ارسل الرئيس المصري انور السادات مستشاره للامن القومي حافظ إسماعيل مرتين في العام ١٩٧٣ الى واشنطن للاجتماع بهنري كيسنجر الذي كان يجمع منصبي وزير الخارجية الاميركية ومستشار الامن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون. اراد السادات اقناع ادارة نيكسون بإطلاق مسار سلمي يحقق انسحاباً اسرائيلياً من الاراضي المصرية التي احتلتها في حرب حزيران/يونيو ١٩٦٧. لم تبال الإدارة الأميركية بالزيارة. اعتبر الثنائي الاميركي نيكسون وكيسنجر ان اسرائيل هي الدولة الاقوى في المنطقة ولا يمكن لمصر وحدها او بالتضامن مع بلدان عربية اخرى هزيمة اسرائيل. لذلك لم يكن هناك حاجة للقيام بجهد لاحلال السلام، خاصة وان سلف كيسنجر في وزارة الخارجية، الوزير وليم رودجرز، لم يلق تجاوبا من طرفي النزاع في محاولته تنفيذ قرار مجلس الامن الرقم ٢٤٢ الذي يطلب انسحاب اسرائيل من الاراضي العربية التي احتلتها في حرب الستة ايام مقابل معاهدة سلام، وهو القرار الذي أرسى معادلة الأرض مقابل السلام (التطبيع) منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن.
بالاشتراك مع الرئيس السوري حافظ الاسد، أطلق السادات حربًا مفاجئة ضد الدولة العبرية في تشرين الاول/اكتوبر ١٩٧٣ دمّرت المواقع الامامية للجيش الاسرائيلي وتسببت له بخسائر جسيمة: الآلاف من الجنود الإسرائيليين قتلوا والمئات من المعدات دُمّرت في الايام الاولى لتلك الحرب.
لم يعرف كيسنجر، كما يشير في كتاب مذكراته “سنوات من الاضطراب”، مدى الخسارة الاسرائيلية في الايام الثلاثة الاولى للحرب. لم تعترف اسرائيل بالخسارة ولم تخبر الاميركيين بما حلّ بها. لذلك، اعتبر كيسنجر ان اسرائيل لا تُقهر وستستعيد حتما ما خسرته فور الانتهاء من التعبئة بعد يومين او ثلاثة أيام على الاكثر، وان مصر وسوريا والاتحاد السوفياتي سيكونون ملزمين بالقبول بشروطه لوقف اطلاق النار، اي العودة الى الوضع الذي كان قائما قبل إندلاع تلك الحرب.
لم يعرف كيسنجر بالخسارة الاسرائيلية الجسيمة إلا في اليوم الرابع للحرب من صديقه سفير اسرائيل لدى واشنطن، سيمخا دانيتز، فإجتمع فورا بالرئيس نيكسون وقرر البيت الأبيض تزويد اسرائيل بكل ما تحتاجه من سلاح وذخيرة لربح الحرب.
بيّنت هذه الحرب لكل من نيكسون وكيسنجر أهمية المنطقة مجدداً، وانه لا يمكن للولايات المتحدة الاعتماد على اسرائيل لصون امن المنطقة واستقرارها، وان عرب النفط – برغم اتكالهم القوي على الولايات المتحدة، لا يُعوّل عليهم في استمرار تدفق النفط الى العالم الغربي. لذلك، إرتأى نيكسون ان تبذل واشنطن جهودها لتحقيق السلام في المنطقة.
اليوم، وبعد حوالي خمسة عقود، عادت الاستراتيجية الاميركية الى ما كانت عليه قبل حرب تشرين/أكتوبر
كان كيسنجر قد رفض عرض السادات لتحقيق سلام عربي – اسرائيلي، لكن اهداف واشنطن ـ بعد انهزام اسرائيل في الايام الاولى للحرب ـ إنقلبت وباتت على الشكل الآتي: أن تربح اسرائيل الحرب؛ ان يتفوق السلاح الاميركي على السلاح السوفياتي؛ ان لا يترجم انتصار اسرائيل في الحرب اهانة للعرب وبالاخص مصر؛ ان يفهم العرب ان مفتاح مستقبل المنطقة بيد واشنطن وليس موسكو؛ ان يقتصر دور الاتحاد السوفياتي على الشراكة الثانوية في مفاوضات السلام المرتقبة.
اليوم، وبعد حوالي خمسة عقود، عادت الاستراتيجية الاميركية الى ما كانت عليه قبل حرب تشرين/أكتوبر. هناك ثلاثة عوامل اساسية ساهمت في تخفيف الاهتمام الاميركي بمنطقة الشرق الاوسط، بدأت خلال ولاية الرئيس باراك اوباما الثانية وتستمر في عهد الرئيس ترامب:
اولا، تعتبر واشنطن ان لا قوة عربية او اسلامية قادرة على تهديد أمن اسرائيل التي اصبح باستطاعتها ردع كل تهديد ارهابي.
ثانيا، لم تعد دول الخليج العربية مهمة للمصالح الاميركية بسبب الاكتفاء الذاتي في مجال النفط.
ثالثا، برغم أهمية الشرق الأوسط، لا يملك اي رئيس أميركي إلا القليل لجعله مكانا افضل.
التطبيع لن يعيش طويلا من دون الوصول الى حل عادل ينصف الشعب الفلسطيني ويمنحه حقوقه الوطنية
ان ما تقوم به ادارة ترامب حالياً يهدف الى تقوية اسرائيل وجعلها كيانا لا يمكن هزيمته، بالاضافة الى الاعتماد عليها كقوة حليفة في الازمات، فضلا عن دعمها اقتصادياً من خلال فرض التطبيع على دول الخليج، وبالتالي تحويل إسرائيل إلى قوة للاستقرار الإقليمي يمكن الركون إليها للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة، ومن ثم تجيير مسؤولية حماية دول الخليج لها في مواجهة أي إعتداء ايراني محتمل.
والجدير بالذكر أن واشنطن وخلال ثمانينيات القرن الماضي (خلال ولاية الرئيس رونالد ريغن) سعت إلى تخزين امدادات عسكرية في الشرق الاوسط لاستعمالها عند الحاجة او في حال نشوب حرب مع الاتحاد السوفياتي او غيره، غير أن دول الخليج العربية رفضت منح واشنطن اية تسهيلات في هذا الشأن، فكان أن تبنت اسرائيل العرض الاميركي، وما زالت تستثمره حتى يومنا هذا.
صحيح أن الإمارات والبحرين طبّعتا العلاقات مع تل أبيب، لكن السعودية، وحسب الكثير من المحللين تتريث في التطبيع. من دون ادنى شك، تدرك المملكة العربية السعودية وزنها الاقليمي والدولي ولذلك من المستحسن ان تركز المملكة على إنتزاع مكاسب عربية، وبالتحديد مكاسب فلسطينية في حال ارادت تطبيع علاقاتها مع اسرائيل. ان التطبيع لن يعيش طويلا من دون الوصول الى حل عادل ينصف الشعب الفلسطيني ويمنحه حقوقه الوطنية.
على مدى عقود من الزمن المرير، فقد الشعب الفلسطيني الامل بقياداته وبالمجتمع الدولي الذي تخلى عنه. شاخت السلطة الفلسطينية وانقسم الفلسطينيون بين قطاع غزة والضفة الغربية وليس بمقدور اي من السلطتين توفير حياة “شبه” كريمة لمواطنيهما. كان طلب المجتمع الدولي من الفلسطينيين أن يوقفوا الارهاب وان ذلك سيكون كفيلاً بحل مشاكلهم واعطائهم وطنا وكرامة ورفاهية. توقف الارهاب وتدريجيا توقف الجهد لحل قضيتهم، وغابت منذ عام ٢٠١٣ المبادرات والمحاولات، بإستثناء محاولة جارد كوشنر في عهد الرئيس ترامب لشراء قضيتهم بحفنة من الدولارات. كذلك، خفض المجتمع الدولي مساهمات دوله لمنظمة الاونروا التي تساعد اللاجئين الفلسطينيين في الاراضي الفلسطينية ولبنان والاردن وسوريا.
تطبيع السعودية مع اسرائيل من دون مكاسب عربية، لن يعيش طويلا وقد يجلب في المدى القصير الكوارث والويلات على جماعة الحكم والعائلة المالكة في السعودية
ان أية خطوة سعودية في إتجاه التطبيع مع اسرائيل من شأنها أن تجر، من دون شك، بلدانا عربية واسلامية إلى الركب ذاته، ولذلك على السعودية ان تلعب دورا عربيا لا يستطيع الفلسطينيون اليوم ان يقوموا به. بإستطاعة المملكة ان تحاور اسرائيل لاعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية.
المجتمع الدولي مقتنع بحل الدولتين على اساس قرار مجلس الامن الرقم ٢٤٢ وكان الرئيس جورج بوش الابن قد اقترح ذلك في بداية ولايته الاولى. ان المكون اليهودي الاميركي يدعم بمعظمه هذا الحل ولا يؤيد مشاريع بنيامين نتنياهو في تقسيم الضفة الغربية وضم معظمها الى الدولة العبرية. انهم يخشون ان تتكرر تجربة جنوب افريقيا في حال ضمّت اسرائيل معظم اراضي الضفة. انهم يخافون انتهاء الدولة العبرية اذا تمددت اسرائيل لتصبح فلسطين التاريخية. بالفعل ان امتداد اسرائيل لتضم كل مساحة فلسطين ١٩٤٨ هو لصالح الشعب الفلسطيني، الذي يزيد عدد سكانه في هذه المساحة عن عدد السكان اليهود فيها.
كما يمكن للسعودية ان تعود الى ما اقترحه رئيس وزراء إسرائيل السابق ايهود باراك على الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بحضور بيل كلينتون في كامب دايفيد في ايلول/سبتمبر ٢٠٠٠ او الى ما إقترحه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ايهود اولمرت على ادارة جورج بوش الابن. ان تطبيع السعودية مع اسرائيل من دون مكاسب عربية، لن يعيش طويلا وقد يجلب في المدى القصير الكوارث والويلات على جماعة الحكم والعائلة المالكة في السعودية.
بالإنتصار إلى ما تبقى من قضية فلسطين، تستطيع السعودية أن تبرر أي تطبيع، أي إعادة الإعتبار لمقولة الأرض مقابل السلام. التطبيع مقابل دولة فلسطينية على اساس القرار 242. من دون ذلك، ستبقى فلسطين جرحاً نازفاً وإذا تمدد النزيف سيصيب الجسم العربي.. مهما طال الزمن.