خلال أقل من عشرة أيام، اندلعت سلسلة من الاشتباكات المسلحة على رقعة جغرافية تمتد بين عفرين ومدينتي الباب وجرابلس في أرياف حلب الشمالية والشرقية وصولاً إلى رأس العين في ريف الحسكة. لكن هذا التباعد على الخريطة كان يجمعه قاسم مشترك واحد هو أن جميع الفصائل المتقاتلة في ما بينها يُفترض أنها مدعومة من قبل أنقرة وتتبع ما يسمى “الجيش الوطني” الذي أحدثته الأخيرة تحت راية “الحكومة المؤقتة” التابعة للائتلاف السوري المعارض.
ورغم أن فصيل “احرار الشرقية” كان بطل الاشتباكات السابقة بلا منازع، حيث كان طرفاً في كل منها ضد فصيل أو فصائل أخرى اختلفت هويتها باختلاف المنطقة التي وقع فيها الاشتباك، فإنه من السابق لأوانه – كما ذهبت بعض التحليلات- القول بأن كلمة السر قد وصلت من أنقرة لانهاء الفصيل والتخلص منه.
وبدأت موجة العنف الحالية، ضمن حالة الفوضى المزمنة التي تواجهها مناطق الاحتلال التركي، في مدينة رأس العين (من أهم مناطق عملية نبع السلام التركية) التي شهدت يوم 27 آذار/مارس اشتباكات عنيفة بين “أحرار الشرقية” من جهة و”الفرقة 20″ من جهة ثانية، وذلك امتداداً لخلافات سابقة بين الفصيلين منذ كانون الثاني/يناير على خلفية اتهامات وجهها “أحرار الشرقية” لغريمه بتسهيل إدخال سيارة مفخخة استهدفت أحد مواقعه في مدينة سلوك بريف الرقة في وقت سابق.
وسارعت مدينة الباب (وهي مركز مناطق درع الفرات) بعد يومين فقط للالتحاق بركب موجة العنف عبر خلافات انتهت بمقتل المسؤول الأمني في “أحرار الشرقية” المعروف باسم أبو رسول واسمه الحقيقي عليوي الصياح.
ورغم التفجير الضخم الذي هز أرجاءها، الأسبوع المنصرم، موقعاً ما يقارب الستين قتيلاً، فإن مدينة عفرين لم تستطع إلا أن تواكب التطورات الأخيرة عبر تصعيد عسكري بين فصيلي “أحرار الشرقية” و “السلطان مراد” وذلك على خلفية خلافاتهما حول أحقية أي طرف للاستيلاء على السوق الشعبي الذي كان هدف التفجير المأساوي. وما زالت حالة الاحتقان سائدة بين الفصيلين منذ أسبوع تقريباً برغم الاجراءات الأمنية المشددة التي اتخذتها قوات الاحتلال التركي على خلفية التفجير الأخير.
لكن الحدث الأهم وسط هذه السلسة المتنقلة من الاشتباكات، كان ما حصل في مدينة جرابلس الحدودية مع تركيا والواقعة شمال شرق مدينة منبج المتنازع عليها بين عدة أطراف محلية ودولية. فقد اندلعت اشتباكات عنيفة بين فصيل “أحرار الشرقية” من جهة و”الشرطة العسكرية” المدربة من قبل أنقرة وذلك على خلفية حادث جرى على معبر عون الدادات بين جرابلس ومنبج. وتمثل الحادث في قيام عنصر من “أحرار الشرقية” بقتل أبو عبيدة أحد قادة الفرقة التاسعة التابعة لما يسمى “الجيش الوطني” أثناء مروره من معبر عون الدادات، وذلك انتقاماً لمقتل ابن عمه على يد هذا الشخص في وقت سابق.
وسرعان ما اندلعت اشتباكات بين جماعات من “أحرار الشرقية” والشرطة العسكرية التي كانت تسعى للتحقيق في مقتل القيادي أبو عبيدة. وتحولت الاشتباكات إلى مواجهات واسعة تدخلت فيها فصائل أخرى أهمها “جيش الاسلام” إلى جانب الشرطة العسكرية و “أنصار الشرقية” و”أجناد الشرقية” إلى جانب “أحرار الشرقية”.
وليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها مناطق الاحتلال التركي موجات عنف مشابهة لما حصل خلال الآونة الأخيرة، بل أصبح الفلتان الأمني والفوضى المزمنة وحالات الاقتتال الداخلي والتنافس بالمفخخات والعبوات الناسفة من أهم سمات المناطق التي تحتلها أنقرة. كذلك فإن “أحرار الشرقية” كان على الدوام بطل هذه الاقتتالات ونقطة التقاطع التي تجتمع عندها جميع الخلافات قبل أن تنفجر في جولات متعاقبة من العنف.
أصبح الفلتان الأمني والفوضى المزمنة وحالات الاقتتال الداخلي والتنافس بالمفخخات والعبوات الناسفة من أهم سمات المناطق التي تحتلها أنقرة
وعلى سبيل المثال، تكررت نفس سلسلة الاشتباكات الحالية خلال العام 2018. ففي مدينة عفرين في شهر تشرين الثاني/نوفمبر حصلت خلافات بين “جيش الاسلام” و”أحرار الشرقية” غير أن الطرفين جراء ضغوط معينة ولأن “جيش الاسلام” كان حديث الوصل إلى المنطقة بعد إجلائه عن الغوطة الشرقية، فإن الخلافات لم تتطور إلى اشتباك مسلح. وفي الشهر ذاته أعلن ما يسمى “الجيش الوطني” حظر التجوال في ثلاث مدن أهمها مدينة جرابلس وذلك على خلفية حملة لتطهير المدينة من الجماعات الفاسدة والتي كان يفترض أن يكون “احرار الشرقية” على رأسها في ذلك الوقت. وكانت مدينة الباب قد شهدت في ذلك العام اشتباكات واسعة جراء الخلاف الذي حصل بين “أحرار الشرقية” وعائلة “واكي” أحد أكبر عائلات المدينة. وفي ذلك الحين ساد اعتقاد أن هذه الخلافات ما هي إلا امتداد للاشتباك المسلح الذي حصل بين “أحرار الشرقية” و”فرقة الحمزة” قبل ذلك بوقت قصير.
ويبدو أن الخلافات القديمة ما زالت مستمرة إلى اليوم وتتفجر بين الحين والآخر على شكل موجات عنف ضخمة قبل أن تهدأ استجابة لضغوط معينة إلى أن تراكم شحنات جديدة تمهيداً لانفجار جديد.
وواكبت موجة العنف الحالية حملةٌ إعلامية كبيرة ضد فصيل “أحرار الشرقية” متهمة إياه بالفساد وارتكاب جرائم خطف وابتزاز، ولكن الأهم والأكثر دلالة أن بعض الحملات الإعلامية ركزت على أن سبب الاشتباك المسلح المتنقل ضد هذا الفصيل هو رفضه الطلب التركي بإرسال مقاتلين إلى ليبيا، وأنه بسبب ذلك اتخذت أنقرة قراراً بإنهاء هذا الفصيل المتمرد على رغباتها وأوعزت إلى الفصائل المقربة منها تنفيذ المهمة حسب طريقتها وبعيداً عن اي تدخل تركي مباشر.
ويرى بعض المراقبين أن السبب الحقيقي وراء هذه الاشتباكات المتكررة ضد “أحرار الشرقية” والمستمرة بشكل متقطع منذ عام 2016 هو في الواقع خلاف مناطقي، وذلك لأن غالبية مقاتلي “أحرار الشرقية” من ابناء المحافظات الشرقية وخاصة محافظة ديرالزور، وقد اثار وصولهم إلى الشمال السوري في أعقاب هزيمة جبهة النصرة على يد مقاتلي “داعش” منتصف عام 2014 استياءً كبيراً في صفوف مقاتلي الفصائل الأخرى، وهو الأمر الذي يعبر عن نفسه بين الحين والآخر على شكل خلافات واشتباكات تهدف إلى إجبار الفصيل على المغادرة وإنهاء نفوذه.
وفي تعليق لافت كتب الناشط السوري المعارض وائل عبدالعزيز، وكان من أنصار “جيش الاسلام” ومؤيديه، أن “تصوير المشكلة في درع الفرات وعفرين وكامل المنطقة شرق وشمال حلب على أنها داخلية فقط هو أمر غير دقيق” وتابع قائلاً “هناك إرادة خارجية تركية تريد استمرار الفوضى والانفلات الأمني”، وقد كان تفسيره لهذه الإرادة التركية بأن “أنقرة تريد محاربة القوى الوطنية كيانات وأفراد ودعم قطاع الطرق واللصوص كقادة وخلق مشاكل عرقية على حساب ما هو وطني” مشيراً أن كل ذلك يحصل “برعاية تركية”.
من مصلحة أنقرة أن تتعمق التناقضات بين الفصائل ويتسع الشرخ في علاقاتها ومصالحها كي تظل أنقرة المرجعية الوحيدة
بناء على ذلك يبدو من السابق لأوانه التكهن بأن أنقرة تريد التخلص بالفعل من فصيل “احرار الشرقية” لذلك حرضت باقي الفصائل ضده. بل الأرجح أن من مصلحة أنقرة أن تتعمق التناقضات بين الفصائل ويتسع الشرخ في علاقاتها ومصالحها كي تظل أنقرة المرجعية الوحيدة التي لا يمكن لأي فصيل الخروج عن إرادتها أو الاستغناء عن تدخلها لمصلحته في وقت الضيق والشدة. وتخاطر أنقرة في سبيل ذلك بإبقاء مناطق احتلالها عرضة للفلتان الأمني ولمظاهر الفوضى العارمة، لكنها على ما يبدو تقبل بتحمل ذلك مقابل بقاء زمام الأمور في يدها وكي لا يتكرر ضدها مشهد التمرد الذي تعيشه منطقة خفض التصعيد في إدلب جراء خلافاتها مع “جبهة النصرة” على فتح الطريق الدولي M4.
وما يعزز ما سبق أن فصيل “أحرار الشرقية” هو من الفصائل الأساسية في عملية “نبع السلام” التي اجتاحت من خلالها القوات التركية المنطقة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، وهو مشارك أيضاً في عمليات درع الفرات وغصن الزيتون. فهو حليف هام واساسي للقوات التركية في أبرز عملياتها في الداخل السوري لذلك من الصعب القول أن أنقرة يمكن أن تتخلص منه بجرة قلم. أما بالنسبة لتمرده على طلب إرسال مقاتلين إلى ليبيا فهذا أمر غير مثبت، ومن غير المستبعد في بعض القراءات أن أنقرة اساساً متمسكة بقادة وعناصر هذا الفصيل وضرورة بقائهم في سوريا وذلك لسبب بسيط أنهم يعتبرون قوات “قسد” عدواً اساسياً لهم ويسعون لتحرير مناطقهم في ديرالزور والحسكة من سيطرتهم، وهو ما يتلاقى مع الأهداف التركية بشكل أو بآخر.