في ظل هذا المسار، أعيد من جديد فتح ملف الوساطة بين حركة حماس وإسرائيل، وذلك عقب هجوم رئيس وزراء دولة قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني على ما أسماه “المصالح السياسية الضيقة”، مؤكداً أن قطر “ستُعيد تقييم” دورها كوسيط، في ملف حرب غزة.
وثمة أصوات تحريضية تخرج إلى العلن في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بغية دفع قطر لمحاصرة حماس سياسياً والضغط عليها للقبول بالورقة الأميركية التي قُدّمت مؤخراً للحركة وجرى رفضها لأنها تحمل بصمات حكومة الحرب الإسرائيلية في كل ثنايا سطورها وكلماتها لا بل حروفها.
وبرغم جهود قطر الدؤوبة وتنسيقها الوثيق مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) ولا سيما في محاولة التوسط لإبرام صفقة لإطلاق سراح الرهائن الذين يزيد عددهم عن 130 أسيراً إسرائيلياً بين مجندين ومدنيين إلا أن التشويش الإسرائيلي عبر لوبيات ومجموعات الضغط الفاعلة في واشنطن وصل إلى الكابيتول هيل.
والأكيد أن زعم الجمهوريين في لجنة الرقابة والمساءلة بمجلس النواب الأميركي أن قطر دفعت لحركة حماس عشرات ملايين الدولارات شهرياً منذ العام 2018 ليس ادعاءً بريئاً، فأسماء نواب مثل تيد بود وريك سكوت وجوني أرنست الذين اندفعوا لتقديم تشريعات لتجريد الدوحة من وضعها كحليف فاعل من خارج حلف شمال الأطلسي، لا يتحركون من تلقاء أنفسهم لا سيما عندما يكون العنوان بحجم شطب امتياز ما لا يُعطى في العادة إلا للحلفاء الأكثر موثوقية لواشنطن.
قامت وفود حمساوية بزيارة كل من سلطنة عمان وجنوب أفريقيا وتنوي القيام بزيارات إلى الجزائر والعراق بغية طرح فكرة تمركز جزء من وجوه حماس السياسية والأمنية والمالية في دول لا يُشكّل وجودها فيها عُنصر استفزازٍ لواشنطن
ومن يُراجع أسماء النواب الثلاثة الأميركيين يُدرك قدرة إسرائيل الفائقة بالتأثير عليهم كونهم يمثلون فلوريدا ونورث كارولينا حيث الحضور اليهودي الأكثر كثافة في الولايات الأميركية، لكن بالتوازي، لهؤلاء النواب علاقاتهم الخليجية المهمة والمتقدمة وبخاصة مع دولة الامارات.
من هذا المنطلق، يُمكن فهم خلفيات الجهود التي تقوم بها حركة حماس مع دول عديدة لنقل جزء من قيادة الصف الثاني في الحركة إلى دول أخرى. في هذا الإطار، قامت وفود حمساوية بزيارة كل من سلطنة عمان وجنوب أفريقيا وتنوي القيام بزيارات إلى الجزائر والعراق بغية طرح فكرة تمركز جزء من وجوه حماس السياسية والأمنية والمالية في دول لا يُشكّل وجودها فيها عُنصر استفزازٍ لواشنطن.
وثمة مصطلح أكاديمي يُطلق على تنقل قادة جماعات الكفاح المسلح في العالم وهو “هجرة الهجرة”، وهذا الفعل خبرته حماس منذ تأسيسها بدءاً من مخيم مرج الزهور في شرق لبنان (1992 ـ 1993) إلى ابعادها من الأردن إلى سوريا ومن سوريا إلى الدوحة ومن الدوحة إلى إسطنبول فبيروت، ولا يمكن التنبؤ إلى أي وجهة يُمكن أن تستقر الحركة إذا ما جرى الطلب جدياً منها الانسحاب من عواصم لطالما احتضنتها في السنوات الأخيرة، وتحديداً الدوحة.
وليس سراً أن حزب الله نفسه لم يستطع اقناع حليفه الرئيس بشار الأسد باستضافة بعض القادة الميدانيين في الحركة، في ذروة عودة الأسد لما يُسمى “الحضن العربي”، الأمر الذي تُرجم بفتح خزائن دول عربية، ولا سيما الإمارات، للحفاظ على بقاء الهيكل السياسي والأمني للنظام السوري.
وبعيداً عن كل الحملات التي تتعرض الدوحة لها منذ أشهر من مجموعات الضغط الإسرائيلية المُمولة عربياً، ثمة وقائع سياسية ودبلوماسية في العلاقة الأميركية – القطرية لا يُمكن القفز فوقها مهما بلغت الظروف والتحديات وأهمها الآتي:
أولاً؛ الدوحة هي الحليف الخليجي الأبرز لكل الإدارات الأميركية، جمهورية كانت أم ديموقراطية، وهذا التحالف الاستراتيجي تدرج في كل المراحل وكسب ثقة المجتمع الدولي والإدارات الأميركية المتعاقبة وخصوصاً أن الشراكة تتعدى السياسة والأمن، لتشمل مناحي اقتصادية واستثمارية وعلاقات مع مختلف شرائح المجتمع الأميركي في إطار سياسة قطر بالحضور داخل البيئة الغربية والاستثمار في العلاقات مع أطراف دولية واقليمية عدة.
لا يستطيع أي عاقل أن يجزم بأن واشنطن نفسها تريد خنق حماس حد الموت والاجتثاث، بدليل الرسائل الأميركية التي وصلت وتصل للحركة عبر أطراف متعددة لفتح قنوات حوار مستقبلي، وهذه الرسائل كانت قد ترجمت قبيل “طوفان الأقصى” باجتماعات بين حماس الخارج وبين وكالة الاستخبارات الأميركية على أرض الدوحة
ثانياً؛ قدّمت دولة قطر نفسها، منذ عهد الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وصولاً إلى عهد الأمير الحالي الشيخ تميم بن حمد، وسيطاً في ملفات إقليمية ودولية عديدة، كما أن الدوحة التي سهّلت العديد من الاتفاقات في لبنان والعراق والصومال ودول أفريقية وأخرى آسيوية والدخول على خط المصالحات الوطنية في دول عربية متعددة، باتت حديقة خلفية لربط العلاقات بين أطراف النزاع العالمي، بدليل ما جرى في أفغانستان وما جرى سابقاً بين ايران والولايات المتحدة وفنزويلا، إضافة لما حقّقته خلال الحرب الأوكرانية – الروسية من تبادل للأسرى أو لفتح ممرات إنسانية، لذا فإن هذا الأداء لا يمكن لواشنطن مهما بلغ امتعاضها من فشل تحقيق نقاط لصالح إسرائيل بالتضحية بعلاقتها المتينة مع القطريين لأهداف مرحلية تنتهي مع انتهاء حرب غزة.
ثالثاً؛ لا يستطيع أي عاقل أن يجزم بأن واشنطن نفسها تريد خنق حماس حد الموت والاجتثاث، بدليل الرسائل الأميركية التي وصلت وتصل للحركة عبر أطراف متعددة لفتح قنوات حوار مستقبلي، وهذه الرسائل كانت قد ترجمت قبيل “طوفان الأقصى” باجتماعات بين حماس الخارج وبين وكالة الاستخبارات الأميركية على أرض الدوحة.
رابعاً؛ لا يمكن اهمال مسألة الشراكة القطرية – الأميركية في ملفات متعددة، ولعل أبرزها الشراكة الحاصلة في إطار اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان والدور المعطى للدوحة على حساب فرنسا حتى وصل الأمر بواشنطن أن تحاول تقليم أظافر الفرنسيين، الأمر الذي أفضى إلى تأجيل زيارات الموفد الفرنسي جان ايف لودريان إلى بيروت، فيما الأجواء تتحدث عن عودة مرتقبة للموفد القطري جاسم آل ثاني والذي لا يتوانى عن تذكير كل من يلتقيهم في بيروت أنه على تنسيق مستمر ومباشر مع الأميركيين، وتحديداً مع جهاز مخابراتهم (سي آي إيه).
من هنا فإن الجواب على سؤال “هل تغادر حماس الدوحة” هو لا. الدوحة لن تفرط باستثمارها الاستراتيجي بحركة حماس ولن تسمح بإخراجها من المعادلة الإقليمية وبخاصة إذا ما كانت فكرة اقتراب الحلول قد حانت ببقاء حماس في المشهد ولو بالمواربة ومن خلف الكواليس، لأن القضية الفلسطينية مهما كانت خسائر الانخراط فيها، تبقى استثماراً “يُؤتي أُكله” ولو بعد حين.
لذا فإن الانفتاح التركي المتزايد على حماس والذي ترجم بزيارة إسماعيل هنية وخالد مشعل إلى إسطنبول ولقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لا يمكن وضعه في سياق حلول أنقرة بدلاً من الدوحة، لأن الدخول التركي لا يُزعج واشنطن بالضرورة طالما أنه لا يتجاوز حدود الموقف السياسي ويخلق وسائل تأثير أخرى على حماس للتوصل إلى تسوية لإنهاء الحرب، وعليه فإن الموقف التركي من حركة حماس يخدم الاتجاهات الأساسية للسياسة الثابتة للسياسة التركية في لعبة النفوذ الإقليمي وخاصة في ظل المفاوضات الأميركية – الإيرانية.
في النهاية، تُحتم الواقعية السياسية على طرف مفاوض أن يجلس مع حماس وأن يصل معها لتفاهمات تخفف من التوترات وتخلق أطراً حوارية، من هذا المنطلق ومع الانكفاء السعودي وحالة العداء التي تبديها دول عربية وإقليمية أخرى للحركة، لا بديل عن قطر في الحوارات والحدائق الخلفية، ولا يمكن أيضاً وقف اندفاعة أردوغان الأخيرة طالما أن أبوابه مشرّعة شرقاً وغرباً.