على طاولة التحديات اللبنانية، باتت هناك أزمة جديدة. انضم خطر وباء الكورونا إلى انتفاضة 17 تشرين/أكتوبر في تاريخ الأحداث المفصلية في لبنان التي تعيد خلط الأوراق وهز الوعي الجماعي وتطرح تحديات جديدة ليس فقط على الطبقة السياسية، بل على المجتمع الذي ينتجها ويشاركها المسؤولية.
على أن التحديات والمخاطر هي دائماً في المقابل فُرَص، ودروس. فرص، لكن لمن يحسن القراءة والإستفادة منها. هنا، السؤال يبقى من دون جواب حتى التحقق من كيفية تعاطي السلطة والقوى المجتمعية والمؤثرة في إنتاج القرار. في مطلق الأحوال، ظهرت الدروس فاقعة في مسائل ثلاثة رئيسية.
الدرس الأول، هو حقيقة اللامركزية التي فرضت نفسها على الجميع، بعدما تأخرت الحكومات المتعاقبة، عن المضي بهذا الإجراء الحيوي وإدخاله حيز التنفيذ. وبعيداً من الجدال العبثي والعقيم، ونتيجة لمنطلقات إيديولوجية صَهرية، حول ما إذا كانت اللامركزية خطوة في اتجاه النظام الإتحادي – الفدرالي أم محصورةً بالجانب الإداري، والمالي، فإنها قد تحققت عملياً عبر استنهاض الطاقات المناطقية بإشراف البلديات التي دفعت الأزمة إلى الإفراج عن مستحقاتها المالية، وبمشاركة لصيقة ومطلوبة في النظام اللامركزي، من السلطة المركزية، وأيضاً من قبل الجمعيات والأندية والروابط التي تعتبر نفسها معنية بالحفاظ على وجودها وأمنها الصحي والإجتماعي.
بذلك، تتحول اللامركزية الفعلية حبلَ نجاة لسلطة مركزية متهالكة بفعل استنزاف القوى التي حكمت لبنان منذ العام 1990 لمواردها كالبقرة الحلوب التي باتت هزيلة وبانت عظامها بعد النهش المتمادي لها.
بعد انتفاضة 17 تشرين/اكتوبر، لم يعد بإمكان قوى الطائف التي تريد الحفاظ على استمرار النهج الزبائني نفسه – استنزاف الدولة في الخدمات والتوظيفات – تجاهل حقيقة عدم قدرة أدوات النظام نفسها على الصمود. لا بد من لامركزية مالية تؤمن العدالة والمساواة بين المناطق، وبالتالي الحافز لإنتاجية أفضل ولمشاركةٍ مواطنية أكثر فعالية.
لذلك، يصبح خوف قوى الطائف المتهالكة من فقدان السيطرة على ما تبقى من موارد الدولة المنهوبة في اللامركزية الفعلية، مفهوماً، ويتوازى معه خوفٌ آخر نتيجة الموروث الإيديولوجي المركزي نتيجة أننا حُكمنا من فرنسا الدولة الشديدة المركزية، والتي اضطرت هي الأخرى منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلى إطلاق اللامركزية المتوسعة إلى مستوى المناطق (وحدة إدارية فوق المحافظة). هذا الخوف حَله سيكون بفعل الواقع الذي يفرضه، ويظهر حسناته على حساب الهواجس غير المفهومة، والتي ينطلق بعضها أيضاً من خوف من فقدان هيمنة وعلى “وحدوية” موجودة في الخيال الجماعي، وفي مجتمعٍ بالغ الفوضوية والإنقسام أساساً.
لا بد من لامركزية مالية تؤمن العدالة والمساواة بين المناطق، وبالتالي الحافز لإنتاجية أفضل ولمشاركةٍ مواطنية أكثر فعالية.. ولا بديل عن الدولة
الدرس الثاني، هو السقوط المدوي لفكرة تمجيد الخصخصة. التمجيد، لأن فكرة الخصخصة بحد ذاتها ليست سلبية لو تم تحديدها بالضوابط وبالممارسة، وبتكريس دور الدولة التي تمثل المساحة المواطنية المشتركة. لكن التمجيد والتعظيم الذي لم يعد ذات معنى اليوم، خاصةً وأن نموذجها العالمي في نيوليبرالية اقتصادية متوحشة تطحن الإنسان لحساب المال والشركات العابرة للقارات، هو اليوم في مهب الريح في ظل اهتزاز لا بل تهاوي الأنظمة الصحية في الدول التي انجرفت في هذه النيوليبرالية، وفي مقابل إعادة تصاعد دور الدول الوطنية – القومية، بعدما ظهرت أنياب العولمة على خلاف ما بشرتنا به الآلة الدعائية الأميركية بعد سقوط الإتحاد السوفياتي في العام 1991.
في الحالة اللبنانية، ضُربت المستشفيات الحكومية، هُدد الضمان الإجتماعي واستُنزف وتوسعت شركات التأمين الخاصة، ضُربت الجامعة اللبنانية وتم منح التراخيص العشوائية لجامعات خاصة بعضها يبيع الشهادات بيعاً في سوق النخاسة العلمية، ثم أتت صاعقة الكورونا لكي تصفع الترويج لخيارات الخصخصة المتوحشة: نودي على المستشفيات الخاصة فتمنعت في البداية، كانت الجامعة اللبنانية الوطنية وطلابها في رأس المواجهة، هربت شركات التأمين من إجراء فحص الكورونا، فتكشفت عورات الخصخصة وتكرس دور “العام”، “الوطني”، “المشترك”، في مواجهة ما هو خاص وربحي… هذا إذا لم نضف إلى اللائحة توحش المحتكرين في رفع الأسعار في وقت العالم بأسره أحوج ما يكون إلى مزيد من الإنسانية.
إذن، لا بديل عن الدولة، لا بل تكريس دورها، وتمتين ما هو وطني لأنه وحده الجامع في وقت المحن التي كشفت السقوف المهترئة.
الدرس الثالث، هو ألا بديل عن المؤسسات المنتظمة والفاعلة. لا يعني ذلك مؤسسات الدولة فحسب، بل المؤسسات في الجانب الخاص والمجتمع. يُضرب المثل دائماً بمؤسسة الجيش أنها ناجحة والدرع الأول للمواطنين، إلى جانب المؤسسات التي تكرس دورها وفي طليعتها الجامعة اللبنانية. لماذا؟ لأنها مؤسسة ذات استمرارية وتقاليد وتراث وآليات تنتقل وتتطور من جيلٍ إلى آخر، وليست مرهونة بالجانب الشخصاني الذي يذهب مع الفرد.
المؤسسات هي درع المجتمع الأخير وليس الأشخاص مهما عَظموا، والتي يمكن الركون إليها عندما يتهدد الخطر المجتمع كما هو حالنا اليوم.
إضافةً إلى الموروثات اللبنانية العاطفية في الصمود والبقاء على ما أفصح الشاعر الكبير سعيد عقل، “من خطر إلى خطر نمضي، ما هم نحن خلقنا بيتُنا الخطرُ”، فإن مجتمعنا قادر على تحويل تحديات الحروب والأوبئة والمخاطر إلى فرص يستفيد منها لتكريس وجوده ودوره الفاعل… ولا شك بأن الوعي المجتمعي المتزايد، بعيداً من فوضوية البعض ورهاناته الخاصة، سيفرض نفسه في المسار اللبناني في المراحل الآتية.
(*) صحافي وكاتب سياسي لبناني