الحراك “مسيحياً”… تحوّل اجتماعي محاصر برهان “قواتي”

لم يتأخر "الشارع المسيحي" في الانخراط المباشر في حركة الاحتجاج غير المسبوقة ضد الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان. خرجت الجموع في أكثر من منطقة على امتداد ما كان يعرف في زمن الحرب الأهلية بـ"المنطقة الشرقية"، رافعة مطالب اقتصادية – اجتماعية جامعة. مع ذلك، لا يمكن انكار المحاذير التي يمكن أن تفرزها مرحلة ما بعد استقالة حكومة سعد الحريري، على النحو الذي يبدد وحدة المطالب بين الساحات، لصالح رهانات وإشتباكات سياسية يغلب عليها الطابع الرئاسي، بدليل ما حصل في أكثر من ساحة وآخرها في بكفيا.

لم يتأخر ما يسمّى في أدبيات مصابي “فوبيا” الحرب الأهلية بـ”الشارع المسيحي” عن الحراك الشعبي. منذ اللحظة الأولى، انخرط المواطنون على امتداد المتن وكسروان وجبيل (جبل لبنان) وصولاً إلى البترون (الشمال) في الانتفاضة العابرة لحدود المناطق والطوائف، بكل طاقتهم، لا بل أن حركتهم ربما شكلت الضغط الأكبر على السلطة السياسية، من خلال نجاحهم في اقفال الطرق، ولا سيما الطريق الساحلي الممتد من شكا في شمال لبنان إلى جل الديب عند المدخل الشرقي للعاصمة بيروت.

لا مطالب طائفية حرّكت غالبية المتظاهرين في “الشارع المسيحي”، ومعظمهم من أبناء الطبقة الوسطى، في ما عدا بعض الأصوات القليلة التي ركّز عليها بعض الإعلام، لأسباب لا تخفى في بلد مثل لبنان على أحد. شعارات من قبيل “نزع سلاح حزب الله” و”اعتماد النظام الفدرالي” و”حقوق المسيحيين” كانت هامشية مقارنة بالشعارات الأساسية التي وحّدت ساحات التظاهر من أقصى لبنان إلى أقصاه.

هذا الواقع، لم يكن حصراً على ساحة تظاهر “مسيحية” دون سواها، فحتى أولئك الذين تظللوا بصورة بشير الجميّل في ساحة ساسين في الأشرفية (بيروت)، تجاوزت شعاراتهم أيّة محاولة لشيطنة الحراك الشعبي، وتكاد تتطابق، إلى حد الاستنساخ، مع الشعارات التي رفعها كل من وجد في الشارع فرصة للتعبير عن الرأي.. والسعي للتغيير.

ثمة استثناء وحيد خرجت فيه الشعارات في مناطق الأشرفية وجل الديب والدورة والذوق وجبيل عن إطار المطالب الاقتصادية – الاجتماعية: “هيلا هيلا هيلا هوو….” بنسخ متعددة تعكس الاستياء الشديد من “العهد”، بفخامة رئيسه ميشال عون وصهره جبران باسيل. لكنّ الهتاف نفسه لم يكن استثناءً “مسيحياً”، طالما أنه وحّد بدوره الكثير من الساحات، وإن كان لإطلاقه في “الشارع المسيحي” وقع مختلف، في ظل صراع الثنائية العونية – القواتية.

هنالك ملاحظة لا بد من تسجيلها في الحديث عن الحالة المسيحية. في اليومين الأولين من الإنتفاضة الشعبية، ظلّ الحراك، مسيحياً، على تقاطع مع خصوم السياسة، أو على الأقل مع القاعدة الشعبية لأولئك الخصوم، ولهذا لم يجد “المسيحيون” في جل الديب أو الجديدة أو الدورة أو ضبيه أية حساسية في أن يلاقوا احتجاجات “البيئة الحاضنة” لـ”حزب الله” في بعض الأحياء “الشيعية” في منطقة المتن الشمالي، وبالتالي، فإنّ تحرّكهم لم يتأثر بانفضاض البيئة التي يفترض أن تكون حزب اللهية عن حراكهم، ابتداءاً من الخطاب الأول للسيد حسن نصرالله في مدينة بعلبك.

انطلاقاً من ذلك، فإنّ دخول “القوات اللبنانية”، على خط الحراك الشعبي، بعد كلمة نصرالله تحديداً، ومن ثمّ بعد استقالة الوزراء القواتيين من الحكومة – مع العلم بأنّ مناصري حزب “الكتائب اللبنانية” كانوا حاضرين منذ اليوم الأول في الاحتجاجات – شكّل قوة زخم للشارع المسيحي المنتفض، ما ساهم في تعويض الخسارة الناجمة عن انفضاض التقاطع الأول مع جمهور “حزب الله”، لمصلحة تقاطع جديد مع الجمهور “القواتي”.

من عاش في ما كان يسمّى “المنطقة الشرقية” يدرك جيداً ما يعنيه كل ذلك من اختراق في جدران الطائفية والمناطقية

برغم تغيّر “قوة الدفع” بتبدّل التقاطعات، لم تتبدل الشعارات. حتى الجمهور “القواتي” و”الكتائبي” كان مستعداً لتقبّل لائحة مطالب هتف بها أحد الناشطين “المدنيين” خلال تجمّع حاشد في جل الديب، تجاوزت الأهداف الاقتصادية – الاجتماعية لتصل إلى شعارات غالباً ما كان الشارع المسيحي ينظر إليها بريبة، وحتى بنفور، من قبيل “إقامة الدولة المدنية” و”انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي”، وحتى “حل الأحزاب”!

يضاف إلى ما سبق، ظاهرة ندر أن شهدتها “المناطق المسيحية”، وتتمثل بالتفاعل الوثيق مع مناطق خارج حدود “الحرب الأهلية”. هذا ما أمكن رصده في نقطتي التجمّع الرئيستين في الأشرفية، حين وقعت الاعتداءات من قبل “بلطجية” السلطة الحاكمة على المعتصمين في النبطية، برغم أن المسافة الفاصلة بين ساحة ساسين وشارع الحكمة في الأشرفية وبين الجنوب اللبناني غالباً ما كان يُعتقد أنها تقاس بالسنوات الضوئية.

ليست تلك الملاحظات مجرّد “يوتوبيا ثورية” ساذجة. من عاش في ما كان يسمّى “المنطقة الشرقية” يدرك جيداً ما يعنيه كل ذلك من اختراق في جدران الطائفية والمناطقية التي ظلت عصية على الهدم طوال السنوات الثلاثين الماضية. الجدران التي قرر أحد رموزها في السابق، إعادة رفعها في الحاضر (جدار نفق نهر الكلب)، لكن الناس كانت أكثر وعيا وحضورا وتحطيما لمنطق العزل.

بذلك، بدا “الشارع المسيحي” متصالحاً مع ذاته في الحراك الشعبي، بعيداً عن التشويه الذي فشل كثيرون في تعميمه على الحراك الشعبي، وتحديداً حين يتعلق الأمر بتهمة “التسييس”. أوجه التصالح الذاتي يعبّر عنها أحدهم حين يستذكر أن “الثورة البيضاء” ضد فساد عهد بشارة الخوري كانت شعبيةً وسياسيةً في آن، اتحد فيها اليسار الجنبلاطي مع اليمين الشمعوني – الكتائبي، وهو ما يمكن أن يبرر تقاطع “القوات” و”الكتائب” حالياً مع الحراك المدني. يستذكر الرجل نفسه كيف أن حزب الله أقام مهرجان لائحة بعبدا للإنتخابات النيابية في العام 2005 في المربع الأمني للحزب في حارة حريك، وتقدم الصفوف ممثل القوات اللبنانية إدمون نعيم، ورفع نصرالله وقتذاك شعار الـ 10452 كلم2، الذي كان يرفعه الزعيم المسيحي بشير الجميل في ثمانينيات القرن الماضي.

إقرأ على موقع 180  إتفاق مار مخايل في شراك أزمة إقتصادية غير مسبوقة

هذا ما يثير قلق العونيين، الذين اربكهم الحراك كثيراً، بسبب تذبذب قاعدتهم الشعبية، التي بدت حائرة بين تشاركها الغضب الاجتماعي مع جموع المحتجين وبين عجزها عن الخروج من تحت جلباب الجنرال – الرئيس، تماماً كالإرباك الذي حدث مع القاعدة الشعبية لـ”حزب الله” التي بدت بدورها حائرة بين الهم الاقتصادي – الاجتماعي و”قدسية” المقاومة.

ولعلّ هذا الإرباك “العوني” بالذات، هو ما يمنح “القوات اللبنانية”، وبدرجة ربما أقل “الكتائب اللبنانية”، فرصة كبيرة لتعزيز موقف كل واحد منهما في الوسط المسيحي، خصوصاً أنّ انخراطهما في الحركة الاحتجاجية جاء بأجندة عنوانها اقتصادي – اجتماعي، ومضمونها سياسي، تعبيرا عن شارع محبط من “العهد” أو رافض لخياراته.

نقطة الضعف الأساسية عند قوى الحراك الشعبي،  هي غياب القيادة الثورية التي من شأنها أن توجه البوصلة وتحصّن الإرادة الشعبية من الرهانات والمغامرات السياسية

ومع دخول الحراك الشعبي شهره الثاني، صار العامل السياسي متقدماً على العامل الاقتصادي – الاجتماعي، وبالتالي فإنّ المزاج المسيحي قد يتغيّر بدرجة أو بأخرى، بحسب تغيّر إيقاع الحراك على المستوى الوطني، وهذه بحد ذاتها جزئية قد تبدو هامشية، ولكنها تبقى مؤشراً مهماً على التحوّلات الاجتماعية والسياسية في البيئة المسيحية.

باختصار، فإن المرحلة الأولى من الحراك الشعبي رسمت خريطة شبه مكتملة في “الشارع المسيحي”، قد تتسع حدود السياسي والاجتماعي فيها بشكل ضئيل، ولكنها في العموم باتت تتوزّع على النحو الآتي:

  • معسكر الحراك، الذي يشكل خليطاً متجانساً اجتماعياً، مع بعض التناقضات السياسية، ويضم مناصري “القوات اللبنانية” و”حزب الكتائب” والمجتمع المدني غير المكتمل المعالم (وبعضه أصوله عونية) في المناطق المسيحية (بعكس ما هي الحال في مناطق أخرى في لبنان)، والذي يتمتع بخصوصية معيّنة بسبب جمعه بين جمهور ذي ميل (لا انتماء) يساري (أقرب إلى النزعة الديمقراطية – الاجتماعية)، وآخر غير مسيّس ولكنه أقرب ما يكون إلى “نوستالجيا” المارونية السياسية، وهو بدأ يعبّر عن نفسه من خلال شعارات محددة عنوانها العريض “الجيش هو الحل”.
  • معسكر “العهد”، الذي يواجه أكبر التحديات السياسية، في ظل شعوره بعجز واضح في الدفاع عن سياسات جبران باسيل، من جهة، وتشكيكه في القدرة على مخاطبة الشارع المسيحي، والى حد ما جمهوره الخاص، بشعارات مستهلكة منذ العام 1990، لا يبدو أن الزمن سيسمح بإعادة تدويرها، من جهة ثانية.

بهذا المعنى، قد تصبح “القوات اللبنانية” المستفيد الأبرز من الحراك على الساحة المسيحية، أخذاً في الحسبان أنها القوة السياسية الأساسية المنافسة لـ”التيار الوطني”. ولا يغيّر في الأمر اتهامات البعض لها بركوب الموجة، طالما أن السياسة التي تتبعها منذ سنوات تتسم ببراغماتية تستطيع من خلالها القفز فوق الثوابت الايديولوجية لتحقيق أهداف سياسية كبرى على المدى القريب، أو ربما المتوسط، خصوصاً في ظل المتغيرات التي قد تطرأ على الوضع السياسي في البلاد، في حال تحوّلت حركة الاحتجاج بالكامل من طابعها الاقتصادي – الاجتماعي إلى معركة وجود سياسية تتبدل معها التحالفات، لا سيما إذا خرج سعد الحريري من المعادلة الحكومية، وبالتالي، تكون البلاد متجهة نحو مواجهة شاملة.

كل ما سبق يتوقف على مستقبل الحراك الشعبي، ضمن المستوى الوطني العام، ذلك أنّ أياً كانت الطموحات السياسية المفترضة لــ”القواتيين”، فإنّ شكل المواجهة الشعبية للسلطة في لبنان وحدها التي من شأنها أن تشكل الإطار المنظّم لأولويات هذا الفريق السياسي أو ذاك، أخذاً في الحسبان، في الوقت ذاته، أن نقطة الضعف الأساسية عند قوى الحراك الشعبي،  هي غياب القيادة الثورية التي من شأنها أن توجه البوصلة وتحصّن الإرادة الشعبية من الرهانات والمغامرات السياسية التي تبقى “القوات اللبنانية” متهمة بها… إلى أن يثبت العكس.

Print Friendly, PDF & Email
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الحريري ولغم باسيل: تعديل أو تغيير وزاري