الانتماء Archives - 180Post

799-2.jpg

حين تتقدّم الجيوش في المجتمعات المعاصرة، تتقدّم معها فكرة الانتماء بوصفها وعدًا كبيرًا، يُقدّم للجندي معنى، وغطاءً هوياتيًا، ومساحة رمزية يعيش فيها الفرد حالة اكتمال. يزدهر هذا الوعد كلما كانت الأرض الاجتماعية شديدة الخشونة، وكلما أحاطت بالفرد ضغوط اقتصادية خانقة. هكذا تتقدم المؤسّسة العسكرية كجسر يحمل الأفراد من ضفة الشقاء اليومي إلى ضفة الاعتبار الاجتماعي، فيتحول الوعد إلى انتماء، ويتحول الانتماء إلى عقيدة.

750-12.jpg

يتقدّم الجيل الجديد وسط فيض من الرموز التي تتحرك خارج ثبات التعريفات القديمة. العلاقة مع الدولة لا تتخذ شكل يقين، بل تتبدّل كجملة تتراجع علاماتُها نحو الهامش وتبحث عن معنى إضافي في كل سطر جديد. الهوية لا تتجمد، بل تتموّج مثل كتابة تُعاد كل مرة عبر إضافة حرف صغير يفتح باباً لمعنى آخر. هنا، تصبح الدولة نصاً جانبيّاً لا يملك امتياز التفسير النهائي، بل يشارك في حوار تتوزّع ملامحه على أماكن عدة، وتعيد الذاتُ ترتيبَه عبر طبقات متراكبة من التجربة والذاكرة والخيال الرقمي.

700.jpg

في المجتمعات الحديثة، يُفْتَرَض أنّ التعليم والشهادات العليا تمنح الفرد القدرة على الاختيار ورفع مستوى وعيه. إلا أنّ الواقع يكشف المفارقة الآتية: كثيرٌ من المتعلّمين يواصلون الخضوع للنّفوذ الرمزيّ، الانقياد للجماعات القويّة، أو حتى للميليشيات المحلّية، بينما ينجح آخرون في الخروج عن هذه السيطرة وممارسة استقلاليةٍ حقيقيّة. هذه الظاهرة تثير تساؤلاتٍ أنثروبولوجيةً عميقةً حول العلاقة بين المعرفة والسلطة، بين التعليم والحريّة، وبين الفرد والمجتمع. فهل يكفي التراكم المعرفيّ وحده ليحمي العقل من الوقوع تحت سلطة الرّموز والأنماط الاجتماعية؟ أم أن هناك عوامل خفية تتحكّم في الانقياد، حتى بين المتعلّمين الأعلى تأهيلاً؟