هؤلاءُ همّ قومي.. فجئني بمثلهم

"أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم/ إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ" (الفرزدق)

الفخر والكرامة والكرم والجود والتضحية والصدق.. صفاتٌ تغنت بها الشعوب على مسارات التاريخ. لقد دخلت في تشكّل سلوك الفرد والجماعة؛ صفاتٌ معها ومن حولها سالت الدماء وكثُرت الأحقاد وخيضت الحروب..

هذه الصفات مجتمعةً ورثناها بالنسب والتعلم، من ماضٍ متواصل ومتصل، كوننا الامتداد الطبيعي والتاريخي لكل من سكن البوادي والحضر في منطقة فاق تاريخها على حاضرها بكل شيء، وما استحضار التاريخ هنا إلّا للتدليل وليس التماثل. هي سرديةٌ اختلط فيها الواقع بالمتوارث، فأخذت من كل مرحلة سهماً ومن كل مأثرة نموذجاً ومن كل حدث موقفاً.

دوماً يسقط التاريخ في فخ التماثل؛ فالحق لا يتشابه وإن تراءى للبعض عكس ذلك، والمصيبة لا تتكرر وإن تشابهت الحوادث؛ فالحدّ بين المرتكزات هو ما رسمته ضروراتها.

لقد تواصلت الأحداث واتصلت، منذ موقعة قايين وهابيل وطوفان نوح إلى طوفان الأجرام المقيم في منطقة حصرتها الجغرافيا بين سور ومحيط. هو القول الذي لا يمكن إلّا وأن يكون مستقيماً؛ إذ لا رأيَ ولا التباسَ بالتفريق بين الحق والباطل أو بين القاتل والقتيل. لطالما جهدت كل عقول التآمر في تثبيت حق القاتل على القتيل، وحق الباطل على الخير. لسنا في “مقتلة” أفكار أو قيّم بل في قلب واقع معيوش ومُشاهد وواضح ومعروف، لا يلتبس ألّا بفعل فاعل، إرادوياً كان أم عن سابق تصور وتصميم وقرار. هي ليست أحجية ولا متاهة ولا معضلة؛ هي قضية ابتلعت كل أبنائها وهضمتهم. لا غشاوة تُغطي المشهد المستمر منذ قرن من التجني والتآمر والتخاذل وغضّ الطرف.. حمامُ الدم المفتوح لم يجف بعد، والبلطجة تستكمل فصولها مع عدة النهب والسلب والترهيب والتهديد والوعيد والعقوبات والحصار.. وغيرها مما تفننت به آلة الحكم القادمة من الغرب.

نعم، الصورة لا تغشاها الرؤية بل واضحة وضوح الشمس. نحن وهُمّ، كلٌّ في طرفه. لنا آباؤنا وأعمامنا وأولادنا ولهم كذلك. لنا قضايانا ومشاكلنا ولهم كذلك. نحن أبناء عمومة لكن هم أغراب. نحن جيران مع البقية لكن هم دخلاء.. جاؤوها بغفلة من الزمان والتاريخ؛ تسلّلوا من بين مصالح دول غارقة حتى أذنيها في القتل والتنكيل.. فأصبحوا داخل الدار. إمبريالياتٌ وافدة من حروب وأزمات اجتاحت العالم وأعادت توزيعه ولو بالمجان على الأتباع والمرابين. هي لعنة التاريخ ومأساة الجغرافيا، التي أسقطت أحلام الوحدة في فخ الكانتونات، فصرعت بذلك أحلام الدم العربي الموعود باستعادة إرث أجداده كي يبني دولته المشتهاة، فإذ به يبني أسواراً وحدوداً وكيانات تُرسم بالدماء والدموع والعجز. هنا المعضلة التي بدأت وتوالت والآن تحاول قطف ثمار ما جنته على أشلاء شعوبنا العربية المتناثرة بين الأنظمة وحكامها. ومع ذلك، لنا في كل قضية رأي نعمل به ولنا سلوك وأخوة ورفاق نفتخر بهم؛ لنا أمهات تبكين وتزغردن لشهدائهن. لنا المقاومة التي قاومت مخارز كل العالم المصطف وراء القاتل في وجه المقتول. هؤلاء هم آباؤنا وعمومتنا وإخوتنا ورفاقنا وأصدقائنا. هؤلاء هم الذي يصنعون أيامهم بتعب ساعاتهم ومستقبلهم بدماء أطفالهم. هم أجيال تتوالى وتتابع وتتطور وتكبر.. ومعها كل شيء كي يبني الكرامة والعز وإن ضاقت الأرض بشهدائها فرحاب السماء أوسع. هؤلاء هم أهلنا ومستقبلنا أما أنتم فمن أنتم؟

لن يكون الانتماء العرقي أو الإثني أو الديني عقدة الوصل بين الناس بل القضايا. لن يكون الولاء للأنظمة أو الدول هو المحدد للموقف واستكمالاً للسلوك، بل هو بما يجب فعله في خدمة قضايانا. لقد أهدرنا وقتاً ودماً وأرضاً.. ولمّا نزل نراوح عند خطوط البدايات. هي قضايا التحرر والتحرير ورفع الظلم وكسر التبعية وفك الهيمنة.. أضعنا كثيراً من الوقت المخصص لإنجاز موجبات تحقيقها.

الانحياز إلى الشعوب واجب؛ الانحياز إلى القضايا المحقة واجب والقيام بمقتضيات المطلوب هو فعلٌ يجب أن يكون يومياً ومستمراً. من يقاوم العدوان في أي منطقة من العالم هو من قومي، وكل من يدفع دمه وحياته وسنيّ عمره هو من قومي، وكل صاحب رأي حر وواضح يجهر به ولا ينكره هو من قومي، وكل من انتفض في وجه المظالم وثار عليها هو من قومي.. هؤلاء وأولئك همّ منّا ونحن منهم، فمن التبس الأمر عليهم، ليس عليهم إلّا أن يُعيدوا تكوين مرتكزاتهم وأن يُحدّدوها كي لا تضيع بوصلتهم أينما اتجهوا. هؤلاء هم قومي فجئني بمثلهم عندما تجمعنا المجامع في أي قضية أو موقعة أو رأي يستوجب الاصطفاف للمواجهة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  عن فلسطين التي عادت لتخرج على "إسرائيل"
حسن خليل

كاتب، أكاديمي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أوميكرون إنتشار أسرع.. مخاوف أقل ولكن