أوّلاً؛ من الواضح أنّ موازين القوى الدّوليّة والإقليميّة تتغيّر، ولو بسرعة متفاوتة وغير ثابتة:
أن تتجرّأ دولة بحجم إيران النّسبيّ، مع ما تُمثّله من تحالفات دوليّة، من توجيه ضربة بهذا الحجم النّسبيّ، مع ابلاغٍ جميع المعنيّين – مُسبقاً أو شبه مُسبقاً – بقرب الضّربة: وذلك برغم تهديدات الكيان الاسرائيليّ وحلفائه بطولهم وبعرضهم وبعددهم.. ليسَ بالأمر العابر أبداً.
علينا أن نفكّر بهدوء، وبعيداً عن العاطفة. ليس من البسيط أبداً ولا بالأمر العابر استراتيجيّاً وجيو-سياسيّاً أن تحصلَ هذه الضّربة الإيرانيّة:
(١) بهذا الحجم النّسبيّ؛
(٢) وبهذا التّحدّي السياسي والعسكري (وليس الأمني) الواضح والعلنيّ للموازين الإقليميّة والدّوليّة؛
(٣) ومع اعلامٍ للمعنيّين شبه مُسبَقاً بالتّوقيت.
ولا أدخل هنا في تفاصيل العمليّة من الزّاوية التّقنيّة ولا في معانيها العسكريّة. لكنّه من اللّافت للإنتباه أيضاً أن تُصيب الضّربة بعض أهدافها الأساسيّة، برغم اجتماع قوى عظمى وإقليميّة متعدّدة بغيةَ اعتراض المُسيّرات والصّواريخ. كيف تفشَلُ هذه القوى العظمى وغير العظمى (أبداً) جميعها، مع الكيان الاسرائيليّ، ومع حلفائهم من العرب والعجم: في منع.. ولو عدد قليل نسبيّاً من المسيّرات والصّواريخ الإيرانيّة، من الوصول إلى أهدافها العسكريّة كما شاهدنا وكما تمّ تناقله عبر وسائل الإعلام الجدّيّة والمُعتَبرة (وكما اعترف العدوّ نفسه)؟
وأقول هذا كلّه طبعاً، دون الولوج في الجانب الرّمزيّ المهمّ جدّاً ضمن الخطّة الإيرانيّة:
(١) دولة إسلاميّة تتوعّد الكيان وحلفاءه وتقوم بضربتها علناً، ولو كرِه الكارهون؛
(٢) دولة إسلاميّة وشرق أوسطيّة تُعطّل عمليّاً: كياناً من النّوع الجبروتيّ والاستكباريّ والاستعماريّ.. عن العمل الطّبيعيّ ولأيّام وربما لأسابيع؛
(٣) دولة إسلاميّة وشرق أوسطيّة تنجح في حبس أنفاس الإقليم والعالم لأيّام، وتثير اضطراب وذعر الكيان وأهله برغم التّفوّق المطلق لهذا الكيان على المستوى التّكنولوجيّ والعسكريّ والمادّي (بشكل عامّ)؛
(٤) دولة إسلاميّة تُرسل، بأمر من قادتِها، مُسيّرات وصواريخ يراها أهل الضّفّة وتمرّ من فوق المسجد الأقصى.. كأنّها تحيّيه من زاويةِ يومٍ موعودٍ بين المُرسِل وبين المُرسَل إليه.
العدوّ نفسه قد اعترف بوصول بعض الصّواريخ والمُسيّرات برغم هذا التّحالف الضّخم لصدّ الهجوم؛ وهو لم يستطع طبعاً إلّا وأن يعترفَ بأنّ “حجم” الضّربة (تقنيّاً ورمزيّاً) لا يمكن أن يمرّ بغير ردّ مبين. فما بالنا لا ننظر إلى الأمور بهدوء وبموضوعيّة؟ فعلاً، لم يزل العقل الجيوسياسيّ الإيرانيّ متفوّقاً على عقلنا السّياسيّ التّحليليّ (العربي)
لقد أخطأ كثير من المحلّلين، ومنهم أصدقاء وزملاء، في تقييم هذه العمليّة برأيي: إمّا لأنّهم أساؤوا فهم أهدافها (مع أخذ بالاعتبار معالم ما سمّيناه سابقاً “بالعقل الجيو-سياسيّ الإيرانيّ”)؛ وإمّا لأنّ عاطفتهم السّلبيّة تجاه إيران حجبت عنهم جزءاً كبيراً من حقيقة الحدث ومضامينه ومعانيه. وأكرّر: “الأضرب” للجميع، أنّ العدوّ نفسه قد اعترف بوصول بعض الصّواريخ والمُسيّرات، برغم هذا التّحالف الضّخم لصدّ الهجوم؛ وهو لم يستطع طبعاً إلّا وأن يعترفَ بأنّ “حجم” الضّربة (تقنيّاً ورمزيّاً) لا يمكن أن يمرّ بغير ردّ مبين. فما بالنا لا ننظر إلى الأمور بهدوء وبموضوعيّة؟ فعلاً، لم يزل العقل الجيوسياسيّ الإيرانيّ متفوّقاً على عقلنا السّياسيّ التّحليليّ (العربي).
إذن، ومن دون الدّخول في كلّ هذه الجوانب وتفاصيلها لا بدّ من تذكّر هذه النّقطة الجوهريّة التي عكسها الرّدّ الإيرانيّ في اعتقادي: نعم، إنّ موازين القوى القائمة إجمالاً منذ سقوط الاتّحاد السّوفياتي في أواخر القرن المنصرم.. تتغيّر واقعيّاً، ولو بنسب متفاوتة وبسرعة متغيّرة حسب الزّمان والمكان والظّرف والسّياق.
ثانياً؛ الضربة الإيرانيّة تؤكّد الحقيقة المُرجَّحة منذ “طوفان الأقصى” بأن “إسرائيل” كيانٌٌ قائمٌ بغيرِهِ، لا كيانٌ قائمٌ بذاتِه:
هل مشهد تعاون كلّ هذه الدّول وقوّاتها المسلّحة وأجهزتها الأمنيّة والتّكنولوجيّة وما إلى ذلك: هل مشهد تعاونها جميعاً مع الكيان، على دولة إقليميّة واحدة بحجم إيران النّسبيّ، بهدف محاولة حماية هذا الكيان من ضربة إيرانيّة محدودة إجمالاً.. هل هو مشهد قوّة أم مشهد ضعف لهذا الكيان في مضمون الأمور وحقيقتها؟
بالطّبع، وبشكل موضوعيّ وموزون، يمكننا الادّعاء بأنّنا هنا أمام مشهد ضعف، ومشهد ضعف كبير وعميق وبعيد الأمد: فيما يخصّ “إسرائيل” ذاتها طبعاً.
باختصار، ومنذ عمليّة ٧ تشرين الأوّل/أكتوبر، يبعث الكيان الإسرائيليّ بإشارات ومؤشّرات ضعف ذاتيّ لا يُستهان بها. فهو يبدو عاجزاً عن القيام بذاته، أي دون دعم الدّول الغربيّة اجمالاً، والولايات المتّحدة خصوصاً (بعكس ما يريد الإيحاء به، على الأقلّ منذ نهاية حرب أكتوبر ١٩٧٣):
(١) اقتصاديّاً: هل من العقلانيّ بعدُ اعتبار أنّ هذا الكيان قادر على الاستمراريّة اقتصاديّاً وماليّاً ونقديّاً من غير داعميه؟
(٢) اجتماعيّاً (وثقافيّاً): هل ما يزال عاقلٌ يؤمن بقبول الصهاينة بالبقاء في هذا الكيان، وبالإيمان في استمراريّته (والهجرة إليه)، لولا مختلف أنواع التّدخّل و”التّطمينات” والدّعم والتّسويق الغربيّة؟
(٣) عسكريّاً، فلا شكّ في أنّ:
١/ مذلّة “طوفان الأقصى”؛
٢/ ومسخرة “حرب غزّة” التي لم تحقّق إلى اليوم أيّ هدف من أهدافها الاستراتيجيّة، باستثناء الإبادة الجماعيّة وملاحم الإجرام واللّا-أخلاقيّة؛
٣/ ومهزلة عدم قدرة “إسرائيل” على الدّفاع عن نفسها أمام إيران وحلفائها، بغير تدخّل أميركيّ مباشر ومبين؛
٤/ و”بهدلة” الاعتماد شبه اليوميّ للكيان على الذّخائر والفرق والمساندة التّقنّية الغربيّة.. في حربٍ على فصيل مقاومة بحجم وقدرات حركة “حماس”..
.. كلّها عوامل تدلّ بشكل واضح على أنّنا استراتيجيّاً: أمام كيان قائم بغيره، لا أمام كيانٍ قائمٍ بذاته في حقيقة الأمور. وإنّها لا شكّ لنُقطةٌ ذات معنى استراتيجيّ عميق وكبير وبعيد المدى.
هل سيكتفي أهل ذلك المحور، على المدى البعيد: باستيراد التّقنيّات من الصّين وكوريا الشّماليّة وروسيا وغيرها، مع تعديلها وتحسينها من قبل مهندسين إيرانيّين من ذوي الكفاءة العالية، ومن ذوي القدرة الابتكاريّة الأكيدة في كثيرٍ من المجالات
ثالثاً؛ كيف ستزيد قوى محور المقاومة، ولا سيما إيران، سرعة تقليص التّفوّق التّكنولوجيّ الغربيّ على المدى البعيد:
بالرّغم من أهميّة وحقيقة ما سبق برأينا: ما تزال المنظومة الغربيّة السّاندة والدّاعمة للكيان الإسرائيليّ متفوّقة تكنولوجيّاً، وبشكل واضح وأكيد.. برغم التّقلّص التّدريجيّ النّسبيّ للفارق التّكنولوجيّ في السّنين والعقود الأخيرة. ليس من العابر أن يكون معيار نجاح عمليّة كهذه لدولة كإيران: أن يصل عدد صغير نسبيّاً من المُسيّرات والصّواريخ إلى أهدافه (دون الحاجة هنا إلى قبول تقديرات العدوّ وحلفائه وبأيّ شكل من الأشكال).
علينا، هنا أيضاً، أن نبقى موضوعيّين: لا ريبَ أنّ الفارق التّكنولوجيّ العامّ يتقلّص، ولكنّه لا يزال موجوداً وهو من الصّنف المؤثّر والملموس جدّاً.
وكما رأينا في السّابق من القول والمقال، فإنّ التّفوّق التّكنولوجيّ الغربيّ ليس وليدَ صُدفة أبداً، بل هو نتيجةٌ لتراكمات علميّة، خلفها تراكمات مفاهيميّة وثقافيّة وحضاريّة هائلة.
لذلك، لا شكّ في أنّ مشهديّة الهجوم الإيرانيّ الأخير مُضافةً إلى مشهديّة الاعتراض ذي الطّابع التّكنولوجيّ العالي الكفاءة ـ ولو نسبيّاً ـ يحتّمان العودة إلى سؤال مستقبل المجتمعات والأفراد والعقول ضمن دول ومحور المقاومة. فهل سيكتفي أهل ذلك المحور، على المدى البعيد: باستيراد التّقنيّات من الصّين وكوريا الشّماليّة وروسيا وغيرها، مع تعديلها وتحسينها من قبل مهندسين إيرانيّين من ذوي الكفاءة العالية، ومن ذوي القدرة الابتكاريّة الأكيدة في كثيرٍ من المجالات (ولا شكّ في أنّ هؤلاء وزملاءهم من أهل المحور قد صنّعوا تقنيّات إيرانيّة ومحلّيّة بحتة، بغير استيراد، لا شكّ في ذلك أبداً)..
أم أنّ هؤلاء القادة، أي قادة محور المقاومة والممانعة، سيقتنعون أكثر فأكثر، وبشكل جدّيّ وملموس أكثر، بالضّرورة العاجلة: للعمل على المشاريع الدّاخليّة في كلّ بلدٍ من البلدان المعنيّة، وفي كلّ قطرٍ من الأقطار.. أي: مشاريع بناء المدارس والمعاهد والجامعات غير الفاسدة، والأجيال غير الفاسدة، والمؤسّسات غير الفاسدة، والدّول غير الفاسدة (في ما عدا إيران نفسَها طبعاً).. بل المنتِجة جميعاً، والجدّيّة جميعاً، والتي تُقنع الشّباب بالبقاء في هذه البلدان المعنيّة، بدلاً من الهجرة البدنيّة والعقليّة والثّقافيّة – والتّكنولوجيّة! – إلى دول “الاستعمار” ذاتها التي تتمّ مواجهتها في المبدأ!
***
كلّها نقاط وتساؤلات من العيار الاستراتيجيّ وبعيد الأمد بالتّأكيد.. لا بدّ أن يأتيَنا الآجلُ بإجاباتٍ حولَها، إن لم يأتِ بذلك القريبُ العاجل (خصوصاً بسبب المأزق الذي وقعت فيه “إسرائيل” في هذا السّياق: وهي رمزٌ نموذجيٌّ لثقافة “الرّدّ العاجل” الغربيّة).
اللّهمّ لا تجعلْنا وقومَنا ممّن يُعميه العاجلُ عن رؤية الآجل، أو ممّن يُقال فيهم يوم لقائِك: إنّهم أرادوا العاجلةَ.. وتركوا وراءَهم يوماً ثقيلا.