمات الدولية ألمح إلى سعيه إلى احتواء “حراس الدين” وإقناعها بعدم تنفيذ عمليات خارجية.
أما الاحتمال الثاني، فهو أن تكون جماعة تابعة أو مقربة من “الجيش الوطني” المدعوم تركياً قد وجدت في المناخ الذي ساد بعد توقيع اتفاق موسكو ما يستلزم تحريك خطوط الصراع مع إحدى الجماعات المتطرفة تمهيداً لتهيئة الأرضية التي تحتاج إليها أنقرة من أجل تغيير نهج تعاملها مع بعض هذه الجماعات التي تعذر إفهامها بالطرق الأخرى أن عرقلة الاتفاقات التركية – الروسية لم يعد مقبولاً وبات يهدد الدور التركي في المنطقة.
ويبقى احتمال ثالث، وهو أن تكون عملية استهداف الرتل التركي من تنفيذ خلايا تابعة لتنظيم “داعش” وجدت من مصلحتها الدخول على خط الاحداث في هذه اللحظة المفصلية من أجل إعادة خلط الأوراق في المنطقة وتحقيق مكسب دعائي ضد الجماعات القاعدية و”هيئة تحرير الشام” على اعتبار أن “داعش” وحده من يقف ضد الاتفاقات الاقليمية والدولية ويخوض مواجهة حقيقية ضد لدول الكفرية.
وكان تنظيم “داعش” قد سلط الضوء على احتمال تدخله في إدلب عبر سلسلة من المقالات التي نشرتها صحيفة “النبأ” في أعداد سابقة.
ويتفق توجيه الاتهام إلى “حراس الدين” مع تأكيدات روسية عبر عنها بيان صدر عن وزارة الخارجية يوم الاثنين، بأن “حراس الدين” وجماعات أخرى تقوم بأدوار تخريبية ضد وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه أنقرة وموسكو في الخامس من الشهر الجاري. كما ألمح بيان الخارجية الروسية إلى وجود “دواعش” في صفوف بعض هذه الجماعات التي استفادت من الهدنة من أجل رص صفوفها وإعادة تسلحها للقيام بعمليات هجومية، مشيراً إلى اعتماد هذه الجماعات على دعم خارجيّ من دون تحديده.
وكان أبو همام الشامي زعيم “حراس الدين”، وهو بالمناسبة كان يشغل منصب القائد العسكري العام في جبهة النصرة قبل انشقاقه عنها عام 2016، قد أصدر في السابع من شهر آذار/مارس الجاري تسجيلاً صوتياً بعنوان “يا أهل الشام الثبات الثبات” تضمن الدعوة إلى مواصلة القتال ورفض الاتفاقات، وداعياً انقرة بشكل غير مباشر إلى “عدم التلاعب بمصائر المسليمن في البلاد وأن لا تُقدم على استهداف المجاهدين الذين يبذلون دماءهم لدفع الأعداء”. ويستشفّ من كلام الشاميّ أنه كان على اطلاع بوجود توجه تركي لإحداث انعطافة في طريقة التعاطي مع بعض التنظيمات الجهادية. وما يعزز معلومات الشاميّ أو على الأقل قراءته الاستشرافية أن اتفاق موسكو تحدث في مقدمته عن ضرورة التخلص من التنظيمات المصنفة على قائمة الارهاب. لكن لا ينبغي التغافل عن ان الشامي نفسه أشار في نفس خطابه السابق إلى معضلة التمويل التي يعاني منها تنظيمه، لذلك يبدو من الصعب الاقتناع بأن يلجأ الأخير إلى فتح جبهة مع أنقرة في ظل أزمته المالية المتواصلة منذ نشأته، إلا إذا كانت قيادة التنظيم قد اتخذت قراراً بالانتحار الجماعي أو توهمت أن استهداف أنقرة قد تفتح لها أبواباً مغلقة من الدعم والتمويل.
بناءً على ما سبق، هل تكون حادثة مقتل الجنديين التركيين المسمار الأخير في نعش جماعة “حراس الدين” وبداية استئصالها بتوافق إقليمي ودولي لا سيما أن الولايات المتحدة تعتبر هذه الجماعة على قائمة أولوياتها في محاربة الارهاب؟ أم أن حادثة ال M4 ستكون بداية لزيادة تعقيد ملف إدلب وربما وضع اتفاق موسكو أمام منعطف جديد يجعل تنفيذه شبه مستحيل نظراً لتكلفته غير المحسوبة؟