مع هكذا “هزيمة إستراتيجية”، كان من الطبيعي جداً أن تقوم إسرائيل بـ”رد إستراتيجي”، وظيفته إعادة ماء الوجه والمصداقية التي فقدتها إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. غير أنه بعد مرور سبعين يوماً على الحرب، ما تزال ظروف الهزيمة الإسرائيلية قائمة، بعدما فشلت إسرائيل في تحقيق هدفي “الرد الاستراتيجي”: أولاً؛ سحق حركة حماس، وثانياً؛ تحرير الأسری الإسرائيليين بالقوة من دون مفاوضات!
هدفان إسرائيليان شعبويان ولكن يستحيل الوصول إليهما؛ وفي المقابل، ما زالت حركة “حماس” محافظة على بنيانها العسكري والتنظيمي وقدرة عالية على التحكم والسيطرة، إستناداً إلى أدلة عديدة، بينها استمرار قصة العمق الإسرائيلي بالصواريخ ومن قلب المناطق التي تمكن الإحتلال من التوغل فيها في شمال قطاع غزة. كما أن المقاومة نجحت في جعل ورقة الأسرى الإسرائيليين ورقة ضاغطة من أجل وقف النار وفك الحصار أولاً ومن ثم تحرير جميع المعتقلين الفلسطينيين في سجون العدو.
أما إسرائيل، فلا انجازات تُحققها إلا مزيداً من التدمير وارتكاب الجرائم وقتل آلاف المدنيين من أطفال ونساء، وهذا بالعلم العسكري، ليس “رداً إستراتيجياً”، انما عبارة عن تغول لن يخرج دولة الإحتلال من مستنقع سياسي وأمني وعسكري أوقعت نفسها فيه، بدليل أنها لم ولن تُجبر المقاومة علی رفع الراية البيضاء، مثلما ظلّت بيئة المقاومة تحافظ على مناعة عالية ولم تخرج أصوات غزاوية لتغرد خارج سرب المعركة في مواجهة الإحتلال.
إن رفض الإحتلال تمديد الهدنة الإنسانية وإصراره على توسيع رقعة المعركة البرية نحو الوسط والجنوب لن يُخرجه من ورطته، وسيضطر، عاجلاً أم آجلاً، إلى القبول بشروط المقاومة لتبادل الأسری، وهذا يعني الوقوع في مأزق إستراتيجي جديد؛ فلا استمرار الحرب يُمكن أن يُحقق أياً من الأهداف الإستراتيجية، أما القبول بوقفها، فستكون له تداعيات كارثية على مستوى البنيان الإسرائيلي، سياسياً وعسكرياً وأمنياً.
في هذه الحالة، لن يكون مستبعداً قبول الكيان بوقف إطلاق نار دائم إفساحاً في المجال أمام الجهود الديبلوماسية لترتيب تبادل الأسری؛ وما يُردّده الكيان بأن العملية قد تستمر لمدة شهرين لا ينسجم مع الظروف الاستراتيجية التي يعيشها هذا الكيان الذي فقد مصداقية القوة؛ أما إذا أراد أن يستمر لستين يوماً جديداً، فان معظم التقديرات تشي أن هذه “الفرصة” لن تكون أفضل من تلك التي فاتت؛ في الوقت الذي تتحدث مصادر المقاومة عن تماسك وقدرة صمود في مواجهة الغزو العسكري البري في الشمال والجنوب والوسط.. ولأجل غير محدد زمنياً.
الكيان الإسرائيلي كان يعتمد علی أسطورتين؛ الأولی هي أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”؛ والثانية هي أسطورة مظلومية الشعب اليهودي في “الهولوكوست”. أسطورتان سقطتا في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فالجيش الذي لا يُقهر قُهِرَ فعلياً على يد الشعب الفلسطيني.. وخطاب المظلومية تعرّى بعد أن أصبحت غزة مقبرة للأطفال الفلسطينيين الأبرياء
إن ما يتم تنفيذ في غزة يشبه إلی حد بعيد ما حدث في لبنان في يوليو/تموز 2006 عندما قرّرت إسرائيل شن هجوم ضد لبنان علی خلفية خطف جنديين إسرائيليين. لم تستثنِ الماكينة الإسرائيلية مكاناً أو جسراً أو طريقاً أو محطة إلا واستهدفتها لتحقيق الأهداف المتوخاة وهي القضاء علی حزب الله؛ وتحرير الجنديين من الأسر و”بناء شرق أوسط جديد”. في المحصلة، فشلت هذه الماكينة في تحقيق أهدافها.. ووافق جيش الإحتلال على وقف العمليات الحربية، لتبدأ مفاوضات غير مباشرة أدت إلى إطلاق سراح كل الأسرى اللبنانيين في سجون الإحتلال، وهو المطلب الذي رفعه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله منذ اليوم الأول لعملية أسر الجنديين الإسرائيليين في 12 تموز/يوليو 2006.
حينذاك، اعترف كيان الإحتلال بالهزيمة وشكّل لجنة “فينوغراد” لدراسة أسباب هذه الهزيمة التي ذهب ضحيتها رئيس الوزراء إيهود أولمرت وعدد كبير من جنرالات الجيش.
هذا السيناريو يتجدد الآن في غزة وربما بمستوی أكبر لارتباط النتائج بقضيتين مصيريتين أولاهما مستقبل ومآلات القضية الفلسطينية، وثانيتهما من سيحكم غزة بعد الحرب؟
هناك عدة سيناريوهات مطروحة:
الأول؛ ترحيل سكان غزة وتوزيعهم علی عدد من الدول العربية وغيرها. هذا المشروع تم رفضه رفضاً قاطعاً من جميع الأطراف المعنية ولا يبدو أنه قابل للتنفيذ.
الثاني؛ تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية. هذا الإحتمال ضعيف جداً لأنه مرفوض من الغزاويين وهو مهلكة للسلطة بعد مواقفها الهزيلة حيال الحرب في غزة وستكون بالفعل بمثابة شرطي الإحتلال في غزة، ولا أعتقد أن تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية سيسمح بذلك.
الثالث؛ أن يُعهد الأمر لقوات دولية، وهو الأمر الذي رفضته الأمم المتحدة.
الرابع؛ تتولی إسرائيل الإمساك بالإدارة والأمن في القطاع، وهذا الإحتمال يرفضه الجانب الأمريكي الذي يُدير الحرب ويُحاول إدارة القطاع ما بعد الحرب؛ ناهيك أن إسرائيل خرجت أصلاً من القطاع قبل 18 عاماً لأنها أرادت الخروج من مستنقع أمني ـ عسكري معقد ومكلف جداً لها.
إزاء ذلك كله، تكون الأرجحية لترك أبناء غزة يُقرّرون من يدير القطاع وما عدا ذلك عملية لا تنسجم مع الواقع ولا تخدم سوی إطالة فترة الحرب التي سيكتشف قادة جيش الإحتلال أنها صارت مكلفة جداً.
على الكيان الإسرائيلي أن يُقر أنه بدأ بالتراجع السياسي والأمني منذ انسحابه المُذل من لبنان في العام 2000. ومن ثم تكرّرت هزائمه في كل الحروب التي خاضها ضد لبنان وغزة بجولاتها المتعددة. هذا الكيان كان يعتمد علی أسطورتين؛ الأولی هي أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”؛ والثانية هي أسطورة مظلومية الشعب اليهودي في “الهولوكوست”. أسطورتان سقطتا في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فالجيش الذي لا يُقهر قُهِرَ فعلياً على يد الشعب الفلسطيني.. وخطاب المظلومية تعرّى بعد أن أصبحت غزة مقبرة للأطفال الفلسطينيين الأبرياء. وفي المحصلة، نحن أمام تغيير معادلات القوة وقواعد اللعبة في الشرق الأوسط ولربما نحتاج إلى أحاديث أخرى عن مآلات التطورات الإقليمية في ضوء حرب غزة.